بتـــــاريخ : 11/18/2008 4:45:51 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1268 1


    إنها الخمسون

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : فخري قعوار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    هكذا استهل الكاتب المشاغب مقالته: "إنها الأربعون"، بمناسبة حلوله بالعقد الخامس من عمره المديد بإذن الواحد القهار، وذكر أنه دار مع الأرض حول الشمس أربعين مرة، ثم صعقني بعدد المرات التي دارها مع الأرض وهي تلف حول نفسها، وغبطته على مهارته في الرياضيات وعلى معلوماته الواسعة، التي تدل بلا ريب على أنه يتميز عن أبناء جيله، وعن كثيرين ممن سبقوه، بأنه يحفظ جدول الضرب، حين قال أنه داخ وهو يدور مع الأرض (14590) مرة، وأنه أفنى زهرة شبابه في دوران ليس له معنى، فلم يكبر، وبقي طفلاً يلعب "طاق طاق طاقية"!‏

    إنها أربعون المشاغب الأول "يوسف غيشان" التي أثار بها شجوني، ونكأ جروحي التي تكررت خمس مرات، وهي جروح عميقة، مثل جروح المحبين والعشاق، التي قال فيها أستاذ الجيل عمر العبد اللات إنها جروح لا تندمل ولا تشفى، بل تقتل صاحبها، وميز- أمد الله في عمره وأعطاه الصحة- بينها بين جروح السيوف، التي مهما كانت بليغة، فإنها سرعان ما تلتئم وتزول.‏

    ففي نهاية عقدي الأول جلست في الشارع مكتئباً، ووضعت يدي على خدي قبل أن أرى صورة أحمد شوقي الشهيرة، وتخيلت كم سأكون كبيراً حين أدخل عامي الحادي عشر، وتخيلت "ثقالة دم" المسؤوليات القادمة، مثل تقليص ساعات اللعب في الحارة والترفيع إلى الصف الأعلى بدون إكمال حساب، والذهاب مع الوالد لمعايدة الأقرباء والمعارف، والنظر إلى الأشياء الجميلة في منازلهم دون أن أكسر شيئاً واحداً منها، أو حتى التمعن بها! كما كان يتعين علي في العقد الثاني، أن أرتفع إلى مستوى التحديات أكثر من ذلك، مثل الشروع في مهمات جليلة كمراقبة نمو الشعر في المواقع المعروفة في الوجه، بانتظار وضع الرغوة الكثيفة عليه، وحلاقته بشفرة عتيدة ذات حدين، وتحسين أحوال الشارب، إن نما لدي اتجاه تربيته تحت أنفي! أما ما كان بحاجة لجرعات وفيرة من الصمود والتصدي، فهو الكف عن البكاء، والسيطرة على الغدد الدمعية، مع أنني لا أذكر أنني بكيت، إلا أن الرواة والشهود الذين انقرض عدد منهم، أكدوا لي أنني كنت أبكي، وأن غددي المشار إليها "شغالة"، لكنه بكاء بعيد عن أضواء العائلة وعيون الشامتين! وإذا لم تصدق الروايات، تكون قوة خفية ما، قد أجلت ذلك إلى عقدي الحالي، كي أبكي "على راحتي" على أحوالنا المثيرة لكل النزعات الدرامية في النفس البشرية!‏

    وفي نهاية عقدي الثاني، جلست على بوابة العشرين أكثر كآبة من أي يوم مضى، وبدأت اشعر بأنني مقبل على حرب ضروس، سوف تشهدها السنوات العشر المقبلة، كالدراسة الجامعية، ودخول معترك العمل، وربما معترك الزواج ومبارزة "البامبرز" اليومية، مما رغبني في البحث عن وسيلة توصلني إلى طفولتي البائدة، أيام كنت أرفع رأسي بإباء وشمم، وأضع يديَّ المضمومتي الأصابع إلى جانبي، وأنشد أمام المعلم: "يا مدارس يا مدارس، يا ما أكلنا ملبس خالص"، واستهوتني فكرة الوقوف الرشيق أمام معلمة الصف الأول الابتدائي، وأنا أحرك اليمنى في الهواء وأنشد على مسمع الصف كله: "هيك بطيروا العصافير"، وأضيف بغرض التلوين وأنا أمرر يدي على مقربة من خاصرة المعلمة: "هيك بسبحوا الأسماك"!‏

    وعندما وصلت إلى نهاية عقدي الثالث، شرعت في استعراض الأعمار التي توفى عنها كثيرون جداً ممن أعرفهم، سواء عن طريق صلة القربى، أو عن طريق الجيرة، فلاحظت أنهم ماتوا دون الستين، الأمر الذي يعني بالضرورة، أنني بلغت نصف عمري أو أكثر من النصف بقليل. ولا أظن أن أحداً في الدنيا، لا يوسف غيشان ولا غيره، يتعامل مع ظاهرة الشيب مثلما تعاملت معها، إذ كنت أعتقد في ذلك الوقت أن كل شيبة تعادل خشبة في النعش، ثم أجريت تعديلاً على هذا، أملته طبيعة تكاثر الشيب لاحقاً، فصارت كل شيبة تعادل مسماراً في النعش.. وعندما تبين لي خطأ اعتقادي الأول والثاني معاً، بسبب كثرة المسامير الفائضة عن الحاجة، صرت أقول لنفسي أن اكتمال بياض شعر رأس المرء يتزامن بالضرورة مع حتفه!‏

    وعندما ودعت عقد الثلاثينات، ومررت بمثل هذا اليوم الذي مررت به يا يوسف يا عيوني، لم أقل "تيتي تيتي كع كع" ولم أر في الأربعين سرداباً، لأن زميلاً محترماً، غيرك طبعاً، علمني أن أبتهج، معللاً ذلك، بأنني بلغت هذا العمر وأنا ما أزال أحيا! وأردف قائلاً: لكن المهم أن تعرف كيف تحيا!‏

    بعد هذا الدرس الذي علمني إياه صديق مقاتل في التعليم، وما يزال يفرح كلما أمضى عاماً إضافياً في الحياة، تعرفت على (شطة جريس أبو الزلف)، أشربها حمراء مثل سعير جهنم، إلى أن كف جريس عن بيع الشطة، فأرغمني على الامتناع عن التلذذ بنارها.‏

    هل أكتفي بهذا القدر أيها الفتى الصغير، الذي ما يزال يتأمل غسيل الجيران؟ هل أتوسط لك بعمل دائم له تأمين صحي، كي يصير لك رصيد، وكي تزول عنك الغموم والديون والهموم؟‏

    هل تريد مزيداً من "الفضائح"، وأن أكف عن الكلام المباح، وأشرح لك عن لهفتي التالية، في العقد اللاحق، لشطة أبو الزلف؟ وبالمناسبة، ما هي أخبار جريس؟ لماذا لا تدله على هاتفي كي يتصل بي؟‏

    لمزيد من التفاصيل حول وداعي للأربعينات، وحول مقالتي التالية التي سأجعل عنوانها "إنها الخمسون"، سوف أجري معك اتصالاً هاتفياً اليوم!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()