بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:23:21 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1209 0


    مساقط الضوء

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جاسم عاصي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    اليوم الثالث مضى، وأنا وسط الجوف الغامض، الذي لم أألفه بسهولة، كنتُ أجاهدُ للاقتراب من موجوداته، والدخول في تفاصيله، كل شيء فيه مرعب، كان ذلك أول الأمر، لكن الخوف تضاءل كالظلام، رويداً، رويداً، وكنت أتساءل، من يحميني من سطوة خوفي وترددي الآن..؟! بعد أن دخلته بمحض رغبتي وطموحي.‏

    إذ قال لي بعد أن أدرك تذمري وحيرتي كل الذي تريده هنا، أدخل ولا تتهيب، فدخلت، كانت الرائحة أول ماحاصرتني، وأنا أدخل قدمي الأولى، وأضعها على أرض الجوف الغامض، قال: انظر، إنه كنز لا يحصى من الخشب، ونظرتُ، حيث برز لي مسرح عريض، تتعامد جوانبه، اختفت الأشياء من حولي، ثم ظهرت كالوهج المبعثر على نقاط متباعدة، لا يلمها ويجمعها سوى هذا البريق السريع الأخاذ، والذي يكشف البقع الداكنة من الظل والظلام، الذي اقتحم المكان وسدَّ المنافذ من كل الزوايا والسقف، أخذت خيوط الشمس تتسلل حادّة كالسهام من خلال ثقوب الصفيح، مخترقة جمود الأشياء والهياكل الرابضة بصمت مخيف. مكان موحش، صامت، ثقيل، لا تثيره سوى حركتي التي هي أشبه بالدبيب..‏

    لقد قادني بساقين نشطتين، تحثان بعضهما، وأدخلني سور الحديد، وولج معي مدخلاً طويلاً، وأنا أتبعه طائعاً، كان الممر خافت الضوء، سرعان ما انفتح على هذا الجوف الذي يحتويني كالنواة، والمزدحم بقطع الخشب والمسامير التي كان الصبي الذي معي طيلة الأيام المنصرمة، يهتم بها، يجمعها إلى بعضها، ويعيد لها استقامتها، هذا الصبي لا أدري من أين أتى..؟! وهل اقتحم هو وحدتي.؟!‏

    أم أني اقتحمت عالمه..؟ لكننا ألفنا بعضنا بعضاً.‏

    قطع منكفئة على بعضها، أو مرمية على الأرض بارتخاء، أو مستندة إلى الجدران عُلب طويلة وضيقة، ذات نهايات مخروطية، احتوت الأجساد الطرية المدماة والمحالة إلى اصفرار ميت، مستطيلات مجوفة، مفتوحة الوجه، وأخرى مغلقة، أكداس متداخلة مع بعضها. قلت وقتها: إن تنظيفها وتفكيكها يتطلب مني جهداً مضاعفاً، ترى هل أمتلكه؟! هل أستطيع التخلص من سطوة الجوف، والهرب خارجاً؟! وماذا يقول عني..؟! لم أُصدق أني استطعت فعلاً تجاوز ترددي، ثم نسقت كل شيء، بعد عمليات التفكيك المتواصلة. تسربت خلالها إلى جسدي، روائح غريبة، وخانقة، لكن حين انكشف كل شيء من حولي، واتضحت المعالم، أدركتُ أني داخل قبو مظلم لولا مساقط الضوء المنبعثة من شقوق وثقوب السقف الصفيحي، بحيث طغت على ضوء المصابيح الراشحة، والتي تدلت بأسلاك نحيفة من الأعلى، حتى بدت مثل نقاط مبعثرة أمام هذا التناسق الواضح لخيوط الضوء الساقطة من الثقوب والشقوق، والسائرة بتواز رشيق، مضيئة عتمة الأشياء، ومقتحمة ظلالها، كاشفة عن مستطيلات الخشب، واتكاءاتها، غير المنتظمة. وقتها اقتربت ببطء حذر نحوها، كما لو أني أسير على أرض مجهولة.‏

