بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:26:16 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 829 0


    المدفن

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جاسم عاصي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة المدفن جاسم عاصي

    كنت أستطيع المكوث هكذا، متطلعاً عبر النوافذ التي تتيح لي فسحة معرفة مايدور خارج الدار، لولا إلحاح الأم والبنات، كان اشتداد القصف وأصوات الإطلاقات متعددة المصادر يثير فيهن كوامن وأشكالاً من الخوف غريبة، حيث أصبحن كدمى موقوتة تنط في كل لحظة، مسكونات بالرهبة والهلع، ووقع المفاجأة يطلقن نظرات مليئة بالتوسل وطلب الشفقة، كنتُ أفسر ذلك بحالة التشبث بالحياة، لكن ماوسّع دائرة اليأس عندي، هو إطلاق العبارات التي تدعم وتؤكد تلك النظرات المشحونة بالتشبث، فقد ازداد الحصار أكثر. ومن الممكن سقوط قذيفة تائهة، تُحيل كل ماموجود إلى ركام مما شجعني على التفكير باختيار آخر، غير حالة المكوث، دون كل ساكني المنطقة داخل البيت، الكل غادروا ما إن ازداد السعير، وكانت الأم تؤكد مراراً لو أسرعنا بالمغادرة لكان أفضل لكني أكدت لها/ أن الفرصة متوفرة أمامنا الآن مع علمي الأكيد أن أمر الخروج بات صعباً وشائكاً وسط اشتباك النيران والقصف المتواصل الذي ينزل بشدة، يخفض كل منّا رأسه، كما لو أننا نحاول أن نقصّر قاماتنا، ونلتم على أجزائنا. قاطعي أنفاسنا، أو نلبث هكذا للحظات طويلة نجدها، سرعان ماتجري أحاسيسنا على غير ذلك، فمنذ لحظة قرار المغادرة، وأفراد الأسرة تحولوا إلى خلية جمعوا مايقع تحت أيديهم من الأغطية والمؤن، كانت لحظة تمنيت لو لم ينفذ فيها القرار هذا، لولا الإلحاح، الكثيف. كانت النيران شديدة، ورائحة الحرائق تنفذ إلى أنوفنا، لذنا خلف الباب، حيث انشطر جمعنا إلى قسمين، وأنا أحدق بالذي استطاع الإفلات من أسر البيت.. كانت الأم تقود ابنتيها، والرمي يشتد، ونحن نراقبهما، يلوذون بالأشجار وأسيجة البيوت، لحظة سقطت الأم وفرت البنتين مبعثرتين. أسرع ولدي الأوسط خارجاً، وحين أدركها ترنح وسقط على الأرض، كان جسده يرتجف، ويرتج على تراب ناعم وحصى دقيق. فرّت مني صرخة، ثم أسرعت مع ولدي الأكبر إلى الخارج. أدركتها بسرعة، جمعت البنتين وأوصلتهما إلى باب الحديقة، ثم عدت مع ولدي لسحب الأم. بدت ثقيلة، حاولت، كانت متشبثة بولدها طريح الأرض، ولا أدري كيف استطعنا إعادة الجميع إلى الداخل، والاستقرار في باحة الدار التي سرعان ما امتلأت أرضها بالدم القاني، كانت إصابتها بسيطة، سرعان ماسكنت من الألم، ولربما انشغالها بابنها بدد ألم الرصاصة التي ثقبت عظمة ساقها. كان جسده ينزف، غائباً عن الوعي، تفحصته جيداً، بدا قطعة من الدم، متقوع في حوضه، وبسرعة استطعنا بما كنا نمتلك من أدوية، ومطهرات أن نقف على مكان الجرح. كانت الرصاصة قد اخترقت البطن من الوسط قرب السرّة، أبدلنا ملابسه بصعوبة، شادّين على الجرح الفاغر بضغط قطع القطن المعقم على فوهته، متحلقين حوله، مرتبكين. نأتي على حركات أفعال من الصعب إدراك أسبابها وسط كابوس ناري قاتل، وأزيز متواصل. كانت أصوات الاستغاثة تصلنا من خارج البيت بينما الطائرات تثير في نفوسنا الرهبة والخوف من سقوط القذائف، بينما نحن متحلقين نراقب الجسد الذي داخله السكون، يفيض دماً، حتى لتبدو قطع القطن ثقيلة جداً. نستبدلها بأخرى، وأخرى- هكذا كان حالنا، وأنا أصغي لبكائها، مشدوداً إلى هذا الهاجس من الانتظار، عادّاً خطواتي، مرتبكاً مما قد يخفيه عني الزمن، متوجساً خفايا الأيام، كنت منذ اللحظات الأولى قلقاً على هذا الفتى، منذ أن أطلق صيحته، وجاءت ابنتي تبث الخبر السار/ ولد، ولد ياأبتي/ فركت كفّي ببعضهما كان الجسد ساكناً مقمطاً، أراه الآن مالبث يدفع دفقات الدم. كان يخيفني سكونه هذا، دونما حركة تنم عن حياة فيه / يا أبتي لا أدري لم يداخلني إحساس بأن مجيئي إليكم الآن لغرض توديعكم، إني أشعر بحاجة لسفر طويل/ هذا ماكان يقلقني فيه، حيث بدأ الظلام يجثم بكل اسوداده غير المألوف. انسحبت إحدى البناتِ إلى المطبخ، حيث أحضرت مصباحاً نفطياً، وضعته على مبعدة منّا. كان الليل يلملم كل الأحزان في الأيام المنصرمة، فكيف به الآن، ونحن نتحلق حول جسده الساكن. كنت أتمنى لو تصدر منه تنهدة أو تأوة تشير إلى الحياة، بدل هذا السيل من الدم الذي لا محال سينضب من جسده.‏

