بتـــــاريخ : 11/18/2008 7:13:19 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1444 0


    الرحيل إلى البلاد الدافئة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد قرانيا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    هذه الوردة يجب ألاَّ تذبل..‏

    وهذا الربيع يجب ألاَّ ينقضي موسمه من دون أن يعبّ القلبُ منه أطايب الشذا..‏

    قالت هذه العبارات وهي تتألم. تتوق لتحقيق حلمها المخملي قبل أن يذهب ربيع عمرها فتجفّ الأزهار تحت وطأة شمس الصيف اللاهبة، فإذا ما جاء أيلول فاجأتها أنسامُ الخريف بالبرودة.‏

    آلمها (فريد) بتصرفاته الطفلية التي باتت تكرهه من أجلها. إنها إنسان لها كرامتها وكيانها. لن تسمح له بعد اليوم أن يتلاعب بعواطفها.. تنازلت له في السابق عن كثير من طموحاتها، ومشاعر قلبها حين قبلتْ به (خطيباً) كي ترضي عقدة (الفوقية) التي تلفّ نفوس أفراد الأسرة ذات الجاه العريض والشهرة ذائعة الصيت..‏

    تتردّد كلمات أمها في قرارة نفسها: "فريد سليل عراقة وأصلٍ. إنه الأنسبُ لشراكة عمرٍ ناجحةٍ ورابحة.." ترفض أن تكون صفقةً تجارية وهي الآن لا تكره شيئاً أكثر من هذا الفريد الذي يبدو لها أشبه بدمية عرائس تحرّكها أصابع الممثل..‏

    الثوب وربطة العنق تختارهما له أمه. والحذاء والجورب ينتقيهما والده.. أما الوظيفة بالإدارة الهندسية، فقد كانت من تدبير وسيطٍ كبير الشأن..‏

    قال لها وهي تهمّ بمغادرة الدائرة:‏

    -سأمرّ بك عند المساء لنخرج معاً.‏

    ردّت متشككةً‏

    -أمتأكّدٌ أنت؟‏

    تركته من دون أن تلقى كبير اهتمام لدعوته.. في المرة السابقة، داعبها بمثل هذا الوعد، ويومذاك ارتدت ثيابها، ورشقت نفسها بعطر أخّاذ، لكنه قتل الفرحة في نفسها، وأخلفَ وعده، فما كان منها آنذاك إلاّ أن ركبت سيارتها، وانطلقت يستخّفها شعورٌ غامرٌ بتفاهة هذا الإنسان، وأنها ستضيع معه، وسيذبل شبابها وتفارقها الحيوية والنضارة..‏

    جابت الشوارع يحدوها أملٌ بأنها ستعثر على شيءٍ مجهولٍ، ولكن.. عند المساء جلست تنتظر. سرت البرودة في جسمها، انتابتها قشعريرة مزعجة.. كانت واثقة من عدم حضوره لاصطحابها في المشوار المزعوم.‏

    نظرت إلى السماء، كانت طيور أيلول تعقد فيها أعراساً صاخبة، تحوم فوقها ثم تنسحب مغادرة إلى بلاد الدفء، ومخلفةً في الآذان صدى شجياً.. إنها الآن تنتظر على مضضٍ. انقضت لحظاتٌ وئيدة. نظرت إلى ساعتها حانقةً. اعترتها موجةٌ غضب ساحقة.. "آه لو كان باستطاعتي أن أمسك به الآن، لأنشبت أظافري في عنقه، ولقنته درساً لا يُنسى في احترام المواعيد، وأصول الظرف الاجتماعي والعلاقات الإنسانية."‏

    أسرعت إلى الهاتف سألته ببرودة عن سبب عدم مجيئه. اعتذر متلجلجاً عبر السّماعة:‏

    -لن أقبل منك اعتذاراً حتى تذكر لي السبب.‏

    -أمي خارج البيت.‏

    -حسناً يا عزيزي عندما تعود (الماما) ستجهز لك وجبة الحليب، وستضع الرضّاعة في فمك، وستنعم بوجبةٍ تملأ معدتك، فتنام.‏

    ضربت سمّاعة الهاتف بعصبيةٍ. إنها لن ترتبط بعد اليوم بالجاه والعراقة. لن تأبه بالأصل والفصل، ستضرب رغبة أبويها عرض الحائط.. هيه!!‏

