أضحك في أعماقي وأمضي برفيقيّ المكدودين في مهمّتنا... كانا يصغراني بأعوام، يخبّان إلى جانبي بتأفّف، أحدهما صامت والآخر ثرثار... كان على الرغم من نحوله سمين الخدين، ترك شاربيه ينموان بغزارة، ربّما لأنه يستمد منهما هيبة غير منظورة، يدخّن في شراهة، ويثرثر، لاشيء يوقفه عن الثرثرة، لا صمتي ولا سكوت رفيقه، حتى لو لم يسمعه أحد.
الرؤية لا تزال واضحة، والليل لم يجثم بعد.. منتصف الشهر القمري، والسفر فوق الخيل متعة، الأرض تنقلب في ضوء القمر البعيد إلى فضّة منثورة.. ونحن نتهادى فوق جيادنا كفرسان حقيقيين ساعة الغروب...
لم يَبْدُ المخفر القادم كما توقّعت... كأنما انزاح عن رقعة الأرض، والدروبُ بدأتْ تأخذنا على هواها.. ورفيقي ذو الشاربين يعلّق على كلّ شيء تقع عليه عينُه بمرارة. والآخر صامتٌ كقبر. ونحن نواجه الليل طول المسافة.. بدأنا نتخبّط على الطريق الترابي. الأرض من حولنا صارت داكنة، والظلام بدأ يطبق برواقه على الرغم من ضوء القمر الذي مدّ لنا الدروب، وأضاءَ مِنْ حولنا معالم الأشياء.
مَن الذي ينطلق في ليل بدا نهاره شاحباً معتكراً.. كنّا نحسّ بعد كلّ حركة في هذا الليل بالخطر.. شاع فينا اليأس إلى درجة أنّ رفيقي وهو أكثرنا تفاؤلاً ارتجف..
الريح الباردة دهمتنا.. ريح عاصفة تضرب من كلّ الجهات.. وأنا رئيس الدورية أخبّ مع هذين في منطقة ضائعة الحدود.. بين التلال المتقاربة، بحثاً عن مخفر ضائع.. عن قرية في حدود جولتنا المشؤومة..
بدأنا نوغل في الأرض المقفرة، لا أشجار في طريقنا...لا زرع ولا أسيجة.. خيولُنا تلهث برداً وتعباً، تحمحم بنزق، وتخبّ بتثاقل.. وصديقي يزمجر ويحتج، ويرفع شتائمه إلى السماء.. يعلن سلك الدّرك، والوظيفة، يلعن المخافر، ومَنْ فيها، وأوّلَ مَنْ فكّر بإنشائها، لماذا لا يعيش الناس بسلام، وما جدوى الحدود والمخافر والشرطة والدّرك.. لو كانت هناك قرية قريبة..
.. ريح الشرق الباردة ساطتنا، هذه المرة، بقسوة.. صفعت وجوهنا، دارت حولنا، ريح صافرة، تهبّ... تعبر التلال.. لا تجدُ مَنْ يوقفها.. تهوّم نحونا، نحسّ أنها تريد أن تنخر عظامنا...ونحن نمضي تائهين بلا هدف..
من بعيد، وسط الأرض المقفرة المترامية، لاح لنا بيت وحيد، مُتهدّم- ليس من البيوت الكبيرة، لكنّ بوّابته تشي بمعالم وجاهة آفلة.. ومن ورائها تحت ضوء القمر برزت ثلاثة جِمال ضخمة في لون الرمال.. هتفتُ:
- هذا بيت!..
أدار صاحباي بصرهما، نطق النحيل محتجّاً:
- هه.. بيت مهدّم.. أتريد أن يسقط فوقنا.. أهذا مامُنينا به يا رئيس الدورية.؟!.
- لن نقترب.. دعْنا نتابعْ!
لوينا أعناق خيولنا، واتجهنا في طريق ترابي مبتعدين عن البيت.
لم نكد نفعل ذلك حتى لمحنا شبح امرأة، تخرجُ من البوّابة وهي تسوّي منديلَها فوق رأسها..
- يالْدولة.. يالْدولة!!
لم نشأ أن نتوقّف. أو أننا تظاهرنا بأن النّداء ليس لّنا.. لا يعنينا..
