بتـــــاريخ : 11/21/2008 6:57:22 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1683 0


    البهية تتزين لجلادها

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : الحبيب السائح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    الموكب الجنائزي كبير بعدد سياراته، وأنا وحيد منعزل، ضخم بأعداد المعزين، أنتظر قدري، مهيب بإطباق صمته، وكل شيء في داخلي يرجل، آخره يندفع عند مجموعة البيوت الواطئة في سفح الجبل المحمر الكف، ثمة سكنت أختي ذات زمن، جاء الاستقلال ولا أعلم حيث قبرها، ووسطه يزحف على غمي، بين صفي شجر اللوز النافض، لم يعد يجلي نواره، ونهايته تفيض مثل الحزن في قلبي، عند مدخل المقبرة، أختي ليست تسكنها وإلا كانت أمي زارتها، منتظرة بمدفنها الفاغر إلى السماء قيامة حين أقنط من أي رحمة، منذ يوم وليلة وحجرتا الصفاح على طرفيه ذراعان كسلام مريم، قبل اليوم بحثت عن شاهدة تحمل اسم أختي، ماتت أو قتلت أو استشهدت قبل أن يدخل الرخام المقبرة، تنتظران جسداً نهشت رشاشات الكلاشنيكوف من صدره وبطنه، وأنا يحسك أمعائي خوف جبان، قبل أن يطلق عصفة واحدة من مسدسه الرشاش، إذ باغتته النيران، فتهاوي من باب الشاحنة رأسه إلى الأسفل، تستعيد المؤسسة المنهوبة شاحنتها وأعاين ثقوب الرصاص، يسبقه دمه إلى الأرض، وجدت الإسفلت عاف أي شراب، لم تصرخ أمه، وأمي أنا تحدثني أبداً كيف لم تعد أختي من بيتها أو إليه، وصرت أكره زوجها الذي أعرفه، في غرفة حفظ الجثث، ولا أكدت هويته، وفي المدرسة ذكر الأطفال اسمه، ونسيت أن لي أختاً صغرى ماتت قبل أن أعرفها، منكرة وجها اختفى منه الابن أمام الدركي، صفعني طفلاً أمام المسجد وكنت ماراً، لا أعلم أنهم كانوا يحققون في جريمة قتل، فانتحيت زاوية وراقبت من صفعني، النار لا تمحوه من ذاكرتي، والتفتت إلى الجدار المزلج باحثة عن وجه ابنها المقتول، قد يكون لوجه أختي فتنة ظالمة، في اختفائها سر الغواية، مولية الدركي يتفرس الوجه البارد، برودة خوفي، يمعضه نظرات موغلة في سكينته عن ثلاثة من الرفاق، لا أحملهم انهزاماتي، كانت يداه الملقاتان بلا اتجاه قد فتلتهم مرة واحدة، وأنا أنتظر الفورة وضربة أمي على قاع الكسكاس المقلوب في القصعة لأخطف الكعبوش حامياً، وأخرج، في سيارتهم يوم سوق القرية، عند جدار المدرسة، والتفت إلى أصحابه فأقدموا، لأعلم أن دم أختي سال ثلاث مرات، وحزنت، إذ انتشلوا من دمهم أسلحتهم، وأوغلوا فيهم، وتداري أمي عني من نكلها في أختي، ابتهاجاً، ثم أقاموا عرس الرصاص قبل أن يغادروا إلى الجبال، ولم يخلف التلاميذ إنشاد حفظ العلم، حيث يراه الدركي، كما كنت أرقب من زاويتي شادا على ألمي في خدي، صامتاً بارداً كان قد وقف على أولئك الثلاثة في الصمت نفسه، الفرق أن أختي تكون قد ووريت التراب بملابسها، بالبرودة ذاتها على جباههم وفي صدورهم ثخون الرصاص، وعلى الشاشة أشاهد مراسل التلفزيون يعلق على مشهدية الموكب. مهيب، والموقف رائع بحزنه، لا يفوق حزني، وهو يقطع وسط المدينة، والكلمات التي تترجرج تأبيناً تنبت شعراً في قلبي يشتعل دمعاً ليس للرجال الحاضرين، في المقبرة أن يكفكفوه، لم يبك أختي أحد، ليس من صفات الله الحنان؟ وأبو الضحية القعيد في كرسيه المتحرك مجلل بشهامة الفرسان المغدروين، حلمت بحمل سيف من ذهب، ولما ركبت فرسنا انتعظت، "أستغفر الله" قوة يسحق بها لحظات القنوط، طيلة مراسم الدفن التي قدمت خلالها فرقة من الجيش سلاح التحية، رفعت بعدها الفاتحة، فمن ابن أختي؟ ومن تلا الفاتحة وهل رفعت؟ وكنت عاهدت أمي أن أقيم لها صلاة الغائبة، لينصرف المعزون يحنون رؤوسهم لتوه حاصب، وفي مدينتي للموت رائحة الكافور ونغم أجراس الكنائس المسائية وتراتيل ضحي الجمعات، وله هوسي وانقهاري، فقد كان يلزم أباه شجاعة أولئك الفرسان، في لحظة الوهن، كيما يؤكد للدركي وللطبيب الشرعي والقاضي هوية ابنه إذ كشف له عن وجهه المسفوح بصفرة الليمون، ولا لون أقدر للحظة موت أختي، لا ميلاد لها في دفترنا العائلي، لا تاريخ وفاة، فتمتم ليركب شروده إلى المقبرة، حيث رفع يديه، مردداً الفاتحة كالمعزين، وولى، بعد حين، صحبتهم، يخجل عيونهم أسف، كي يأتي، ثانية، على أمي حين من القهر يمنعها أن تكون أختي خلقاً مذكوراً، ألملم النثارات في شبكة وجودي من خوفي ومن الموت لينحصر الإقبار واحداً في مكان مختلف، تحت سماء واحدة، في أرض لها رائحتي، أمتد فيها دفئاً لتربتها، يسيران، نسير لرب واحد من أبواب متفرقة.‏

    ومن دفنوا قبل شهر في مقابر محيطة بمدينتي المنهكة الهلوع يكون رأى وجوههم تحت جنح الليل إذ جاءهم بغتة وهم آمنون، ولا أعلم كيف جاءوا أختي، أليلا أم نهاراً، وقد سدت بقية أصحابه المسلحين منافذ القرية، ولكن أختي كانت تسكن دواراً في سفح الجبل، واحداً واحداً، في أزمنتي المختلفة، في أمكنتي المتباعدة، بفزعهم نفسه، برؤيتهم الموت رعشة وعينا، ما الذي رأت أختي في يد جلادها، كيف نظرت إلى ربها، أي رعدة هيأتها؟ لبرودة النصل، لخرس الحديد الأسود فاغر الفوهة، ناراً، والموت واحد، بالحياة تأخذ في العين مدى ملوناً، أتصور أختي بوجه مثل نوار الربيع، وبجسد من رشاقة ريم، وفي القلب مذاق معسل، وكلهم لا يجاب عن سؤاله المائج به، اللاهث وراء الله، وما قالته عينا أختي لحظة تمزق الشعرة لجلادها. أحقرك، ثم الحرحرة، وبحة الآه، فالصمت، فانكسار الجلاد أمام الجثة العادنة في دمها، حمامة هي أختي طارت من بين أنفاس جلادها كيلا تشعره بألمها، فيصيح بوم وتخنق امرأة في الظلمة شهقة غبن، وأمي غابت يوما ثم عادت بلا كحل في عينيها، وإلى السماء يرفع عجوز بصره، إلى سماء صفت نجومها ترصيعاً يترجرج، كما أتوهم أختي إذ تمشي في عباءتها المسرورة بقوامها وفرحة العقد على جيدها عيد، فتميد به قدماه فيتهاوى، وفي الفضاء الواسع تغيب أصوات طلقات تحبل الليل رعباً، لو كانت أختي خلفت كنت خالاً، يتولد حزناً مشلولاً يحفر لغد قبوراً، وما تجرأت أن أسأل أمي عن قبر أختي، تتظاهر هنا وهناك، فتستعصي علي الحيلة أن أقبر في ذاتي شوقاً إلى وجه أختي تكون ذكرتني، وكنت طفلاً، ذات يوم إذ كبلت يداها إلى