    تمنّت لو كان رجلاً قوياً، مكتمل الشخصية يشعرها بأنسانيتها وأنوثتها.. ليس المال كل شيءٍ في الحياة.. الحب علاقة سامية، والحياة تفاهمٌ وتكاملٌ وإلفةٌ..‏

    على الرغم من سخطها وتبرّمها. انتابتها حالةُ صحوٍ جيّدةٍ.. فريد لا يصلح أن يكون شريك عمرٍ لها. لن تنصاع للمال المكدّس في خزائن قصره، ولا لصولجان والده..‏

    منذ البداية لم ترتح لأمه المترهّلة المتصابية، ولا لنظرات أبيه المتلصّصة من خلف النظارة الطبيّة. وتساءلت بمرارة: "ما الذي يعجبها في فريد؟.. هندامه المتنافر، أم حركة شدقيه وهو يمضغ (العلكة) بميوعةٍ منفرّة؟! أم شخصيته المهزوزة وكلامه السخيف؟! حتى الغزل.. تمنّت لو أنها سمعت عبارةً واحدةً تخرج من شفتيه، فتنقلها إلى ضفافٍ خضرٍ، وشواطئ خيالية من ذهب ومرجان.‏

    ماذا تفعل الآن؟‏

    يجب أن تجد حلاً لمشكلتها.‏

    تذكرت.. أجل لن ينقذها سوى أحمد. زميلها السابق في كلية الهندسة المدنية.. أحمد الإنسان الوحيد الذي يمكنه انقاذها.. آه يا أحمد! لماذا تناسيتك طوال هذه المدّة.. شهور طويلة لن أحسبها من عمري.." لعل السبب يعود إلى أمي التي أرغمتني على الالتفات باتجاهٍ معاكسٍ، والتي كلما حدثتها عنه أشاحت بوجهها، وقالت بامتعاض:‏

    -إنه ليس من طينتنا، قرعة أبية غير معروفة.‏

    وكنت كلما أبديتُ اعجابي بذكائه، ولباقته، وحسن تصرّفه تجيب:‏

    -أنتِ هاوية فقر!‏

    -الفقر ليس عيباً يا أمي.. أحمد ينتظره مستقبلٌ واعد. كان الأول بين متخرجي الدفعة الأولى.‏

    -الكلبُ مهما سمنَ، لا يؤكل لحمه!‏

    -حرام.. حرام عليك.‏

    يومئذٍ بكت كثيراً. وتساءلت: "كيف يجعلون هؤلاء كلاباً، وأولئك بشراً وسادةً؟!.. وأحمد هو الأمل والرجاء!!‏

    هجم عليها طيفه، ملك عليها مشاعرها وأحاسيسها. تنهّدتْ بحرقةٍ: أحمد الإنسان الذي تتمناه كل فتاة.. الإنسان العصامي إلى الحدّ الذي يصعب معه التصديق في هذا الزمن.. أحمد البسيط إلى أبعد حدود البساطة. المتواضع الذي لم يهتمّ يوماً بمظهرٍ أو بصرعةٍ أو ترهة. المهذّب الذي يملك نفسه.. كان يمشي كل يومٍ من بيته إلى الجامعة على قدميه، ويعود ماشياً، مسوّغاً ذلك بحبّه للرياضة.‏

    وعندما سألته -ذات يوم- عن أحوال الأهل والقرية وموسم القطن الذي كان يعلّق عليه آمالاً عريضةً. أجابها بعبارةٍ طفلية رائعة:‏

    -صدّقي يا ناديه أنني لم أرسل لهم رسالةً منذ شهرين. أتدرين ما السبب؟!.. لا تعجبي يا صديقتي إذا أخبرتك بأنني لا أجد وفراً لأشتري طابع بريد.‏

    كانت تدرك مدى عفّة نفسه، ومع ذلك فقد سألته مرةً عن كيفية العيش في هذه المدينة التي ترغم من يقيم فيها على الصرف والإنفاق حتى وهو نائم، فكان جوابه: "إنه لم يذق طعم الموز أو التفاح أو العنب منذ سنةٍ، وإنه لم يعرف طعم السمك منذ خمس سنوات، ثم قال بأسلوبه الجدّي المعتاد:‏