- يالْدولة.. يالدْولة..
اكتسبَ الصوتُ رنيناً شجياً، طار إلينا معاتباً. معلناً اتّهامه.. ولم نتوقف.. كأنما أردنا أن نبتعد إمعاناً في تجاهلنا. إمعاناً في إظهار خيبتنا وشقائنا الأزليّ، ولهثنا وراء السراب، بيد أننا أمام الصوت الدافئ.. والبحّة الأسيانة، وركضها نحونا، لم نجد بُداً من الوقوف..
بدأت أفراسنا تصهل صهيلاً متقطّعاً، انتصبت آذانها الصّغيرة ترهف السمع إلى خطوات المرأة الملهوفة التي تجري وراءنا.. وهي ما تزال تهتف:
- يالْدولة.. لماذا تتجاهلون البيت، وتمرّون مبتعدين؟!.
دنت المرأة أكثر، صارت أمامنا.. تقهقر فرسي خطوتين، بينما أمسكت يدها باللجام، بدا لي أنّها صبيّة؛ بزغت كالحلم... بدت وقفتها وهي ممسكة باللجام فريدة..
- ولكن أين رجل البيت؟..
تجاهلتِ السؤال، نظرتْ بكبرياء إلى رفيقي الذي سأل، أقبلت عليّ، كأنها أدركتْ بغريزتها أنّني رئيس الدورية..
- إنه في المنطقة..
وأشارت إشارة مبهمة..
قلتُ:
- نحن في مهمّة:
ردّت بثقة:
- لا يمنع أن تنزلوا بيتنا.. هذا البيت لا يسمح لأحد أن يمرّ دون أن يقوم بواجب الضيافة!..
تسمّرت أمامي، دون أن تنبس ببنت شفة.. راقت الفكرةُ لرفيقيّ.. تململا.. وهمسّ النحيلُ من تحت شاربيه الغليظين..
- لابأس.
رفعْتُ نظري إليها، أيّ صبيّة هذه؟ صورة حلوة في أرضية غير مناسبة، والقمر الصغير يُطِلُّ من عليائه فوق رؤوسنا، ونحن نسبح في إطار انفعالات مخبوءة..
قلتُ بحزم:
- لا مجال الآن.. نشكرك..
لكنها لم تتحرّك من مكانها.. حتى خيولنا حبست أنفاسها، والصبية بدل أن تتراجع تقدّمت مصوّبةً نظرة ثابتة نحوي، توقّفتُ مأخوذاً، والنّحيل يستحثّني ثم تركتُ اللّجام جانباً، فجذبَتْهُ إليها، وسرنا،.. كأنّما قوة خفيّة تجذبنا، ونحن منوّمون.. أيّة قوّة تملكها هذه الصبية، لكنّ الرغبةَ هي الأقوى، ولا شيء يمكن أنْ يوقفَها..
أمام البوابة ترجّلنا، أخذتْ بخيولنا جانبَ البيت، زوّدت المعالف بسخاء. وفي المضافة جلسنا، ونور المصباح يسطع فوق حشيّات ناعمة من جلود الأغنام، تهالكت أجسادُنا المكدودة، النار بدأت تشيع دفئاً فينا.
ورائحة القهوة عبقت تُشعر بالأمان، وعيوننا تتأمّل الجدارَ الكلسيّ تتراقصُ فوقَه أخيلتُنا.. لمحتُ فوقَه خنجرين وسيفاً بغمده.. قَوَيت النارُ أكثر.. تابعتْ أعينُنا بإيقاعٍ مرح تنقّلَ الصبيّة مِنَ المضافة إلى الفِناء وهي تهيءّ الطعام،.. تصرّفَتْ على سجيّتها،...
شعرُها تحتَ منديلها الأرجواني طويل، أحاط بوجهٍ حنطيّ اكتسى بلون الورد، وقد لفّ قوامَها الممشوقَ ثوبٌ أزرق، زهراءُ بَدَت... ناعمة.. ذات رموشٍ حالمة تنتزعُ التنهّدات مِنَ الحجارة، مِشيتُها الوحشية جميلة وجامحة كفرس السّباق؛ شعرنا بالهدوء والراحة والدفء.. سمعنا صهيلَ خيولنا علامة الفرح والعرفان..