ظهرها، ونفضت عن ذراعها العارية يد جلادها، فأستسلم منيباً إلى قضائي احتماء به من هوس مخلخل، يريني جلدتي عورتي، واسمي خزيي، ومدينتي عاري، وهذه السماء غمي، وأختي همي، وتراب الأرض هذه معدن في قدمي، أبرئني من صفة ومن نسب، ومن هوية ومن وجود ليست حياتي جديرة بهما، يرميني في لجة ماضي، تمتصني إلى سحقها، فإذا عدت فإنما لأسير علامة شهادة على إنسان من جنس يؤدي آخر فعل له في مدى انهياره، وإن أصبحت على عادتي تشبثت بصمتي أطحن ألمي في أحشائي، وعلقت ما تبقى من أشطاب كرامتي، أمتضغ وجعي وأمني نفسي بشعرة قد لا تمتد لي أبداً، لئلا أتهاوى فأتحلحل فأعفر، وأحدثني. لا بد لك من أن ترفع احتجاجك على شوك كلماتك، وتضرب بعزلتك، وتهجر إلى وحدتك. فهو قدري أني جئت هذا الزمان الكنود أبغي عزته المفقودة، وتسقط رأسي في هذه المدينة الجحود أريد لها أن تكون إياي، فأرعب، أرهب، وأعزل من كل شيء عن أي شيء، حتى لا سبيل تبدو في أفقي، والمطالع مغلقة، كلها منشطر لأطفال، لأم، لأمي ترميها أخبار الموت تفاصيل تجد فيها لوعة بصورة ابنتها المغدورة، أختي المقتولة، لوجه ابنها الشهيد، نفد حبر الشهادة، لا سجل يفتح، لا دفن بلا تغسيل، أكابر والرصيد فارغ تماماً إلا مما راكمه لي اعتدادي، أضيق بمن حولي، أكبر من ماتوا قتلاً، أو مرضاً، أو هجروا، أو جنوا، أو حسموا ترددهم، وأغبط الذين لم يولدوا بعد، والذين لن يروا نور ظلمتي أبداً في هذه المدينة المخبولة، يقدد كبدي أن أشهد وجه الهمجية وأراني حيالها أوهن من خيط عنكبوت، أنا الذي توهمتني، ربع قرن من حياة مهدرة، بزغب عصفور هذه المدينة، لأرقب حالي، فلا ريش ولا جناحان، ولا ستر في وجود لا يتوب عن خطاياه، عار من كرامته، وأنا أبحث عن شعري في ركامه المنثور، مسكين، ومذل في ضميري، وإنه ليبصرني بعيون في شارع غربتي، في المقهى المؤجج، في القبرة الكالحة، لا أعلم أي فصل حوى أختي إلى عمق تربته، في الحافلة المهووسة، تسومني نظرات الإقبار غلا يتعجل محقي فتستريح في قضاء نحبي وتتقاطع علي ألسنة تستبق دخولي الجحيم وتستعير لي من أهله صورة الخالدين، ويكظم القلب فيهم أن لم تغيبني متاهة المعمعة المدماة، يستكثرون علي هوائي، ويلمون أصابع أيديهم على الحديد ناراً أو حزاً. قتلت أختي أو ماتت، أو استشهدت، لم يكن الموت هو الظلم، وإنك لتقسم لربك ذي العزة الذي تحسبه ولى عنك وعن مدينتك أن في تلك الوجوه رايات مستنفرة للاحتفاء في دمك بنحرك، أنا الذي لا يقوى على حز عنق دجاجة، وإني لا جتثثت جذور نيتي كيلا أوهم أن المدينة ستبكيني، الجحود كبشرها، المجحفة كزمنها، هي وبشرها، كلاهما يذهب ألمه بنومة عميقة فينشطب من ذاكرته الطحلبية ما تبقى من وجه كريم، ويحلمان بخنجر مدبب ومسدس رشاش، ويظمآن لنخب من دم، ومجد على جثة عزلاء، والمؤكد أن أختي قتلها جمالها، وجني جاه من مؤتمر بالإثم، المفتى له، كلاهما في ذاكرتي لأختي شاحذاً عزيمته لحرب شاملة.‏

