بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:41:33 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1570 0


    تحقــــيق الـــذات

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د.هيفاء بيطار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    لــم يكن وجيه يطيق قراءة كتب الفلسفة وعلم النفس، حتى المقالات في المجلات والجرائد التي يشم فيها رائحة علم النفس كان يتجنبها بعد أن يمطرها بسيل من الشتائم. كان يعتبر الفلاسفة وأتباعهم أشخاصاً معقدين، كلامهم طلاسم. وكان يؤمن أن الفلسفة لم تقدم شيئاً للبشرية سوى الكآبة. وإلا ما سر الانقباض والتجهم الذي ينتابه كلما قرأ بضعة أسطر من مقال فلسفي؟!‏

    لكنه حين خرج ذلك الصباح من غرفة المدير وهو يشعر أنه مدمر النفس ومسحوق كحشرة، وجلس إلى مكتبه شاعراً أنه فقد الرؤية حقاً وإن كل ما حوله ظلام، وأنه لم يعد يملك القدرة على امتصاص الإهانات من المدير الذي يصغره بعشرين عاماً، والذي لا يفقه شيئاً من الإدارة سوى أنه يريد تسخير كل شيء لمنفعته، أحس بضيق نفس حقيقي وشتائم المدير تطن في أذنه، وبصعوبة تمكن بأصابع مرتعشة من فك زر القميص محرراً رقبته من أسر ربطة عنق عمرها ثلاثون عاماً. دمعت عيناه من القهر، ومضت سنوات خدمته في المؤسسة متوجة بالشتائم في السنوات الأخيرة بعد أن عينوا المدير الأحمق، إنه على بعد سنوات من التقاعد، يحس قلبه سميكاً، وروحه ثقيلة، ماذا جنى من نزاهته وتفانيه في العمل؟!‏

    لم يستطع أن يطهرّ روحه من سموم كلام المدير كما كان يفعل كل مرة، أحس الإهانات تترسب في روحه طبقة سميكة أحسها كالقطران، كان لا يزال يحس الظلام يسربله حين سطع فجأة عنوان كتاب ملقى بإهمال على طاولة زميله في العمل "تأكيد الذات" كلمتان مكتوبتان باللون الأحمر والخط العريض وأحس أن روحه المشتتة بالقهر تتجمع حول عنوان الكتاب كما تتجمع الدبابيس وتلتصق بقطعة المغناطيس. ترى ما الذي يغريه في هذا العنوان ويدفعه لالتقاط الكتاب رغم رائحة الفلسفة وعلم النفس الفواحتين منه؟‏

    كان الكتاب قديماً، صفحاته مصفرة، لكن وجيه أحس أنه محموم من شدة الاضطراب ما أن قرأ السطر الأول: لسنا معتادين على الانتباه لما يجري في داخلنا".‏

    فجأة أحس أن الظلام حوله يتبدد، وأن كل شيء في رأسه يضيء، أخذ يمتص كلمات الفصل الأول عن "الأنا المشوهة" كما تمتص الأرض المشققة من العطش قطرات المطر، لم ينتبه لتحديقه المفتون بالكتاب إلا حين دخل زميله في العمل. انفجر ضاحكاً وهو يقول: لا أصدق ما أرى، وجيه يقرأ كتاباً في علم النفس؟ بصعوبة رفع وجيه عينيه عن الكتاب وقال: أود أن أستعير هذا الكتاب منك.‏

    فرك صديقه عينيه وقال: لا أصدق ما أرى، منذ متى تقرأ كتباً في علم النفس؟‏

    تململ وجيه وقال: لا أعرف، لكن هذا الكتاب يبدو مختلفاً، أقصد هاماً..‏

    قال صديقه: إنه كبقية كتب علم النفس والفلسفة التي تكرهها.‏

    لم يكن وجيه راغباً بالحوار، عاد يغرق في الكلمات التي أججت قلبه وعقله معاً، أحس أن لهذه الكلمات مفعول المخلص، وأنها قادرة بضربة سحر أن تخلق من أعماق يأسه قوة مجهولة يتحدى بها كل مظاهر القهر واللاإنسانية حوله.‏