    كان الوقت يمر بطيئاً مع ثقل الظلام، وهول الوحشة التي هيمنت علينا، والأقدام التي تبدأ دورتها في الليل، تتخاطف وتترك وقعها المريب على الأرض، مهرولة بسرعة مرعوبة تبدو. ربما هي خطوات العوائل وهي تفر من بيوتها مرتبكة، على عجالة تحت جنح الظلام، متخلّصة من مصير كهذا، أو ربما يطارد بعضهم البعض في الطرقات والأزقة... آه... كم كانت الفرصة أمامنا في الليالي، بدلاً من ذاك النهار حيث يسكت الرمي والرشق، وتتوقف الطائرات عن التحويم، لكن ما الفائدة من كل هذا التأنيب الذي أخفيه، داخل نفسي، وأنا ألاحظ البنتين يهدهما التعب والإعياء، فيبدأ رأساهما بالتمايل والارتخاء، حتى سقطتا بالقرب منّا ، نائمتين بينما الأم داهمتها صفرة في الوجه، أعياها البكاء والأنين، فاتكأت برأسها على كتفي، مما اضطرني إلى السكون على حالة واحدة خوف إيقاظها، بينما كان ولدي الأكبر يدير شؤون أخيه، باستبدال قطع القطن الذي بدأ بالنفاذ.‏

    لاحظته يضيف قطع من القماش النظيف إلى كمية قليلة من القطن، تكون بمواجهة الجرح، بينما يغطيها بقطع من القماش، وحين تترطب، يضيف إليها أخرى وأخرى، لحظة بدا السكون يريم على كل شيء. سكون مخيف وثقيل، لبثنا لعدة ليالي انصرمت بصعوبة بالغة. كان الليل يزحف على أجساد مرهقة، أتعبها الجري داخل البيت، وصور الموت المرتقبة، الموت الزاحف ببطء نحو أجسادنا المهددة. كان انتظارنا للموت المفاجئ حالة اعتيادية، لكن صبرنا كان مايعيننا، صبر من استسلم لحال مفروض، بحيث أصبحت الحياة والموت صوراً متداخلة مع بعضها، يشغلنا شيء غامض، لابد من الوصول إليه، لا مساحة للأحلام في رؤوسنا، عدا تلك الصور المتشبثة بالخلاص، لبقعة من البرّية، أو حقل أو مقبرة، نلوذ بها كما فعل الجميع، نستكين داخلها أو جوارها، وسط زمهرير الصقيع، نلّم أحلامنا المشتتة، وسر وجودنا . أي علاقة هذه التي تقتل كل أمل إلاّ الخلاص من المصير هذا، لقد أصبح البيت بالنسبة لنا مقبرة واسعة، ستنهار جدرانه في كل لحظة قادمة، بينما أجسادنا انتابها إعياء الجوع والإنهاك، شعرت كما لو أني عائدٌ تواً من مطاردة دامت طويلاً. ركضت كثيراً خلالها، حيث لذت بالأرض، كانت المطاردة غامضة. أشباح تجري خلفي، متباينة الألوان والهيئات، متشبثاً بشيء غامض، ربما هو ضوء باهر، لكنه كامن في نقطة بعيدة، وكم حاولت أن أصله وأمسك ولو بخيط من ضوئه لأبثه في كل زاوية من هذا الكون، وأنشدّ إليه، لكني بصعوبة أدركته، غير أنه ابتعد و حاولت، وحين أدركته أفلت من بين أصابعي، لحظة، كانت المطاردة على أشدها، لقد أدركتني السيقان المطاردة، وكانت كف تمسك بي من الكتف كي توقفني، وأنا أقاوم، بمضاعفة الركض خوف أن أقع فريسة بين أيديهم، لكن المطاردة ازدادت، ولشدة ما أدركني الهلع وأنا أحس بسخونة تلك الكف المتقدة، وهي تمسك بي، حتى انتبهت، وجدتُ ولدي مايزال يراقب جسد أخيه النازف، نظرت إليه، وفهم ما أقصد، هز رأسه بالنفي، في حين دقت الساعة مابعد منتصف الليل بكثير، حيث أدركنا الإمساك، لبثنا هكذا صيام لأيام وليال دون أن تدخل في أجوافنا كسرة خبز، استيقظت الأم مفزوعة، وتساءلت على عجالة، ثم هدأت قائلة/ اللهم اجعله خيراً/ تذكرت حلمي، ثم سكنت محدقة بالجسد الممتد بيننا دونما نأمة تذكر، تنبهت البنتان لحظتها قام كل منا، وانشغلنا عنه بأداء صلاة الفجر. كان ساكناً مازال، لحظة ابتدأت الإطلاقات بالنهوض المبكر من مكانها والطائرات تحوم بأزيزها، انبثق النور ببطء منتشراً ببياض ناصع، كشف عن كل ما موجود، حينها اقتربنا من الجسد أكثر، فاجأتنا حركته، فتح عينيه، وحدق بنا ابتسم ثم قال:‏