    قال الحكيم. الموارى في مقبرة جده، ومقبرتنا تنتظر نقل رفات أختي ثرى يخصب نسيانها، فتى أهلكه وازع أركبه إليه ضيم، وقلده إياه عدة، بيده يغير ما أمهلت فيه السماء، والموارى في مقبرة الشهداء، وتلك الأخرى عن أختي تغفل، فتى أغوته عزة هيأت له المدينة حبيبة، دمه دون عرضها، وكلماتي لأختي استرداد شرف مغصوب، وبين الوازع وبين الحبيبة مسافتي أنا المقصى، ومقبرة الجد، كما مقبرة الشهداء، تستقبلان شاهدي الواحدية، أرضاً وربا فيما بقيت أختي بين البرزخين، لا تردان مختصميهما في ثديها، وتمتصان، تنتظران معصوفات هوس الجنون، كالحتي الطلعة، كما أمي إذا غادرت البيت صحبة صهرها، بحثاً عن ظل للّه يغمر جمعي الموكبين، يعودون بهشاشة الأمل في ألا يدفنوا موتاهم غدراً وثأراً، كذلك تنكتب لأختي. وقال الحكيم. الشهداء لا يغسلون، هم الحياة، ولا تتلى عليهم الآيات، هم الشفاعة.‏

    في رأس الجبل المطل على الدوار يكون أمير المسلحين بمنظاره الميداني راقب حركة الموكب المبعثرة إذ بدأ يغادر المقبرة، فأصدر أمره بإطلاق رصاصة، هي التي سلبت أختي بهجتها، أو حبل، أو خنجر، كانت السماء لها برداً، ليطير حمام ويمام وعصافير، وتفزع أرانب، ثم يتقدمهم في النزول، كانت أختي تسكن في سفح الجبل، في يومها، تحت أولى ظلمة، يستعيد تشظيات لحظة الاشتباك الخاطفة المباغتة، وردات تهليل أصم في أذنيه، أخرس على لسانه كما جلاد أختي يصعقه جسدها البض يغصبه أجل التنفيذ والشاهدان واقفين، كيلا يغتصبها، وقد يكون عاد لينبش فيه عن حرارة باقية فيها، تنثره عصفات الرشاشات، فانسحبوا فراراً، وفي المدينة ركبت الأخبار جيادها الهوجاء. خمسة قتلى مرة، قتيل وأربعة جرحى مرة ثانية، وإنذار خاطئ، وآخرها اشتباك بين قوات الأمن خطأ، وخبر أختي لم يتعد أمي، فامتصها الليل، ليجيء الصباح بالمصاب ميتا فتناقلته حمامات النساء حكا، والمقاهي رشفا ولوكا، وحيث تسكن أختي لا حمّام عمومي ولا قهوة، والسوق الإسبوعية بعيدة مشية نهار، العصافير وحدها تناقلت هول الوقيعة، والموظفون والعاطلون شائعة والمنتظرون عند شبابيك الضمان الاجتماعي والمنح والتقاعد حكاية أذن لأذن، وفي نادي الطلبة، لم يقرأ طالب على أختي في المقبرة، لأنه لا يعرف لأختي قبر، يقال إن فرقة الأمن التي قتلته احتفلت بالثأر منه لثلاثة من أعضائها، وأختي وحيدة في جوف الصمت والجلاد والشاهدين، قندولة مزهوة، وفي مقر القيادة العسكرية تلكس الضابط نصاً يقول إن منفذ عملية اغتيال العسكريين الثلاثة العزل من صف ضباط الخدمة الوطنية عند حائط البلدية قضي عليه، وأمي تتحاشى أن تخبرني، بل أن تحدثني كيف لم تعد أختي إلى بيتنا منذ ثلاثين عاماً، وأبرق الوالي إلى الداخلية أن مخطط عمليات النهب والتخريب التي طالت المنشآت والمؤسسات، ومنفذ عملية اغتيال ثلاثة مواطنين في الضاحية، تمكنت منه قوى الأمن، وفي القاعدة المموهة في غابة الجبل وصل خبر اليقين، أنا ارتيابي لا يلبث أن يعود إلي في كل أنواع الموت، ومراسم الدفن فصلاً من ملهاة هابيل ولكن أمي تتطير من لون الغراب ومن نعبه، ويوم حط على لوزتنا خريفاً طاردته بالحجارة، ولا أعلم من وارى سوءة أختي، فينشبني قلقي على فرع