    ارتخت نظراتي على الأشياء أول الأمر بتهيب وخوف كامن في داخلي، حاولتُ زحزحة قدمي عن الأرض الصلبة المفروشة بالاسمنت الأسود، لكني أدركتُ ثمة قوة تربطني إليها، وأني غير قادر على تحريكها والتجوال في مثل هذا المكان المليء بقطع الخشب ومستطيلاته، دون أن أجري تعديلاً يناسبني، وأن أُولدَ استقراراً مالحالتي، مقترباً أكثر من المكان، فهندسته وغموضه كونا نقطة ضعفي وخوفي وترددي، ويقيناً لا يمكن المكوث هكذا مقيد القدمين بالوهم، فإما خطوة إلى الأمام، أو خطوات متقهقرة إلى الخلف، والمبارحة نهائياً.‏

    ازداد هذا الزخم من التردد والإصرار والخوف، واستطعت أن أمسك بحبل دقيق، والابتداء بالتجوال في فوضى المكان بحذر. ما الذي قذف بي إلى هذا، غير فضولي، ورغبتي في التحقيق، وشهوتي الدائمة للاكتشاف..؟!‏

    وإلاّ ما شأني بهذه الأماكن التي لم أرسم لها صورة مافي رأسي؟! هل يصح أن أتراجع..؟ كنت ممسكاً ومازلت بالمطرقة، والكلابتين، أفرغ فيهما خوفي، واستمر تجوالي. لا أدري كيف انقضت الأيام الثلاثة؟! غير أني أحسب أن يقظتي ابتدأت اليوم، اليوم الرابع الذي أشرع في الدخول إليه، كنت كل يوم أدخل فيه الجوف، يبدو لي يوماً جديداً، حيث ألاحظ حالة التبعثر قد كونت في نهايات الليل وبدء الفجر أفواجاً من العلب الخشبية تكون قد سبقتني وتكدست دونما نظام، ولم أشعر إلاّ بجفاف فمي وخواء معدتي إذ تعودت أن لا أتناول أي شيء في الصباح، حيث أفاجأ بالرائحة المحتبسة والخانقة، فها هو اليوم الرابع يبدأ وأنا على الإحساس نفسه بالرائحة المنبعثة من القبو، ويتوالى المشهد نفسه، وتتجدد أكداس المستطيلات في مدخل الجوف، وفي داخله أثناء فترة غيابي ليلاً، كأني أبدأ العد التنازلي. رفوف الخشب النظيف، على تراصفها وتراصّها، وأكداس المسامير المخلوعة من جسد الخشب، تكون أكواماً منتظمة مازالت باقية، بينما تضاف تلك الرفوف غير المتناغمة من المستطيلات، كنتُ أُسابق الزمن، وأنا أعمل خوفاً من فشلي، حتى داهمني التعب والإعياء يوم أمس، فاكتفيتُ بخلع قطع الخشب، وتركها على وضعها، منطرحة على الأرض، سارعت من فوري، حملتها جميعاً، واحدة تلو الأخرى، وأكملت الرف الذي يسع لرصفها عليه. الزمن يدب كما لو أنه مقيد بأغلال. كان بإمكاني الاكتفاء ببضع قطع منها لبناء المسرح الذي أرغب، وأنقذ نفسي من مغبة التمادي هذا.‏

    لكني استمرأت الحالة، فواصلت، يشدني المجهول الذي عشقته، لذا فإني مشدود إلى شيء غامض، والزمن يزحف، وأنا أطوف داخله كقطعة فلين صغيرة، أزحف باتجاهه، قطع من سراب هنا، لا أدري كيف تذكرت ذلك الغّطاس الذي أدرك أنه ليس في قاع البحر، حيث نط إلى الماء بحثاً عن اللؤلؤ، مدركاً ذلك جراء حرارة المكان وظلامه، فاستل خنجره من حزام وزرته، وراح يطعن ، ويطعن بجدار ليّن، يموج وينفعل ويحتقن، وهو يزيد من الطعن بقوة، حتى لفظه جوف الحوت خارجاً، طفا كقطعة من دم، كان جسده مقشراً، فكيف بي وأنا وسط هذا الاستحواذ، وهذه الرغبة، وتلك الشهوة التي تحثني على الاكتشاف، لاشك في أني أُدمر نفسي في مثل هذا البحث الذي ابتدأ من نقطة عابرة، وسار في دروب طويلة، لاتسعفني سوى المطرقة والكلابتين والصراخ، المنبعث بين حين وآخر من الساحة خارج الجوف.‏

