أعادوه إلى الغرفة العارية من جديد فوقف عبد الله بجسده المتعب وسط الغرفة يستردُّ حواسه التي طغى عليها الألم، ثلاثة أيام وهم يحاولون إفراغ مافي رأسه لكنّ الكلمات كانت تُمعن هرباً في زوايا قلبه كلما وهن الجسم من الآلام، أحسّ كأنّ رأسه مضغوط بين جدارين من الإسمنت فتراجع إلى الخلف متلمساً الجدار وهو يهتدي بضوء النافذة العالية في زنزانته ثم أسند ظهره إلى الجدار.. ما أجمل أن يريح المرء ظهره إلى مسند أمين، أراحته برودة الإسمنت وهي تسري إلى جسده عبر القميص الممزق فأغمض عينيه وألقى برأسه إلى الخلف،(سنفرغ ما في رأسك.. اختصر العذاب والآلام.. نحن نعرف كلّ شيء عنك ونعرف ماستقوله ولكن يجب أن نفرغ ما في رأسك.. سنعود إلى جسدك دائماً ونحطم هذا الرأس الصخري الذي صار يستهوينا تمزيقه..) فتح عينيه ودار ببصره في جدران الغرفة التي امتلأت بكتابات ورسوم مَنْ سبقه من رفاقه.. تمنى لو يمسك بأيديهم ويقبلهم ويسأل هذه الأيدي التي كتبت ورسمت كيف صبرت على الآلام والعذاب.. رفع بصره إلى النافذة.. كانت السماء زرقاء قاحلة تغطيها قضبان النافذة الحديدية كسياط جلدية.. سيعودون إلى جسدك يا عبد الله من جديد.. تمنى لو تحول جسده إلى كتلة من الصخر والفولاذ تهزأ بضربات الجلادين ولكن الجسد غداً طيناً متعباً.....
انفرج باب الزنزانة فجأة عن رجلين حطّم صياحهما كل شيء... بصقا صاحا.. شتما.. تردّد صوتهما في كهوف حجرية ووديان مليئة بالعظام وارتدّ الصوت من جدار إلى جدار فهرب عبد الله يركض يركض في صحراء قاحلة تعانق بصره عن بعد واحةٌ خضراء تشع أمناً وحباً.. لكنّ عواء الذئب المطارد يمخر أذنيه.. يقترب... يقترب وبدأت ألسنة مخاطية تلعق ساقيه وتنهش أنيابٌ مسمومة لحمه واستحال وجه الشمس عيناً دامية.... اقترب أحد الجلادين بوجهه الإسفنجي ثم فتح فاه وأغلقه فتشققت أرض رمادية عطشى وارتفعت في رقبة الجلاد كرة لحمية كأفعى الكوبرا واشتد فحيحه فاقترب الآخر وهو يزيح رفيقه عن الجسد الوليمة وهوى بيده المعروقة الصفراء على وجه عبد الله فتأرجح لهب أزرق في عينيه واستمرت يد الجلاد في عملها تدفع رأس عبد الله إلى الجدار ممسكة بشعره ثم طرقته في الجدار الإسمنتي، طرقته مراراً فاختلط الجدار والشعر والدم.. وبدأت الطبول تدوي في أذنية لمح قباباً عالية لمساجد وكنائس وشاهد حّدادَين ينهالان بمطارقهما على قطعة حديد كالجمر... ارتفع صوت أحد الجلادين -سنفرغ مافي رأسك- تذكر عبد الله مرة أنه أفرغ حصالة طفلته ليأخذها إلى طبيب مشهور وبعد أيام لم تستطع أية نقود أن تعيد لابنته الفرحة الأولى بحصالتها بعد أن هتك سرها...
الجدار قاس ويد الجلاد الملساء الذابلة كأفعى ميتة تدق الرأس بانتظام وجسم عبد الله صار ثقيلاً وشعر أن ساقيه الآن من طين متعب فانسحب بجسده على الجدار إلى الأسفل شيئاً فشيئاً
توقف الجلاد... تراجع إلى الخلف قليلاً ناظراً إلى ساعته ثم انحنى على الأرض مسح حذاءه الأبيض اللامع.. شعر عبد الله بسخونة في مؤخرة رأسه وبسائل لزج يسيل على عموده الفقري ثم يتخثر دافئاً يدغدغ جسده كيد ابنته الصغيرة.. رفع بصره إلى النافذة من جديد كانت هناك غيمة بيضاء رقيقة تنام في فضاء النافذة وتحيط غلالتها بالقضبان السوداء.. تذكر عبد الله الأغطية البيضاء التي كانت تستر جسده والده المريض.، وتتكسر زواياها بحدة على الجسد الهزيل، كان إلى جانب والده ينتظر صحوه بفارغ الصبر كي يقنعه بتناول الدواء والطعام.. ثلاثة أيام مرّت والعجوز المستلقي على فراش الموت يرفض أن يتناول شيئاً يطيل في عمره وحين فتح العجوز عينيه الذابلتين رجاه عبد الله أن يأكل أو يشرب لكنه رفض قائلاً: دعني يا ولدي أمسك زمام حياتي مرة واحدة، سبعون عاماً مرت والأقدار تتقاذف مصيري كيفما شاءت وأنا راضخ ذليل لها... لن يزيدك عمري إلا شقاء.. أتعبتك في ثمن الدواء... تزوج يا عبد الله واملأ البيت أطفالاً.. لن أطيل حياة جسدي الفاني أكثر من ذلك... جاءت الفرصة وسأختار موتي كما أشاء.. إن بقائي يزيد من شقائك يا ولدي....
الأب المريض ذو الغطاء الأبيض لم يضيع الفرصة لقد اختار مصيره حين استبق الموت... عاد عبد الله يبحث عن الغيمة الرقيقة البيضاء التي كانت تسرع مبتعدة تدفعها الرياح وسرعان ما مرت أمام النافذة غيمة أخرى وازدادت سرعة الغيوم العابرة وازداد لونها سواداً وظلمة فردد عبد الله... سيهطل المطر.. سيهطل المطر... يا إلهي... متى سيهطل المطر؟.