    لم يستسلم للقيلولة كعادته بعد الغداء، كان يقرأ الفصل الأخير من الكتاب الذي عنوانه "تأكيد الذات" والذي يبين فيه المؤلف كيف أن أهم واجبات الإنسان تجاه نفسه هي تأكيد ذاته، أي التعبير عن حقيقة أفكاره ومشاعره دون خوف، والإصرار على نيل حقوقه. والوقوف في وجه الشخصيات السادية والمستغلة التي لا تهدف إلا لتحطيم الكرامة الشخصية للإنسان، وأخيراً يطلب الكاتب بكل رقة ولطف من القارئ أن يبعث نفسه من جديد ويثق بإمكاناته الشخصية، ويتصرف ويتكلم بشجاعة يمليها عليه ضميره، وألا يخاف من المواجهة، فما قيمة الحياة إن خلت من المواجهة؟!‏

    ويستشهد المؤلف بأمثلة لأشخاص عاشوا شطراً كبيراً من حياتهم مسحوقين مهانين، ثم انتفضوا بعد أن رفضوا حياة الذل، مؤكدين ذواتهم، مستمتعين بكرامتهم، وسعداء بولادتهم الجديدة.‏

    يا للنبض الحار الذي يتركه هذا الكتاب في عروق وجيه، أحس أنه يخلع جلده القديم منتشياً بجلده الجديد المعافى، والذي لم يمتص كلمات الذل. عاهد نفسه وهو يضع الكتاب على صدره مصالباً يديه فوقه إنه لن يسمح لمخلوق بإهانته، وبأنه سيسعى لتأكيد ذاته متبعاً النصائح التي قدّمها المؤلف.‏

    المواجهة الأولى كانت مع زوجته التي اعتادت أن تسخر منه، وكان يمتص سخريتها على مضض دافناً انزعاجه منها، ومبرراً لها بأنه أسلوبها في الكلام. قالت له: ما هذه العجيبة! أنت تقرأ كتاباً في علم النفس وتحرم نفسك من قيلولتك المقدسة!‏

    قال بحزم: اسمعي. أسلوبك الساخر يزعجني هل فهمت؟‏

    رفعت إليه عينين مندهشتين وقالت: منذ متى تزعجك سخريتي يا سيدي؟‏

    احتد قائلاً: حتى سيدي هذه فيها سخرية. انتبهي لألفاظك من الآن فصاعداً، أسلوبك الساخر فيه انتقاص من احترامك للآخر.‏

    استمرت الزوجة في السخرية قائلة: يا سلام، أهي موعظة أخلاقية أم..‏

    قاطعها شاعراً بمشاعر غبطة عارمة لأنه يحكي ما يحس به تماماً:‏

    -كفى-لا تعملي من الحبة قبة، كلامي واضح.‏

    أخرستها المفاجأة، أهذا وجيه الذي كان يمتص كلامها معلقاً بابتسامة، ما الذي جرى له؟ هل أثرّ به الكتاب؟ لكن منذ متى يقرأ كتباً في علم النفس؟‏

    امتصت غضبها واعتبرت أن ما اعتراه ليس سوى حالة عابرة سببها حرمانه من القيلولة. لكنها حين ذكرته بعد ساعة بالسهرة في بيت أخيها، فوجئت برفضه الصريح قائلاً بوضوح سمَّرها في مكانها: لن أسهر. يجب أن أعترف لك أنني كنت ألتقي بأخيك مجاملة لك، لكني من الآن فصاعداً لن أجامل، سأكون صادقاً مع نفسي، هل فهمت؟‏

    حملقت إليه غير مصدقة النفس الجديد في كلامه، سألته خير: هل أزعجك بشيء؟‏

    قال: إطلاقاً، لكنني بصراحة لا أحترم رجلاً مثله، قهقه مستمتعاً بفيض تدفق أفكاره التي تولد في ذهنه وتنطلق رأساً إلى لسانه دون أن يلجمها كعادته، لا تندهشي يا زوجتي العزيزة، شخص مثل أخيك لم يحصل على الشهادة الإعدادية يصير مليونيراً! لا تقولي أن الله أعطاه. فهذه الجملة يختبئ خلفها كل اللصوص..‏