لم تترك الصبيّة فرصةً لنا لنسأل.. بل كانت تحدّثنا بطلاقة وترحيب.. مِنْ تحت الأغطية سحبتْ كيساً مملوءاً بالتّبغ، قدّمتُه..
- تفضّلوا.. يا هَلا.. دخّنوا..
كان رفيقي الناحلُ ينظر ببلاهة. انتابه تَوْقٌ مرضيّ إلى أن يفعل شيئاً.. مدّ يده إلى الكيس وعيناه معلّقتان بوجهها، كان ينهلُ مِنْ تقاطعيه الحلوة وشارباه يرقصان.. لا مفرّ من ذلك، رائحة الليل محمّلَة بالخدر الّلذيذ، والنّعاس، والحبّ، والأحلام.. أحسستُ ذلك المساء، أن قلبه سيرتكب، وبوعي كامل جنوناً أخيراً، دفعتُ كفّي إليه أنبّه.. الحياة الخاصة خِلافاً لكلّ شيء متقلّبة ومليئة بالمفاجآت.. بدا أنّه متحررّ مِنْ كلّ سراب. كان يحلُم. مثلنا.. لكنّه كانَ يحلُم، بجنون.. بدا لي أنّه ليس نحيلاً ومحزوناً فقط، بل بائس.. وثقيل الظلّ وهو يداعب شاربيه المرتجفين.. غدتْ وجوهُنا متأثرةً بجوّ الليل الذي صار دافئاً.. وهادئاً.. ومتألّقاً..
أسرعت إلى طحين في كيس مسنود إلى الجدار، وما إن قويت النارُ أكثر حتى صار العجين جاهزاً.. ساحرة ووحيدة، تروح وتجيء أمامنا. قدّمت لنا كلَّ ما عندها من طعام، وأحسسْتُ أنّني بعد قليل سأختنقُ لفرط سعادتي فقد جاءت الأرغفة الطازجة الشهيّة، ورفيقاي أقبلا على الطعام في شراهة... النّاحل فكّ حزامه الجلدي وتركه جانباً، اكتفى بعدئذٍ فمسَح بِكُمِّ سترته فمّه، وبدأ يدخّن وهو ينظر إليها... هَمَس:
- ألم ترها جيداً..
تناقلت أنظارُنا همساتٍ سرّيةً، الخَدَرُ اقتنصَ أعضاءنا، وتوسّدها.. الخدر اللذيذ يسري فينا.. لمرأى النّار والصّبية ورائحة القهوة، ودخان التبغ، أُخِذَ ذو الشاربين بمرآها وتوهّجها.. لكَزني.
- انظرْ يا رئيسَنا.. أنت أعمى.. أية ضيافة هذه!.
قدمتْ لنا الوسائد والمساند.. هيأتْ فِراشاً لكلٍّ منّا...
لكَزني ثانيةً وهمَس:
- نريد ضيافة من نوع آخر..
- مه.. أيها المجنون..
رأيت نفسي عاجزاً، يحدوني الغضب، وكأّنما أدرك فداحة ما نطق.
ابتسم في وجهي معتذراً. لكنّ الصبية وقفتْ تسأل وفي عينيها هدوءً وسكينة آسرة:
- هلْ مِنْ خدمة، أؤديّها قبل أن أترككم؟..
كان رفيقي على ذهوله. والليلُ خارجَ البيت ما يزال طويلاً...
تمتم:
- لسنا طمّاعين أبداً.. كم تساوي يا معلّمي.. مليون ليرة.. أكثر.. طظ على المخافر.. والوظائف.. والدرك.. نظرة منها، لمسة تحيي ما مات من عظام، وما أصبح رميماً..
- اسكتْ يا أحمق!.
- عظامي تصلّ..
انطفأتْ في داخلي بروق.. كان الآخر قد أغفى قبلنا، والنحيل ما يزال مسلوباً.
أسيرَ غواية شرنقته الصبية فيها. أسيرَ الليل، والدفء، والعنين الهادئتين الواثقتين الحلوتين، والثوب الأزرق، والمنديل الأرجواني، والمشية الجامحة، والصّبا المشعّ، ورائحة الأرغفة، والبخور، والغابات، والصّندل، والأبنوس، كلبٌ يلهث في أعماقه، وهو يسترخي إلى جانبي فوق فراشه.. ردّد هامساً كأنّه يُسمعني فقط:
- إذا اعتليتها، أمتطي صَهْوَة العالَم- أنا سيّد المخافر والدرك، سأصير سيّد البحار والقارات!!