    أول مادخلت في اليوم الثاني، وأنا أصارع التردد مازلتُ، ملأتْ أُذني صرخة لم أسمعها من قبل، صرخة أفرغت كل أحشاء مطلقها. كان صوتاً نسائياً، مفجوعاً بعدها، استمر الصراخ على شكل تنهدات وأنين متقطع وكان يصل إليَّ بطيئاً واهناً، عبر سلك وهمي يدخل إحساسي، ويتسرب إلى خلايا جسدي، وأنا بين التردد والخوف، وفجأة فُتح الباب، وقذف بمستطيل خشبي اقشعّر له بدني، كانت جوانبه تقطر دماً، معلقة فيه قطعاً من القطن الذائب المحمّر. لم أستطع المواصلة لدقائق، ثم ألفت المحال، فأخذت أسابق الزمن كي أكون بموازاة مايقذف نحوي من المستطيلات أوأزيد من دأبي ونشاطي في زمن يقودني وأقوده عبر قطع الخشب هذه، وبخطوات متواصلة من التفكيك والخلع، نجر خطواتنا، ونتمادى في الغور أنا والصبي، بخطوات أحسها ثقيلة ومتعبة، وموغلة في المجهول على إيقاع جديد، يتداخل مع الروائح والأصوات الخفية، التي تدخل كريح عاتية، يضيق بها الفضاء الخارجي، فيزداد ترددها في داخل الجوف كالعويل، فهو المستقر الأخير للأصوات والترددات، وأسرّة الأجساد المدماة تلك الأسرة المسيجة والمسقفة، لحظتها أدرك وأسمع أنين كل المستطيلات والخشب المرصوف بعناية، أنين ينبعث من الشقوق والثقوب ومكامن المسامير، أحمله داخل رأسي،حيث أُغادر المكان، يؤرقني أنين من انتابه الخور والانطفاء، أنين متواصل ينبجس من خطوط تماس القطع الخشبية مع بعضها ببكائية، تحاكي بكائية الخارج، ينام معي طيلة الليالي السابقة، أنين لجسد منطرح على أرض رطبة أو رخوة، لا تشهده إلاّ السماء النارية، كنت أتلقف نفساً عميقاً، وأنا أنقل قطع الخشب بعد الانتهاء من تفكيك مستطيل واحد، حيث أضعها في الزاوية المعدّة بتراصف طولي، واحدة فوق الأخرى، حتى تعلو فوق قامتي، بعدها أحضر سلّماً خشبياً، وأسنده إلى جدار الخشب، وأبدأ بتسلقه حاملاً القطع، أرصفها مرة بعد أخرى، قطعة إثر قطعة، حتى السقف.‏

