بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:56:06 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1548 0


    سيرة فتاة... سيرة نخلة....

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وهيب سراي الدين | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    1)‏

    الدنيا فضاء، نسيج يمور ألواناً. والشفق يضرّج باللازورد، صباح مساء. والشمس بينهما تسكب شعاعها دافئاً، راهجاً؛ يملأ الكون، بغبار أصفر كالذهب!‏

    النور في كل مكان. الأطياف تتمرّى حوريات، وعرائس بحار....‏

    كيف لا؟ والحياة شباب يفيض حيوية. يدفق عاطفة....‏

    -" آه....! يانجلاء، كم أحببتك وفنيت فيك؟ ظللت أركض في فيافي هيامي، وأركض.لا ألوي على شيء، سوى خيالك البهيج. يشعّ أمامي، حتى....".‏

    -" حتى ألقيت القبض عليه، يامروان".‏

    وتشرق على الثغر المبرعم ابتسامة.كأنها زهر الأقحوان. ثم يغيم الاثنان، في روعة العناق.‏

    وتتحّد " الثنائية". ثنائية هذا الوجود العظيم، المتقابل، المتناظر، المتزاوج، منذ الأزل. والشمس الحنون تصيخ السمع من عل. وأيضاً ابنها القمر، يغار في الليل، ويروح يلفّ الكون بدثاره المخملي، وينداح دفء. ويسري ارتعاش في العروق. وهكذا، يتجسّد "الحبّ". ويتكثّف " الشباب"، في نقطة صغيرة، صغيرة جداً. أصغر من رأس الدبوس، بمليون مرة!‏

    (2)‏

    الدنيا زغاريد. زقزقة عصافير. هديل حمام. صرخة ولادة!‏

    براءة الطفولة تعبق في الكون. وتطهر وجه الأرض.‏

    والنسوة يفتحن أفواههن، على أوسع مصاريعها، ويهلّلن: سقطت على الأرض كتلة بشرية نظيفة صغيرة. شعّت ككوكب، ملأ العيون ضياء.‏

    تزعق، تبرعط مثل سمكة. ثم يقطع حبل السرة. القابلة (أم محمد):‏

    -" الحمد لله رب العالمين، خِلقه، وخُلقة تامّتان"!‏

    وتردف أيضاً:‏

    -" نجلاء بخير، بامروان".‏

    وتبسط كفّها بدّالة وزهو. ثم تطويها على رزمة أوراق. تدسها، فوراً، في عبّها، وتنهال بالبسلمة والتبريك.‏

    الشمس تغدق على الأرض، من نثار عسجدها، حرارة ودفئاً.‏

    وتتهامس النجوم متخافقة، بعد أن تغيب، عن ذينك الدفء والحرارة. والقمر الغيور. يعود يصبغ حقوله بالياقوت والحناء.‏

    وتتلامع بروق الفرح، في فضاءات النفوس. يا للبهجة! يا للسعادة! " الأولاد زينة الدنيا، يانجلاء".‏

    بل تنشدّ الرؤوس، إلى أعلى. شاكرة، راضية، البنت في الولادة الأولى فأل خير، في الحياة الزوجية.‏

    الفم الدقيق كالخاتم يلثغ:" إنكغ غ غ....".‏

    وتنساب الروح ذوباً خالصاً، مع الصوت الطري الرفيع. أي وجد! وأية محبة! يغمران القلب؟‏

    -" يانجلاء هذه البنيّة، تساوي الدنيا كلها عندي".‏

    -" هيفاء فلذة الكبد، يامروان".‏

    -" ولنحي ولادتها الميمونة، بغرس نخلة".‏

    (3)‏

    وغرست في الأرض نخلة، كما هبطت على الأرض طفلة، في تلك العمارة البهيّة. النخلة ترضع الماء في مدخل العمارة. والطفلة ترضع الحليب من ثديي أمّها. النخلة لها ثلاث وريقات يانعة، وجذع صغير. والطفلة لها يدان، ورجلان، وجذع صغير أيضاً.‏

    وتظلّ "الدنيا" عطفاً وتحناناً!‏

    وتظلّ، معها، الشمس تطلّ. والقمر يهلّ. والكواكب والنجوم كلها تغسل ركام الليل، بذرارات الأشعة.‏

    -" يانجلاء هاتي هيفاء، بسريرها. وضعيها قرب خدنها النخلة".‏

    أجل. لماذا لايكون سهر وابتهاج؟ زوجان شابّان متحابّان.‏

    وعمارة جميلة حديثة، من نوع (الفيلا). وفرش، وأثاث، من نوع" العال العال"!‏

    لماذا البخل؟ ولينتشر الفرح في كل مكان. فثمة ريوع أطيان. وتجارة طائلة. رحم الله المورثين.‏