    انفجرت قائلة: أتقصد أن أخي لص!‏

    ضحك بصوت حر: لا أقول سوى الحق.‏

    قالت: لا أصدق ما أسمع، منذ متى تتكلم هكذا؟ ما الذي جرى لك؟‏

    قال منتشياً: لا شيء. أنا أؤكد ذاتي.‏

    -ماذا! ما هذا الكلام غير المفهوم.‏

    استمر بالضحك منتشياً، مكتشفاً متعة أن يعبر الإنسان عن ذاته.‏

    لكنه لم يستطع أن يغفو طوال الليل، شاعراً أنه يحس بالجحيم والنعيم معاً مجتمعين في روحه.‏

    ياه كم ارتكب أخطاءً بحق نفسه، بدت له حياته منذ طفولته وحتى خريف عمره سلسلة من الأخطاء يسيّجها الخوف ويبطنّها القمع، منذ طفولته حرم من التعبير عن آرائه ومشاعره بصدق وحرية، كان يخاف من أبيه المستبد، وتعود مع الزمن على ابتلاع الكلمات التي تعبّر عن عفويته، وعلى ابتلاع الإهانات أيضاً، ياه ماذا فعل لقلبه سوى أنه حوّله لحقل من الذل واليأس والكراهية للحياة.. إنه الآن يواجه نفسه في صمت هذا الليل وحيداً مع دقات قلبه الذي يعلن الثورة بنبض جديد يميّزه وحده. وجد نفسه بعين خياله مهزوماً ومُهمشاً. قرر أن يتجاوز الخوف، امتصت وسادته دموعه وهو يعي كم تأخر في إعلان ثورة الكرامة في حياته.‏

    صباح اليوم التالي حين استدعاه المدير، مشى إليه منتصباً شاعراً أنه يملك كنزاً في قرارة نفسه، لعله إحساسه بالكرامة أو القوة، وحين قرع الباب وثنى مقبضه ليدخل أحس أنه يودّع آخر شعور بالذل، كان سعيداً أنه مُقدم على معركة سيؤكد فيها ذاته، أخذ نفساً عميقاً وهو يشعر أن مؤلف كتاب "تأكيد الذات" يشد على يده مشجعاً وهامساً له: ما قيمة حياة تخلو من المواجهة؟!‏

    تذكر أنه في كل مرة كان يحي المدير بلهجة الطاعة، وبابتسامة فيها الكثير من المذلة والآخر لا يرد التحية، رفع إليه المدير عينين حاقدتين ومستطلعتين في آن. كأنه يسأله- أين تحية الصباح؟‏

    أسعده أنه استقبل نظرة المدير بتحد ولا مبالاة. وضع يديه في جيبي بنطاله، وأثنى ركبته، لم يعد من مبرر لوقفة المُعاقب على ذنوب لم يرتكبها. تذكر أنه كان يقف محني القامة وقد تصالبت يداه خلف ظهره ونظره مسمّر على حذائه.‏

    ابتدره المدير ساخراً: أرى أنك ابتلعت تحية الصباح، هل اختفى صوتك؟‏

    قال بصوت لم يتعمد أن يبلله بالذل: أبداً، لكني في كل مرة كنت أحييك، لا أسمع ردك.‏

    حدق إليه الشاب المتغطرس قائلاً: أتجرؤ على انتقادي.‏

    قال: بل أجيب عن سؤالك.‏

    قلب المدير الملف وقال: أرى أنك لم تجر التعديلات التي أمرتك بها.‏

    خفق قلبه وهو يعي أنه مقدم على ساحة قتال بشجاعة لم يعرف مثلها طول حياته: ما أمرتني به مخالف للقانون.‏

    هب المدير واقفاً وقال: ماذا أسمع!‏

    أجاب باستخفاف: أنا لا أخالف القانون، المواصفات التي كتبتها غير متوفرة في المواد التي يجب أن أوافق على شرائها وستخسر الشركة ملايين إذا..‏

