بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:21:19 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 927 0


    المرآة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جاسم عاصي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة المرآة جاسم عاصي

    لم أستطع اليوم إنجاز أي شيء، فقط درت كاللولب بين المكتبات، أتفحص ماصدر من الكتب، ومانشرته الصحافة، لذا فإن نهاري هذا غير ممتلئ بجديد. هذا ماقررته صباحاً، وماعمدت أن يكون الوجه المقبول لدي، بعيداً عن الهموم، وتقلبات المزاج التي تعكسها عندي حدة التفكير والانشغال بما يمليه عليّ ذهني الذي يعمل كالجهاز الدقيق، تتوارد داخله الرسائل والومضات، وتزدحم في زواياه الصور، حيث تحاصر بعضها البعض.. وأنا منقاد معها هكذا.. قلت في نفسي: أما يكفي كل هذا ياترى لأنعم بفسحة من الهدوء...؟! وبعد أن أنجزت مهمة تجوالي اليوم تحت وطأة الشمس والاحتماء تحت المسقفات، حيث الظل الوارف، قررت الدخول إلى دائرة البريد.. وكان قراري غير مبرمج . إذ المفروض أن أكون اليوم في المستشفى مع والدتي المريضة، غير أني وبدافع لا أدركه قررت الدخول إلى الدائرة، والاتصال بالمستشفى والسؤال عن صحتها أولاً، ومن ثم الذهاب إليها لقضاء الوقت الباقي من النهار عندها، ومراقبة -كما في كل مرة- تلك الأجهزة والمجسات التي كبلت جسدها، والشاشات التي تومض وتعلن الإشارات والخطوط المتباينة، اقتربت من جهاز الهاتف، وانتظرت أن يفرغ منه أحدهم، ولحظة نزول الرقم، جاءني الصوت واضحاً، سلمت على صاحبه بمقدمة لائقة يتطلبها هذا اليوم، قلت له :أحلني إلى شعبة الإنعاش من فضلك.. فأجابني صوته عذباً ورقيقاً وسلسلاً مفعماً بكلمة رددها مراراً ممنون... ممنون.. مما أثلج صدري وشجعني على تكرار مثل هذه المكالمات، والبدء بمقدمة أكثر لياقة من هذه التي قمت بها. وحين رن جرس الهاتف في الشعبة، تأخر كثيراً، حسبته سيسبب إزعاجاً للمرضى المحتاجين إلى عناية خاصة. في شعبة الإنعاش، سببها أن جهاز الهاتف موجود داخل الردهة، وسيقض هدوئهم وسكينتهم، بما له من صوت ورنين مؤذٍ، يشبه جرس المدرسة. تصورته كمن يدلق بصوته الثقيل ويعيد النداء غير المتجانس ولشد ما تأسفت لفعلتي هذه، إذ كان من الممكن الذهاب إلى المستشفى دون هذا الاتصال الهاتفي، لكن توالي الرنين شدني إلى أمل حضور أحد ومعالجة مثل هذا الإزعاج. وفعلاً لم يدم الرنين طويلاً، حيث رفع السماعة أحدهم فجاء صوته هادئاً حريصاً، أشعرني بالألم والأسف، لما لصوته من نبرة منخفضة، حتى لا يزعج المرضى. سألت عن والدتي، بعد أن أمطرته بالتحايا والاحترامات، سكن قليلاً قبل أن يجيب ربما ألقى نظرّة على سريرها، لكي يجيب ثم قال:‏

    - من تكون لها يا أخي..؟‍‏

    - أنا...؟!‏

    -نعم أنت.‏

    - أنا ابنها‏

    - لم تزرها منذ يوم أمس..؟!‏

    - بلى.. المشاغل ياأخي..‏

    - هذا غير صحيح...‏

    - حتى لو حضرتُ يا أخي، فإنهم لا يسمحون بالدخول.‏

    - السؤال فقط، السؤال مهم يا أخي.‏

    إعتذرت ، وقلتُ له باختصار بأني قررتُ الحضور إلى المستشفى وزيارتها، لكني فضلّت الاتصال أولاً، وهذا خطأ أقره، وسوف لا يتكرر إن شاء الله، لكنه أجاب:‏