    بالأمس شعرت بثقل القطع على انفراد برغم تشابه أشكالها وقياساتها قطع متناسقة مع بعضها، مثبتة بعناية تسع قامة الإنسان، وتحوي جسده وتضمه بإلفة، تحجبه عن الضربات الأخرى، حدود خشبية دافئة، وفراش صلب ذو رائحة خاصة، اختلطت فيها الأدوية والمطهرات، وفساد اللحم البشري، وتخثر الدم وتجلطه، ونتانة الأجساد، وتعفنها، رائحة البارود والتراب المحترق، خليط من الديدان المتحركة والمنبجسة من بين فتحات الجروح المتقيحة، ومن السيقان المبتورة، والمكممة، ذات الأعصاب المتدلية السائبة، والتي رسمت آخر ارتعاشاتها، حيث استقر الساق هكذا، واستنام الجسد وسط مستطيل تكاثرت أعداده، وآن لي كي أفككها، حملت آخر قطعة من خشب البارحة، وضعتها على مستوى آخر قطعة، ابتعدت قليلاً عن رفوفها المتراصة، وقطعة فوق أخرى، ولو أني حسبتها جيداً لعرفت أنها أجساد متراصفة، مثلجة على بعضها، ترى من أين لي بهذه القوة، وقد أصبحت الرفوف متجاورة، وأنا أتوسط حدودها الملساء، والمتراصفة عمودياً، حتى السقف، حدود من الأجساد البشرية الساكنة، وأنا وسطها مثل نواة صغيرة تنبض بالحياة، أدب بينها، رفوف خشبية فاقت طول قامتي، فأخفتها -نظرتُ إلى باطن كفي، لاحظتُ أن آثار غرزات المسامير، وضغط الكلابتين، قد نحتت فيها ندوباً وكدمات كنت أحدق بالصبي الذي يأتي عصراً، دون كلام وينشغل بملئ كيسه الجلدي بالمسامير التي تتخذ لها أشكالاً متباعدة، يلمها جميعاً، مسماراً إثر مسمار، يدب على الأرض، يلتقطها كالطير، إن وجوده المتقطع معي يملأني بالحياة، ويبدد وحشتي، كانت حركته الدؤوبة أشبه بدبيب صرصار على قطعة ورق، حركة تذيب كل الوحدة التي أنا فيها، الفاجعة التي يتركها الصراخ المنبعث من الخارج في داخلي.‏

    لاحظت أن كدساً من المسامير مازال في الزاوية، فقد تغيب الصبي يوم أمس عن الحضور، ترى ما الذي منعه عن ذلك؟! كان يأخذ المسامير ويعيد لها استقامتها، كان الفجر قد ابتدأ بصراخ، لم ينفك إلاّ وتواصل بذبذبات جديدة، شرعت باب الموت. نظرت إلى الساحة، بدت مليئة بالرجال وأكداس النساء والضجيج المتداخل، أفواج من البشر تدخل من فتحة السياج المديد، مع أفواج من المستطيلات الخشبية، سمعت رجلاً يقول: ربي استرنا واحمنا، ربي استر أمة محمد، لاحظته وهو يمسح وجهه بباطن كفيه بعد أن بسمل وقرأ سورة الفاتحة، وولى وجهه نحو الجمع المكتظ في الساحة، عدت إلى الجوف كأني انعزلت عنه، عليّ أن أبتدئ لئلا يسرقني الوقت، وأنا في حيرة من أمري، كانت الساحة عبارة عن خليط من الناس، كل يراقب مستطيله الذي علا سطح السيارة.‏

    كتل وحشرجة من هستيريا وانهيار، وأجساد ساكنة مكشوفة للهواء، ورجال مهدلة ملابسهم، مبعثرون، ومنهكون، تتداخل معهم أفواج، كل يحمل مستطيله بقوة، وأسى باتجاه الساحة، ورأس تتلصص عبر الباب من بعيد، عيناي تتشبثان بالصناديق من الأعلى، من أين لي كل تلك القدرة على حلقات من الرجال تطوق جمع النساء المتهدلات، مارّة كثيرون على الشارع الإسفلتي، بوجوه متسائلة، ووجوه مكفهرة، وسماء مفتوحة، وجدران ممتدة ومتقاطعة، رصفت بقامات الرجال والأطفال. لاشيء يمكن أن ينفذ إلى الساحة، فقد استقرت بصناديقها البشرية في الخارج بالقرب من السياج المشبك، أي جهد أحتاج..؟! أحشائي تضطرب، أدخلت رأسي، فتح الباب فور دخولي، رمت أيد خفية مستطيلاً خشبياً، كان يقطر دماً حياً، ثم آخر وآخر، توالت الصناديق على بعضها، وازدادت الرفوف والصراخ، يرمونها ويولون وجوههم صوب بهو الدكة الاسمنتية، وحوض الماء الجاري، المليء حيث ترقد الأجساد المثقوبة والمشوهة، أجساد ساكنة مرة أخرى، بعد سكونها الأول في الصناديق الخشبية، تتوحد مع الماء، ورغوة الصابون والتدليك والكافور، ورشقات الماء وانسكابه من إبريق النحاس، وتبدد الدم المتجلط وتحلله حول الجروح، وسيحانه على الجسد بسواق دقيقة، وانحدار بطيء على الدكة الاسمنتية، ثم التقائه بالمجرى الواسع من الخط الأحمر القاني المشوب بالتجلط الآخذ بالتحلل التدريجي، والسائل بقوام ثقيل، يسيح بلمعان كثيف، أتلقف المطرقة، والكلابتين كالعادة، وأبدأ العمل على أصوات الاستغاثة منذ ثلاثة أيام، واليوم الرابع، ابتدأ، أضرب اللوحة بالمطرقة، فتسقط المسامير من مكامنها بحدة، وتنخلع، ثم أصوب مرة أخرى، فينخلع الجوف الخشبي، أنظف القطعة من المسامير، ثم أرميها إلى جانبي، عليّ التوازن مع ماهو موجود من ليلة أمس، وماتكدس أمامي الآن، وماسيأتي بعد.. رحت أضرب بعنف دون هوادة، أضرب، وأضرب، وأخلع، وأفكك، وأنظر دون وعي بالأشياء من حولي، ومن أمامي، كانت قطع الخشب تحتويني وتحاصرني، قطع موشومة بالكتابات والتواريخ، وأسماء الأماكن، وذكريات منطفئة، وجيوب مليئة بالرسائل المقروءة والتي لم ترسل إجاباتها، أبيات من الشعر والأبوذية، رسائل وصور لقاءات، ونصف تفاحة وقليل من العرق يستقر في قعر زجاجة قصيرة، أُغلقت بإحكام، نقود ومحافظ جلدية، أسراد لم تكشف بعد، خواتم وحلقات، زواج، وساعات، ينبض فيها الزمن، ويصارع توقفه في الجسد، أسماء أقرأها، تسكبها جيوب الوافدين في أجواف الصناديق.. نقشت على عجالة على جوانب المستطيلات..‏