    -ناديه.. الحياة والإنسان في صراعٍ دائم. إما أن تنتصر علينا، أو ننتصر عليها. قيل لأحد الصالحين: ارتفع سعر اللحم فقال لهم أرخصوه.. أنا لا أطلب شيئاً من شهوات المدينة. أرخصت كل شيءٍ. كل ما أبتغيه التخرّج، والحصول على المؤهّل العلمي الذي أراه بمثابة جواز سفرٍ يؤهلني للدخول في عالم العمل والبحث الجادّ. أهلي تحمّلوا أعباء لا طاقة لهم بها. حُرموا مستلزمات العيش من أجل إتمام دراستي..‏

    قطعت سيل الذكريات المتدفق، وطيف أحمد لا يفارقها.. ماذا تفعل الآن؟!.. إنها تعرف الطريق جيداً إلى شقّته المنفية قرب نفايات المدينة. لو كان عنده هاتفٌ لاتصلت به، وأراحت نفسها من هذا الأرق والتفكير..‏

    احتارت لحظات، ثم نهضت من دون تردّدٍ. اتجهت إلى المرآة. ارتاحت إلى منظرها. تناولت مفاتيح السيارة، وخرجت. لاحقها تساؤل أمها القلق:‏

    -إلى أين أنت ذاهبة يا نادية؟‏

    وطئت قدماها بعض أوراق الخريف المتناثرة. جلست خلف مقود السيارة. الطريق إليه مفروشة بالأزهار والرياحين. السيارة تنطلق بها وهي الأنثى المكتملة وعياً وثقافةً وشوقاً إلى الحياة.‏

    ترجّلت عند مدخل الحي الشعبي. وصلت إلى أنفها رائحة خضار متفسخة. لم تهتمّ. سارت بخطاً واثقة. بعد قليل ستلقاه. ستطالع محياه المشرق بابتسامة آسرة. ستعتذر له عن قطيعةٍ دامت شهوراً. ستضرب له ألف موعدٍ ملوّنٍ. ستتحدث عن آمالها وأمانيها، وستستمع إليه بنغمته الريفية المحبّبة، وحديثه عن المستقبل والحياة والقطن والزيتون، وستقول له إنها ستقف إلى جانبه، وستكون معه وتلازمه كما تلازم نجمة الصبح قمرها الجميل.‏

    توقّفت أمام باب المنزل مدّت يدها لتضغط مفتاح الجرس، لكنها تراجعت فجأة. شعرت بشيء من الحزن. تمالكت نفسها. لن تستسلم للتردّد، لن تسقط كورقةٍ نزفت دماءها قبل الأوان.‏

    هذا هو ربيع عمرها، وهي الوردة التي يتضوّع عبيرُها، وأحمد -هو- الفراشة الملوّنة التي تنتظرها لتمتصّ الرحيق، وتنفث في الكون أفانين السحر والجمال، ستعرف كيف تطعمه موزاً وتفاحاً وحباً.. الحبّ إذا لم تكن تتذوقه مع الإنسان الذي ترتاح إليه نفسها فماذا يفيدها شروق الشمس ودورانها في السماء وغروبها؟!‏

    ضغطت الجرس. فُتح الباب، طالعها وجه امرأةٍ جليلةٍ على رأسها طرحة بيضاء مطرّزة:‏

    -أحمد هنا؟‏

    -المهندس أحمد. أليس كذلك؟!‏

    -أجل هل هو في غرفته؟‏

    -أنت نادية.‏

    -أجل يا خالة‏

    -لقد تأخرت يا بنتي.. انتظركِ أحمد طويلاً، وعندما يئس من مجيئك رحل من هنا.‏

    -إلى أين ؟!‏

    -تعاقد مع شركة مقاولات خليجية.‏

    ردّدت في قرارة نفسها: "رحل إلى البلاد الدافئة" أحست طعم المرارة في حلقها، فتحت باب السيارة، استوت خلف المقود، تراءت لها الدنيا حديقةً ذابلة الأزهار. راودها شعور بأنها ورقة صفراء، سقطت من غصنها، وتلاعبت بها الريح.‏

    أدارت محرك السيارة. واجهتها زوبعة حملت كثيراً من أوراق الخريف الصفر، وتراءت لها في السماء طيور أيلول الجميلة، وهي ترحل بعيداً إلى البلاد الدافئة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()