    - يجب أن تحضر.وفوراً.ارتبكت وأنا أردد:‏

    - ما الذي حدث، أخبرني يا أخي؟!‏

    - لاشيء المهم أن تحضر.‏

    كنت مرتبكاً فعلاً ، أطبقتُ سماعة الهاتف، وربما لاحظ من كان ينتظر بالقرب من الجهاز شدّة انفعالي هذا، وأنا أغادر دائرة البريد دون وعي، ولكن في الطريق بدأ هدوئي يعود إلي، وأخذتُ الأمور بروية، وزال انفعالي، وهذه هي طبيعتي دائماً، قلت لنفسي، ربما عادت لها النوبة ليلة البارحة، والخفير كان يراقبها، وربما طلبتني، وهذا أمر هام بالتأكيد ربما رغبت أن توصيني بشيء يخصها، فهي أدرى بما لي من صفات تبعدني عن الوصايا، إلاّ التي تخصها، ولم تنفذها في حياتها، فهي تعرف أني لا أقبل وصايا على مال أو تركة، ودائماً أكون في الزوايا البعيدة عنها، وكثيراً ماضحكتْ باستغراب، وعدم تصديق ماقلته لها؟! من أني أكره النقود والأموال والميراث مكتفياً بالميسور منها، غير أنها بعد ذلك صدقت ما أقول، واعتبرته حالة عادية لصيانة نفسي من السقوط في الهاوية، ولم تلح بشيء من هذا، فكرت بشأنها كثيراً، رغم علاقتي بها، والتي نمت عن علاقة خاصة، ليست علاقة ابن بوالدته، بل على أسس لا أدري كيف تكونت، ربما من الابتعاد عنها مراراً ولسنين، ثم العودة للعيش سوية، وربما لظروف لا نعرفها نحن، فقد كانت شديدة الحرص على فهمي واستيعاب وضعي النفسي، وتقلب مزاجي، واهتماماتي الكثيرة بالقراءة والكتابة، لذا فليس من أمر ما قد يحدث فيترك فجوة بيننا، بل ارتكزت علاقتنا وفق شيء عميق وغامض، حتى مرضها الشديد هذا، لم يكن بدرجة أفجعتني، ولربما بسبب مقدمات الأمراض التي عانت منها، لحظتها كنت أنظر إليها، وهي تظهر قنينة الدواء، حيث تدلق محتوياتها داخل راحة كفها، فتمتلئ بالألوان المختلفة، مثل حلوى الأطفال، تأخذ بفرزها بأصبع السبابة، وتنتقي بعضها بهدوء. ثم تعيد الباقي إلى القنينة التي تحملها دائماً للطوارئ وبجرعة ماء تدفعها داخل معدتها التي تصلبت، وبان انتفاخها كالحجر، وهي لم تبال بذلك، وحين كنتُ أسألها عن إجهاد نفسها، وأن هذه الأمراض اندفعت إليها فجأة، تقول مبتسمة، وبحكمة كعادتها:‏

    - هل يعقل هذا ياولدي، كل هذه الأمراض اندفعت هكذا فجأة...!‏

    - ولكن كيف ترينها..؟!‏

    - كانت موجودة ، لكني كنتُ أكتمها.‏

    - ولماذا؟!‏

    - وماذا تريدني أن أقول عنها؟‏

    من أين داهمتك..؟ ولأي سبب؟‏

    - كل حياتي أسباب ياولدي لا عليك.‏

    - وحين أدركت المستشفى اتجهت مباشرة نحو الطابق الثالث، حيث غرفة الإنعاش، حدقت من خلال الزجاج العريض نحو سريرها، تأكدتُ لماذا توقف الخفير عن الحديث معي لفترة عبر الهاتف، فهو بالتأكيد كان ينظر إلى السرير الفارغ منها، ففرحت، ربما نُقلت إلى ردهة الباطنية، وهذا يعني زوال الخطر. لمحني الخفير، إذ أسرع إلى الباب وخرج، غير أنه بدا كثير الحرارة، والالتصاق بي، لم أستطع فهم مايريد قوله، والذي كبته داخل صدره، قلت لا عليك، نظر نحوي ثم قال:‏

    - كانت تريدك أن تحضر وتفوهت باسمك مراراً.‏

    - وبعد..؟‏

    - طلبت منها التريث، بأنك ذهبت لشغل ما، حيث قالت: أعرفه. لا يفارقني حتى لو كان بعيداً عني.‏

    ثم انفلت من وضعه إلى الداخل، جاءني بورقة مليئة بالخطوط والجداول الممتدة هنا وهناك، مذيلة بالتواقيع والأختام والأسماء، ثم أشار لي بمرافقته.‏

    ولا أدري إلى أين، قال ونحن نواصل الخطى في الممر الطويل، ونهبط درجات السلالم المتعددة.‏

    - هذا حدث منذ أمس عصراً، بعد أن ذهبت أنت من المستشفى..‏

    - قلت: بالتأكيد كانت هناك حاجة قضيتُها. الحياة أصبحت متعبة، ومن الصعب اللحاق بها.‏