متيبس من شجرة وجودي الخاوية العجز، الناشفة الجذور في تربة مدينة لا تستطعم لي ملحاً، أو ترضى عني وداً، يؤرقني أن قرينتي تتلوم علي في الفراش إذ أهجر لها جماعاً برغم المدفأة والغطاء وحرارة حمامها، وكأس شرابي النارية، لو كان جلاد أختي علم ما الوسكي لنحر الشاهدين، ولكان صهر أمي نطق لأختي بسر الحمامتين، ولا شيء يتحفز في، في قلبي صقيع، واشتعال من الهواجس يأكلني، لا أملك لدفعه ترسا، وكانت أمي عادت مساء فشربت قهوة كحلة بالشيح ونامت، أحسني تكتلت، ماء حمام معدني لا يطلق في انقباضاتي، أتوضأ مرة ومرة لوقت واحد، وكلا المدفونين في كلتا المقبرتين حظي بصلاة جنازته والدعاء له، وكنت سأسأل أمي هل توضأت أختي قبل دخلتها، وهل.. أجدني في كل مرة تشككت في نسيان فريضة، وأصلي فأراني، في القيام، غائباً عن ربي، باحثاً عن لون نعمة ليدي أختي، لا أضبط كم ركعة أديت، تغثيني مشاهد الدم كلها، ويطوحني الصراخ والعويل، وبقايا النيران، هي لرجلي جلاد أختي عاريتين، ووجوه بلا زمن، وأجساد مسجاة، ووجه أختي سجى قمر ليلها وذاب بين أصابع الجلاد، والمعلق حشرجت صوته غصة الموت، ينكبت لئلا تطل الدمعتان، ووجه امرأة مفجوعة في ابنها الذي التحق بالجبل تترقب لحظة الخبر القاضي يخلخلني انفجار عروس لم تربط حنتها تخرج على المعرسات المعزيات. بركات، بركات، كان هنا وما كانشي، ها حايه.. ها حايه، ويا حوجي.‏

    لا أحب القهوة بالشيح، نمت، ولم أسمع أمي إن كانت ندبت ليلاً، ضاربة على صدرها، ناهلة وجهها، تأكل شعرها وتمزق عباءتها، معلية ذراعيها فمتهاوية كشجرة حزت، ومنذ ذلك لم تثمر لوزتنا، وبقي صوت الغراب في أذني غقيق موت، وأبحث عن وجه فيه بقية من سلام، هي نائمة أختاً لي حتى مقام دمها، فلا يقابلني غير السحق، التفت إلى ربي، يقبسني قدسيه، حرمت على نفسي الظلم، فأصرخ. ياللّه! فيأتيني صوت أختي رجعاً يهوي ليلها الأخير. يا اللّه! وفي صمتي أغيب في كأس نبيذ، كالعادة صبحا يقول المذيع أمنياً، علمنا من مصادر أمنية أنه تم القضاء على عشرين مسلحاً في مناطق متفرقة من الوطن، كما علمنا أنه تم اغتيال عشرة مواطنين، من بينهم عون أمن ودركي وقاض وصحفي ومجاهد.. فتتورم في صدري غصة العجز عن أن أقول شيئاً، وأكذب ذاتي كلما ادعت شجاعة على البوح إلي بما كان يتهيج في سريرتي، لأني لم أعد أملك الكلمات التي أصف بها واقعي المنهار، دينا لدم أختي، مثقل باعتدادي، مقعد بخيبة جرأتي في، أسائلني أدمي مثل دم أختي، مثل دم المدفونين يجري في شراييني؟ النار، هذا الذي غاب عن جلاد أختي، تجري في دمها بهاء، أحدثني في لحظات ضلالي عن أن رفع السلاح قمة الجنون، ولم يرو أحد عن جلاد أختي أضحك أم صرخ أم عوى بعد أن تذكر أنه قيل له لما تردد. أنت تجاهد.. وأحس بسمة أختي المحتقرة إهانة فهوى. كالأمير قال لفتاة. الله يقبل بضاعتك فبعه، وغادروا دمه على الإسفلت، وعدت أنا إلى ذاتي المقهورة بصوت الدم، علني أحسم، لا طائل، أمر ألا أراني قطعة في دولاب، يديرني بلا مقاومة، فأغرب في مدينة تأكل الصقور من كبدها، ولكني