    - محمد علي المسعودي... ناحية الحسينية... استشهد في ....‏

    - صباح السيد نوري... حي العامل رقم الدار 4555.... استشهد في...‏

    - حيدر سرحان... باب طويريج مقابل دكان حميد النجار.. استشهد في...‏

    - صاحب الشاهر.. محلة السعدية كربلاء... استشهد في...‏

    خالد...علي.. حسن...حسين... عباس كاظم... أسماء وأسماء، قوافل متراصّة الصفوف، تدون في الأوراق البيض السجلات، أسماء تتوالى وتتكرر، ويتداخل بعضها مع بعض، ومداخل غامضة، ومشروع في دخول طويل السير، أماكن تنشّد إليها، وتعود لمستقراتها كالجداول لتنطرح وتحكي للأمهات، والآباء والإخوة والأصدقاء والأبناء والحبيبات عن شواهد لم يألفوها، ورقود أبدي لا يرغبون فيه.. ووداعات، ووجوه ناصعة البياض، وأخرى لوحتها الشمس، وجوه وأسماء أعرفها، استلت من قاموس صداقاتي، وأحبتي، وجوه ذات سمات جميلة ترقد بسلام في الجوف، وأسبلت سواعدها عن كفوف معفرة بالتراب، متشنجة الأصابع، منفرجة عن بعضها، كأنها غارت في أعماق الأرض قبل الاستكانة، أجساد تغادر صناديقها، لتفسح لها مكاناً على دكة الاسمنت لتستحم، وتعود للأنهار وسيل مائها، ترمى في الماء المطهر، وترحل بعيداً حيث المجهول. ضربت، وضربت، نز إصبعي دماً، لم أُبال، سال الدم أكثر وأكثر، خطاً أحمر غمر كفي وسال على جسد قطعة الخشب، نحو الدم السائل الذي يقطر من الصندوق، امتزج معه، سارا سوية بساقية دم ثقيل، انحدرا نحو الأرضية. ضغطت بإصبعي كي أسدد المجرى المتدفق، لكنه تدفق من إصبع آخر في كفي، تدفق من كل أصابعي، وإذ حاولت أن ألمّ كفي على نفسها. نز الدم من الخشب، وسال بسواق متوازية نحو الأرضية، وأنا أضرب بالمطرقة ضربات متوالية، فيماتحولت الصناديق إلى هياكل خشبية متباعدة عن بعضها، أخلع المسامير، أفصلها عن الخشب، وأُحول الصناديق إلى قطع جانبية، وغطاء ودثار، يرقد عليه الجسد، حدود صغيرة من الرأس والقدمين، أنحيّها جانباً، وأتواصل مع الآخر، قطع تلو قطع، وصندوق تلو صندوق، مستطيل بعد آخر، ومسمار يتبع مسمار، رفوف من العُلب الكبيرة، والقطع المتراصّة، رحت أبحث عن زاوية أضع فيها القطع المنتظمة أرصفها فوق بعض، سرعان ما تطال السقف، وتخفي قامتي.. وباب الجوف يمتلئ بالصناديق الجديدة، كما لو أن حزاماً آلياً يقذفها نحوي، وأنا مرتبك، أمتلك طاقة محدودة أعالج هذا وذاك، لمحت الصبي ينتهز فرصة انفعالي، وهو ينّدس كالجرذ بين العلب التي سدت المدخل، يلجها في هدوء، ثم ينط من فتحاتها نحوي، ولا يبالي، كان يحمل مطرقة، اقترب مني، أدرك انفعالي، أخذ مني قطع الخشب، وراح ينظفها من المسامير وأقوم أنا بالتفكيك السريع.‏