    - إنه أمر صعب فعلاً.‏

    - كيف يدير المرء أمره ياترى؟!‏

    وحين وصلنا إلى غرفة موصدة ، طرقها، دفع الباب، دخل ثم تبعته، لمحت رجلاً يجلس خلف طاولة بسيطة ومتواضعة، تلقف الورقة من يده، كانت ملامحه صارمة وقاسية، حدّق بالخفير وبوجهي، ثم قال:‏

    - هل أنت محمود عبد الواحد.؟‏

    - نعم.‏

    - وهل أن فسيحة السيد علي والدتك..؟؟!‏

    - نعم، ما الأمر..؟!‏

    ضغط الخفير على كفي، واعتصرها، فقد أربكني الرجل تماماً، رغم تماسك أعصابي، حيث أخبرني الخفير بكل شيء. لبثنا هكذا صامتين، انتابني لحظتها الذهول، انبرى بالسؤال أيضاً:‏

    - هل أحضرت التابوت؟!‏

    قلت: - لا... أعتقد أنا لا علم لي بوفاتها.‏

    حدق بوجهي:‏

    - ماذا تتصور يا أخي، إنه من صلب عملنا، علينا التسليم دائماً وبسرعة لا مكان عندنا للخزن والحفظ...؟!‏

    قلت مستدركاً:‏

    - هون عليك، سأعود بأسرع وقت ممكن لا تنزعج أيها الأخ العزيز، بش وجه قليلاً ولان، لكنه أضاف:‏

    - اتبعني لترى..‏

    حدقت بالخفير مستفهماً، لم أجد مايشير إلى فهمه لذلك، عدت أدراجي نحوه مندفعاً كعلامة استفهام قلقة، وحين مثلت أمامه عرف ما أرمي إليه لحظتها قال:‏

    - اتبعني، سأريك. لابد من التأكد هل أنت المعني بذلك، كثير مايحدث خطأ..‏

    فتح الباب، ثم دخلت معه، إلى قاعة متوسطة المساحة، والخفير من خلفي، لا يريم، ولا يبدي فعلاً ما، كانت القاعة محاطة بدواليب حديدية متينة لصق الحائط... وبمجراة ضخمة، ذات مقابض كبيرة، لا أدري كيف استطعت أن أقترب منه، وأتبعه، حيث دنا من أحد المجرّات بعد أن حدق بالورقة، وتفحص رقماً مكتوباً عليها، ورقماً في واجهة المجر، سحبه اقشعر جسدي حيث انكشفت جثة مغطاة بشرشف أعرفه، رفع الغطاء، فبان وجهها كما لو أنها نائمة، ثم طلب النظر قال:‏

    - أهذه والدتك..؟‏

    - نعم ، هي.‏

    وانتابني شعور غامض لا أدركه مطلقاً، حينها أعاد الغطاء على وجهها، ثم طلب رفع ورقة كانت مرمية على صدرها، نظر إليها، بعدها تنحى جانباً، دافعاً المجر إلى الداخل، اقترب من مجر آخر، حدق برقمه وسحبه، ظهرت جثة أخرى مغطاة لكني لم أرتبك هذه المرة، نظر نحوي وطلب مني الاقتراب، والخفير يبعد عنا قليلاً متطلعاً، طلب مني التعرف على الجثة لأنها تخصني..‏

    - اقترب لا تخف إنه أمر عادي...‏

    - لماذا أقترب. لقد تعرفت عليها وكفى...‏

    - لا عليك.. تعرف على هذه إنها تخصك أيضاً، ألم تجد الورقة في المجر الأول.. إنها تشير إلى عائدية هذه الجثة للذي يستلم الأولى.‏

    اقتربت ملبياً طلبه، رفع الغطاء عن وجه الجثة، فشدتني إليها سريعاً يا إلهي.. ماذا أرى ، كنت أحدق بإمعان شديد ووعي كامل، إذ نسيت أني أمام جثة، بل كأني أحدق في مرآة صقيلة، تعكس وجهي، أطلت النظر لكني بسرعة رفعت عيني عنها، وعلى عجالة غادرت القاعة المثلجة راكضاً ، ونداؤه يلاحقني، لا تنسى أن تحضر تابوتين اثنين فقط فيما تداخل في رأسي صوت ناءٍ، وأقدام الخفير تقترب منّي على بلاط الممر الملتمع، وهي تلاحقني.. وأنا أجري هارباً هذه المرة، يلاحقني عواء شرس، يأتي من بعيد ، ويقترب، وأنا أجري بسرعة فائقة

    كلمات مفتاحية  :
    قصة المرآة جاسم عاصي

    تعليقات الزوار ()