أرحل في أساطير الأولين أستعير لها بدلاً، فإذا ما قاربت نشب كبدي خبر الموت الجديد، فيضيع من ذهني التموضع. الشرق والغرب سيان، والشمال والجنوب فقدت فيهما البرودة والحرارة، وهرشمت بوصلتي على صخرة حماقة المدينة، وما عاد العام الجديد ذا بال في أيامي، أن يجد أو لا يجد، فمنتظري وهم، والموت اليومي حق، واغتصاب زهرة أختي حق، وحق هو الخوف من الفرح، والخوف حقيقة مخجلة، لم أخلق لأي إسعاد، نامت أمي بلا عشاء، وعادت تستحيي أن تكحل عينيها، وأختي يجب أن تكون فائقة الجمال، بهية تزينت لجلادها. بسمة مربكة، وحرحرة محرقة، وإسدالة عميقة. وفي الشارع أتجسد سراب زهو يغيظ المتربصين، يباكيهم على مصير إنسانيتهم المتبقية في عورة وسوءة، فأسر إلى ربي. منذ نيف وأربعة عشر قرناً أنوء بانقهاري، وفي كل حول أنتظر نجمي، لعيني أختي بعده في ألهناك، فلا يستجيب، وعند الآخرين ليل ونهار، نجوم وأقمار، وجحيم في الأنوار، وقوة وبطش وغطرسة، ومتاع دنيا وحال وأعياد للفرح، وحلم بالآتي، وموت وحياة، وغد في الآفاق، فتصدق علي كلمات ربي. لأنبذن في الحطمة. ولكن كلاهما استراح، الأول في مقبرة جده، والأول في مقبرة الشهداء، لم تعرف أختي لجلادها سحنة مجاهد أطعمته خبز قمح وعسلا وحليبا، وتبسمت بمحق، وقال معلق التلفزيون. لن يكون أول شهداء واجب الجهاد الأكبر، وفي الموكب العائد نثارا عبر الطريق المترب همس معز في أذن الشيخ المحبط. ولدك مجاهد، مات شهيداً وأختي تنتظر صفة تعلم أني أرصعها لها من فوق الجهاد ومن فوق الشهادة دمعة دم للاغتصاب، أقرب الخيط بيني وبين أمي، لا أقوى على نشبه في سم الخياط، فيبرح الأول والأول ثقب الإبرة، وألفاني قاعدا فيه وكانا أدخلا خيطهما فلم أمسكه، وأخرجاه فلم أمده، فرحا بلا ريب، وحزنت بالتأكيد كله، للطالب هو، وللأستاذ الآخر، ووري كلاهما تراباً واحداً، ضحك التراب، قهقهت الحماقة، وبكى قمر أختي ليلتها، وهوت نجمة، ولم أفق، لعل أمي ندبت، ليتني كنت خرجت إلى حوشنا أرقب مسرى أختي إلى نجمتنا، بالتشهيد غسلا، وعلى نعش حملا، وبالتكبير دفنا، وليلا بالقرآن ذكرا، ماتا أو قتلا، أمي تعبت وأنا كلماتي عقرت، ولكن مسرى أختي، كما رأيت البارحة، تراصيعه ضوئت. أبصر الأول في الأول صورة الثاني في الأول، عورة تاريخ لحاضر سافر من أي لباس، وأنا ستر أختي ووجه أمي، يتنازعان تاريخاً وعصراً، أخجل من صورتيهما تستغيثان بي، فلا أرد لأيهما على ندبة، أغني أختي كلمة برائحة العرعار في معبر حزني إلى أمي، بلا كحل، يلاحقني عجزي قضاء، لعنات كافر في الشارع، وفي مكتبي، وخلل أكلي ومنامي، وفي صحوي المبنوج بهول الكركرة نحو قرارة السعير حيث رأيت فرسان الدمار تصطلي فتخرج ممسوخة وحوشا تضري جوعها في الدم البشري، أختي ليلتها، نهشت، والمقبرتان طوتا سر النهشتين، وأفيق على صوت أمي. رجعوا حاسرين بلا وجوه، والذيل بين الساقين.‏

    ضحك جلاد أختي أو قهقه أو صرخ، غير أن الرشاشات انتحبت نار دمع لدم كيما تنتشي الحماقة.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()