    - أين أنا..؟‍!‏

    قلت:‏

    - في البيت بين أهلك.‏

    قال:‏

    - الحمد لله، كانت رحلة طويلة تلك التي قضيتها.‏

    استغرب كل منا لذلك، قلت في نفسي، أية رحلة يعني، استدركت قائلاً:‏

    - إهدأ ، أنتَ في بيتكِ والجميع معك.‏

    - وأمي.. أين أمي لقد حاولت إنقاذها ، هل أفلحت؟!‏

    - إنها بخير، إنك أنقذتها يابني.‏

    اقتربتْ منه، رآها، عادت الابتسامة إلى شفتيه، قال:‏

    - أنا جائع يا أبي، أريد قليلاً من الحليب والخبز والتمر،‏

    لم أتسحر بعد.‏

    - لقد حان الوقت ياولدي.‏

    إذ أسرعتْ إلى المطبخ، علىعجالة أحضرت ماطلب، أخذ القدح بكفيه وراح يرتشف منه أول الأمر، ثم سكبه في جوفه دفعة واحدة، وأخذ يلوك من قطع الخبز وحبّات من التمر، تناولها وهو يبتسم، بينما وجهه بدا على اصفرار قاتل، فقد نزف كثيراً، تذكرته وهو يقول، لقد تعجلتُ في الإجازة لأكون بينكم، استبدلتها بإجازة صديقي وفقه الله، حدقت به، كان قوياً ، ليس بجسده الناضب بل بقوة خفية فيه، تعيد لجسده الواهن المقاومة، حيث بدت قطعة القطن والقماش أقل رطوبة، وكانت حركته وأحاديثه أثناء النهار، قد أبعدت عنّا شبح الوحدة، فاستطعنا أن نتناول طعام الإفطار معه، ونام كل منا قليلاً، أيقظني ولدي في منتصف الليل، وحين نظرت إليه أدركت الأمر، خنقته حشرجة أيقظتهم جميعاً، مسبحيين ومبسمليين كأن شيئاً ما قد هيمن بثقله عليَّ. لم أستيقظ إلا والأم تهدئ من روعي، وهي تقرأ آيات من سور القرآن الكريم عند رأسه، حيث شاهدته مغطى بشرشف ملون، لحظتها قررت مغادرة البيت فوراً، تحت جنح الظلام، وإلاّ كانت المصيبة أعظم. وافقني الجميع، لكن الأم اعترضت قائلة، هل نتركه هكذا لوحده ولا نعرف متى نعود/ وقتها تماسكت، ورحت أبحث عن طريق أسلكه، وإلاّ فات الأوان.‏

    طلبت شرشفاً أبيض، لم تعترض، إذ عرفت قصدي. وحين أحضرته لففت الجسد بالشرشف الناصع البياض، وبمساعدة ولدي. كانت فينا قوة عجيبة، تلبستنا إذ تحجرت عيون الأم والبنتين، شددت جسده من الرأس والوسط، والقدمين بقطع قماش، حتى غدا كالمومياء، مقمطاً بناصع البياض. أسرعت ، حيث تبعني ولدي إلى الخارج... راح يمتثل لخطواتي في العمل، بأن أخذ المسحاة وبدأ يحفر في وسط الحديقة، وعند الانتهاء من مواراته في التراب قرأنا سورة الفاتحة على روحه، وأسرعت بتحجر مشاعر وتماسكها، قدمتهم جميعاً، مستغلاً توقف أزيز الرصاص ورشقاته، أغلقت الباب بإحكام، وحللنا خارج باب الحديقة مجتمعين، يمسك كل منّا الآخر كالسلسلة، وسط صقيع مدّمر، حيث تركناه وحيداً في مدفن الحديقة

    كلمات مفتاحية  :
    قصة المدفن جاسم عاصي

    تعليقات الزوار ()