    جن المدير من الغضب وقاطعه قائلاً: اخرس يا كلب، أتجرؤ على مخالفة أوامري، ستوقع يعني ستوقع.‏

    كان منتشياً بتأكيد ذاته، ترك المدير يعوي مسعوراً، يشتمه ويتوعد وحين تهاوى على كرسيه، قاذفاً الملف بوجهه وهو يأمره أن يوقع وإلا سيندم.‏

    قال بصوت واثق: لن أرد على رجل سفيه مثلك، لن أوقع، هل فهمت.‏

    استدار ليمضي، لكن المدير انقض على كتفيه يهدده..‏

    وجد نفسه يستدير ويقبض على عنق المدير بقبضة من حديد، طعنه بعينيه اللتين تقدحان شروراً وقال له: كفاك تطاولاً على الناس، الكل هنا يكرهك، ويعرفون ممارساتك الدنيئة، لا أحد تخفى عنه سرقاتك، فلا تتطاول على الناس الشرفاء.‏

    لم يستطع المدير تحرير عنقه من القبضة الحديدية، إلا حين أراد وجيه إفلاته.‏

    عاد إلى مكتبه منتشياً بسعادة تحقيق الذات، ووسط عيون الدهشة والذهول والخوف لزملائه، كان وحده يتذوق طعم سعادة جديدة عليه.‏

    وحين استدعى للتحقيق بعد أيام، ذهب بقلب واثق، أدلى بأقواله وسلم المستندات التي تدين المدير وتفضح سرقاته، لم ينكر أنه اضطر للدفاع عن نفسه، كان منتشياً بولادته الجديدة، قلبه ينبض على إيقاع الكرامة، وجلده تفتحت مسامة التي انسدت لزمن طويل بعرق الخوف.‏

    لكنه فوجئ بعد شهرين من مسار التحقيق بفصله من الوظيفة بتهمة اعتدائه على عنق المدير! تراقص عنوان الكتاب في ذهنه، سأل المؤلف بعينين دامعتين: لم تقل لنا مخاطر تأكيد الذات يا صديقي؟‏

    أدهشه أن تكون آثار تحقيق الذات رهيبة إلى هذا الحد ومدمرة، ورغم إحساسه أن الواقع هزمه وأنه متكور داخل حزنه كحلزون منكمش في قوقعته، ورغم أن إحساسه بالغبن كان طاغياً، إلا أن ثمة شعوراً ابتدأ باهتاً في روحه، ثم أخذ يعربد معلناً عن نفسه مؤكداً له أنه حقق أعظم انتصارات حياته، وأنه توصل إلى تجاوز ذاته ليصير مثلاً ورمزاً للشجاعة، كان يحس بمتعة أنه ترك بصمته في ذاكرة أصدقائه وأعدائه إلى الأبد لن يتمكن أي منهم من نسيانه.‏

    فليكن كبش فداء لا يهم، يكفي أنه لم يسمح للظروف الرديئة أن تجمده وتختزل إنسانيته، وما فداحة الظلم الذي أصابه سوى تأكيد على نزاهته وصدقه، لقد فهم متأخراً لماذا كان يكره الفلسفة، لأنها ستضطره أن يفهم ذاته ويناقش حياته، وهو لم يكن مستعداً لمواجهة نفسه.‏

    ياه كم يشعر أن البطولة أرفع من أية سعادة، لم يعد يخشى شيئاً، شجاعة تأكيد الذات أعطته مناعة ضد التهديدات، فليخسر وظيفته المهم ألا يخسر نفسه.‏

    وفي وحشة الليل، كان قلبه أعزل لكنه ليس خائفاً، لم يعد مضطراً لتضليل ذاته، إنه يقفز فوق الصعاب وحيداً وحراً يلحقه ظل كرامته، ورغم أن جسده كان ثقيلاً، إلا أن روحه كانت تسبح في أمواج النور.‏

    أدخله التعب والنعاس فيما يشبه الغيبوبة، سمع همساً بعيداً يقول له مؤاسياً: لا تيأس، المهم تأكيد الذات.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()