    (4)‏

    الأرض حتماً كروية.‏

    طبعاً، هذه " الفكرة". لم تقبل حتميتها، في ذهن الإنسان بيسر وسهولة. بل كان لها شهداء، من بني الإنسان أنفسهم. ولكن، لايغرب عن البال، أن شهيدها الأكبر، هو من كان قد هرق دمه على مذبح " حركتيها ": حول نفسها. وحول أمها الشمس أمها هذه مازالت تنيرها، وتدفئها. ايْيْيهْ! ايتها الشمس. لولا ضياء النهار. وسواد الليل. لما عرفنا " الزمن". هذا الزمن الذي يجعلنا نحسّ أننا ننمو، ونصبح كباراً. بعد أن نولد صغاراً. واه...! يازمن. اسحب بحبلك الأملس، اسحب على بكرتك المطلقة تلك. ثم كرّي ياشهور. وهاتي ياسنون. الطفلة صارت صبيّة. والنخلة صارت شجرة. ومروان ونجلاء صارا كهلين. بل ترهّلا، وامتلأ جسداهما بالشحم واللحم.‏

    ظلت هيفاء وحيدة لأبويها. والنخلة وحيدة في مكانها. يجتمعان دوماً ليستأنسان كصديقين حميمتين. بل كأختين تشتركان في العمر، والوحدة؛ وفي الرعاية والاهتمام من الأهل. لهيفاء أطايب المأكولات، وأجمل الملبوسات. ولنخلتها أنقى الماء، وأغلى الأسمدة. وذاع صيت هيفاء؛ الصبيية الجميلة، الثرية. كما ذاع صيت شجرتها الباسقة، التي صارت، تطلّ عليها، من شباك " عليّتها، بتاجها المرصع بالخضرة.‏

    (5)‏

    بعد ليلة صاخبة. امتلأت الدار، فيها، بشراً من كلا الجنسين، ومن مختلف الأعمار. تحرّكوا، وقفزوا، ونطّوا، على أصوات الصنوج، و" الأورغات".‏

    لم تعد النخلة تشاهد تِربها. ورفيقة طفولتها، هيفاء. أين ذهبت؟ ابتعلتها الأرض، أم السماء؟ أنا ما زلت هنا، ياأختي هيفاء. في باب عمارتك انتظر (طلّتك الحلوة) لتمضي قيلولتك الأنيسة، تحت ظلّ رأسي المتوّج بالسعف العريض. وهأنذا مازلت أحرس غرفتك، كالعادة، في الطبقة الثانية. أتكئ على حافة نافذتها. وأرنو إليك، فلا أجدك.‏

    فأشرع في السؤال، والبحث عنك.....‏

    أمّ هيفاء، من جهتها، لا تدري لماذا صارت تكثر الأوراق اليابسة في النخلة؟ علماً أنها تواظب على سقايتها وتسميدها.حقاً إن النخل نبات يحسّ، ويشعر، يفقدويحزن، مثل بني الإنسان، والحيوان:‏

    - (خروف احجزه عن قطيعه يملأ الدنيا ثغاء)-‏

    (6)‏

    الشمس مازالت تطلّ حنوناً، على المدينة. والزمن، معها، مازال يلفّ حبله، الذي لاينتهي....‏

    بعد أربع سنوات، من الصبر والمرارة. دبّ في أوصال النخلة ارتعاش بل كأنها شهقت، فعلاً، مثل بني آدم، من عظمك المفاجأة! أهذه أنتِ، ياخدن عمري، ياهيفاء؟ منذ متى لم تستظلّي بفيئي؟ من ذا الذي يقف بجانبك سامقاً بقامته. بهيّاً بطلعته؟ أهو قرينك؟ زوجك؟ ومن تكون هذه الطفلة الصغيرة، التي تشابهك؟ أهي ابنتك؟ آه... ياهيفاء!....‏

    ذكرتني طفلتك هذه بأيام زمان. أيام طفولتنا، أنا وأنت.‏

    منذ عشرين سنة ونيّف.... أ.... أ.... ما اسمها؟....‏

    آه منك، ياهيفاء- مرة ثانية-! أتتزوّجين، وتنجبين طفلة مثل القمر، دون أن تسألي عني؟ ألم تعلمي أننا نحن بني النخل، نتزوج مثلكم، أنتم، بني البشر، والحيوان؟ ألم تقرأي هذا في الكتب؟ كم التقطت منِ تحتي عرانيس الحشف الضامرة اليابسة، التي كانت تسقط طرحاً، لعدم وجود أبٍ لها. أنا أريد أن أنجب مثلك. أنا لم أخلق للزينة، وتجديد أنفاس العمارات فحسب. بل أنا نخلة فتية. أريد أن أقترن بفتىً، من بني جنسي، وأنجب، مثلك، أنجب بلحاً رطباً. تذوقينه حلواً كالشهد. لماذا هذا الحرمان؟‏

    وهبّت هيفاء، لحظتئذ، من نخلتها مذعورة. ومازال يترجّع في أذنيها صوت عويل النخلة. ويتساقط عليها من جريد سعفها المهدّل، الذاوي مايشبه حبات المطر

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()