هتفتُ مِنْ تحت اللحاف:
- اخرس سأسحق غداً رأسك بالحذاء!
- أريدها يا معلمي!
- اخرسْ.. أخفض صوتَك، تريد أن تفضحَنا يا منكود..
لقد نال التعب منّي. أخذني النوم.. بعد أن وضعت رأسي على الوسادة الناعمة، أصغيت إلى صهيل الجياد الشبعى.. أصوات مبهمة جاءتني من بعيد لكنّني استسلمتُ للنوم. تلاشت مقاومتي له.. فاضت نفسي بالمحبة والعرفان لهذا البيت الآمن وسط الأرض المقفرة.. كنت أذوب في الحلم.. وكان صديقي الناحل على بعد ذراع منّي نائماً.. غابت الوجوه من حولي، انسحبت بعيداً وتراجعت.. امتدّت الحقول أمامي، انحسرت خلف الجبال، جاءت طيورٌ كنقاط الماء. بسطْت أجنحتها البيضاء فوقي، حلّقت في فضاء لا حدود له، غرقتُ في بياض ناعم رقيق.. خِلْتُ أنّني فوق أرض غير هذه الأرض، رحت أتساءل بحزن عَنْ سبب وجودي دون أن أتذكّر أنني أبحث عن مخفر تالٍ، مع رفيقين هائمين خلفي على الدروب الطويلة، بدا لي أنني أعود من مكان غاية في البعد، ومن غياهب الزمن، ثمّ.. تنبهّت إلى المكان الذي لا يزال غارقاً في الظلام.. انتهى بي الحال للتفكير عمّا كان، أستيقظ فجأة بسبب إحساس جسديّ أنني أتأمل في العتمة وأنا نائم.. بعد ذلك، بعد أن سمعت وقع خطواتٍ عازمة على بساط المضافة، بذلت جهداً لأصدّق أنّ الأمر ليس لعبة جديدة من ألاعيب الخيال.. ربّما كنت ما أزال أحلم.. ربّما كنت ما أزال مستيقظاً، ربّما كنتُ.واهماً، كم مضى من الوقت، لست أدري، استسلامُنا إلى النوم ألغى من ذاكرتنا الزمن. لكنّ روعة الفجر تكاد تبدأ بالتسلّل عبر الطّاقة العالية، لتضيء المضافة الهادئة، بدا الضوءُ كافياً لملاحظة أنني تغلّبت أخيراً على النوم.. وحاولت التملّص بسلوك درب الحقيقة، بدا الصباح في الأعالي.. بانت صفحة السماء صافية الأديم.. مشرقة، ونور الشمس يتسلّل بنعومة إلى مرقدنا.. وما إن فتحتُ عينَيّ حتى وجدت صديقي ليس في مكانه.. خِلْتُ أنني أعرف ذلك من قبل.. خلت أنني تَيَقّظت في هدأة الليل على صوت.. صرخة.. لكنّ ذلك لم يدمْ طويلاً.. ربما كنت ما أزال واهماً.. لكنّ الناحل وحدَه لم يكن في فراشه!.. وما إن نهضتُ حتى رأيت الصبية أمامي ولأول مرة التقيتها في نور الصباح.. ولما تأمّلْت وجهها الجميل الهادئ، رغم جمود ملامحه، أحسست برعشة، سَرَتْ في كياني كلّه.. لم أستطع أنْ أرفع عينَيّ إليها عبر سُحُبِ أساي.. كان رفيقي الآخر ينتظر أمام البوّابة.. وفرسي تنتظر.. قالتْ بصوتٍ حيادي:
- سبقكم النحيل، فلا تنتظروه!.
ومدّت يدَها ببندقية..
- لكنّه نسي هذه..
واسودّ وجهي وأنا أستلمها.. ولم أجرؤ أن أفتح فمي بكلمة.. كانت لديّ رغبة في الاختفاء مع رفيقي الذي جمد كتمثال..