    هكذا لبثنا سوية، وهو يحدق بوجهي، وبساعدي المضرجتين بالدم الحي، كانت عيناه دامعتين، وهو ينظر نحوي، ويحاول قول شيء، نظرت إليه أكثر، تغيرت سحنة وجهه، وأخذ ينشج ويتجلد، ندَّ منه صوت حاول كتمانه، ثم قال: لماذا تبكي ياعم..؟.. قلت: أنا لا أبكي ياولدي.. أنا لا أبكي..! مسحت عيني بكم قميصي وواصلتُ..‏

    أخذ ينتقل بجسده الصغير من مكان إلى آخر، حاملاً القطع بصعوبة، يبقيها بعيداً عني كي لا تسد الطريق، خليتان نشطتان صرنا وسط موت طاغ، تملأ رأسينا الصرخات والاستغاثات، وحين انتهيت، تنحى جانباً وجمع المسامير المعوجة على بعضها، وكون منها كدساً كبيراً ثم انتقل إلى كوم المسامير ليوم أمس، وأخذ يعيد لها استقاماتها بالمطرقة التي جلبها معه، بينما انشغلت أنا برصف القطع على بعضها، أبحث عن زاوية فارغة منها، أسدها بكتلة متراصفة حتى حجبت قامة الصبي عني، واضمحلت الفتحات والمداخل، أخذت الشقوق والثقوب في السقف ترسل ضوءها على سطوح القطع من الأعلى، بعيداً عنا، حيث ازدادت عتمة المكان.. كنت محاصراً، لا شيء ينقذني.. رحت أفكر.. في أي مكان أستطيع التفكيك من جديد فالرفوف الخشبية من أمامي، وأخرى من خلفي..، تسيجني الرفوف من الجانبين، وأنا نقطة تائهة وسط هذا الجوف الذي أخذت رفوفه تقترب مني، وتحاصرني، وتسد المنافذ دوني، بينما امتلأ المدخل الآن بالصناديق المدَّماة والساحة كذلك، فمن أين لي القدرة على التحرك..؟! ومن أين لي بالفسحة لأقوم بالتفكيك والرصف والتصفيف فيها؟! ارتخى جسدي، حيث أدركتني أصوات خافتة ونداءات آتية من أماكن بعيدة نائية، لا أدري أمن القطع والعلب؟! أم الحناجر.. تأتي باتجاهي..؟! وتملأ كل خلية من جسدي، حدّ رأسي، تختلط مع بعضها وتسد مساقط الضوء، التي كانت ترشح ضياء، يذوب على سطوح الرفوف، ويتبعثر، ثم يتلاشى، إذ لا قدرة لي الآن على التفكيك، ولا حتى التركيب مطلقاً واليوم الرابع لم ينته بعد.. أنا محاصر بين رفوف الخشب والصلب، والتي سدّت باب الجوف، وحالت دون حركتي...

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()