بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:20:57 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1488 0


    بــهيــجة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة بــهيــجة مســعود بوبو

    فتحت "بهيجة" نافذة ضيقة في جدار النهار لتغادر احتباسها.. مدت إلى الشارع رجلاً نحيلة مرتجفة، ونظراً حائراً بين التراجع والمضي..وحين اخترقت حجاب التردد صارت والشارع، كلا منهما ملكاً للآخر.. اعترت المدى المرئي رعدة من برد وصحو وتنهُّد.. وها هي ذي "بهجية" قادمة..‏

    تأملت وجهها في مرآة سماء "دمشق" الشاحبة.. تأملت شعرها المشتبك بالريح والغبار والأدخنة، وابتعدت من وجهها إلى عينيها..‏

    تصفحت واجهات البيوت والمحالّ، فاستوقفها مكنون الواجهات ومعروضها: حلوى بطبقات وألوان تترهل بالقطر واللمعان.. سكاكر مغلفة بأسعار متفاوتة وورق ملون صقيل.. معروضات شتى مضاءة من عل.. محفوظة ومحاصرة ومحروسة ومزينة ومرتبة ونظيفة... معروضة للناس والضوء والدراسة.. ممنوعة ومباحة، كالحلم والحقيقة..‏

    تشبع بهيجة منها.. تتجشأ وتتحمد وتمضي بها سبيلها رامية عن يمينها قلامة من ظفر النهار تقصف.. تدنو من بهيجة مهابة واجهات محتشمة بالثياب والأكسية.. تزحمها الأزياء مستبيحة جسدها الذي كان نضراً.. تدخل في الثياب وتخرج، تقيسها الثياب، وتقيس الثياب، تزعق ذعراً عارية في معترك الكوابيس، وتزهو مزدانة كقمر وعلم على سارية. وتسمع للحلي وسواساً من حولها!!‏

    ترفل بزهرة شبابها نُضْرة الشوارع، ويجللها فيض من مرافقة الغبار والأدخنة، كلما أمعنت في ولوج السوق.. يحتفي بها مطعم يبدو مترفاً من خلف الزجاج الشفيف، وبعفوية تقتحمه عيناها وهي ترطب بلسانها شفتين مرتعشتين... وتستوقفها أنامل رشيقة لصبية تأكل بشهية ظاهرة مستعينة بآلات صغيرة من معدن ألاّق، ومن حولها عيون الوالدين تطفح غبطة وبشراً وهي تحيطها بفيض من الحنان والرضا.. تتغذى "بهيجة" بالمنظر حتى تمتلئ.. ثم تبتعد راضية مرضية..‏

    تدوّم ببصرها في الفضاء الخانق، ويلهو بها قفص السوق من رصيف إلى رصيف.. ولا تتعب الأرصفة.. تصير السماء واطئة، والسوق مداخة، ومن حول أذنيها تتزاحم الأقراط والأصوات بغير انقطاع. تمّحي كفقاعات الصابون ليلد السوق غيرها، تغيب الشوارع والوجوه والأضواء والألوان والأحذية، ويظهر غيرها.. تنحسر الهموم والتداعيات والحسرات والغصص.. ويظهر غيرها.. وبهيجة في هذا الطوفان البشري سفينة يقص أثرها حزن الغروب ولا يستريح... سفينة بغير شراع، لا تعوزها المرافئ... تتجاذبها الجهات فتمضي، لا خطواتها عجلى، ولا أبواب المدى مقفلة.. تأتنس بظلها الذي يتبعها أو يسبقها أو يحاذيها. وتحنو على قامتها التي تلاقيها في زجاج المحال والسيارات الواقفة، وإذ تتأملها في أناة وإشفاق يخيل إليها أنها قد تكون جميلة؟؟ وسرعان ما تنسى مثل هذا الجفول...‏

    يزداد تضاغط الناس من حولها وتتلاقفها حبائل الصور والشهى: أيد مثقلة بما تحمل، أيد تعد ما بحوزتها، أيد مقرورة تستدفئ بأيد، أيد تأخذ وأيد تعطي، وأيد تغوص في الجيوب... ويدا "بهيجة" تتدليان معلقتين بكتفيها.. فأين تمضي بهيجة بيديها الفارغتين؟! بغتة تحس أن العيون كلها تستقر على يديها وتتحراهما... يمضّها هذا الحصار والتحقيق فتهرب بهما مرتبكة راجفة.. تستغرب في هلع خفيض كيف ضاقت المدينة الواسعة بيديها وحدها؟! ويخيل إليها أن حركة المدينة كلها توقفت تترصد يديها بعيون محشوة بالطلقات... تدرك غريزياً أنه لم يبق لرأسها إلا صدر الحديقة العامة التي لم تحتضنها منذ امتحان الشهادة الإعدادية.. وفي حذر تتلفع بمخاوفها وهَجْسها وترتمي ثمة على مقعد خشبي قديم.. تسترد أنفاسها، وتتلفت بخشية في كل اتجاه، فتحس بشيء من الارتياح لمرأى الأشجار الوادعة والأطفال اللاهين، وترنو إلى يديها اللائذتين بحجرها، فتزداد أمناً وإحساساً بالطمأنينة.. تسند رأسها إلى المقعد وتطفر من عينيها سنونوتان تبحران في الفضاء الأغبر... ثم تصيران فراشتين... ثم تتحدان في شرنقة.. وتستسلم بهيجة لنوم عذب عميق...

    كلمات مفتاحية  :
    قصة بــهيــجة مســعود بوبو

    تعليقات الزوار ()