بتـــــاريخ : 11/19/2008 8:44:24 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1411 0


    الزمن والصفّارة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : منال فياض | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    مازال ينظر في صورتها.. يغيب في الأحلام، يركض معها فوق الجسر مقلداً الضابط الفرنسي وهو يمسك صديقته من يدها.

    في الأسفل طريق مغطى بالحصى البيضاء تمتد عليه سكة القطار بشكل منحنٍ. في كل مرة يغادر فيها عزيزة، والمدينة يصفر القطار بلحن حزين فيبكي بصمت. للغرفة التي يسكنها رائحة (المكدوس) الذي حضرته أمه وحشته بالجوز والثوم.

    يتمدد في سريره متأملاً النجم الوحيد في آخر السماء، ضباب العتمة يحيط بفضاء الغرفة حتى في النهار. الضوء الممدود بشريط من سقف الغرفة لا يُطفأ. كثيراً ماتمر الساعات لا يفكر بشيء، يفرغ رأسه بالغضب وبدون إرادته يذهب به الوقت إلى الوراء قليلاً فيتذكر رأس ذلك الرجل في الباص الذي فرغت نصف أشعاره على شكل دائرة في الوسط أو في الشيخ الجالس إلى جانبه والذي ازدحمت الأشعار في وجهه رجل يحظى بتقدير المحترمين وغير المحترمين. وأخيراً قبل أن ينام يشعل سيجارة يتأمل في الدخان الرمادي الخارج من فمه على شكل رذاذ والدخان الأزرق الصاعد من لسان السيجارة. حلمه الأول تحقق، صار أستاذاً في مدرسة ابتدائية. أما الحلم الثاني، بيت صغير يجمعه بعزيزة. مضت السنين وشعر عزيزة يطول ويقصر كالمد والجزر، كلما مر صيف تنتظره في نفس المكان من محطة القطار كي تقوم بالشيء ذاته. لم يعد وجهها أحمر، في السنتين الأخيرتين استخدمت أحمر الشفاه فصار دبقاً وله رائحة في حزيران. وزّمت عيناها، وارتخى نهداها حتى صارت كشجرة يابسة مهددة بالقطع، في صوت ضحكتها غلاف من المرارة لكنها مازالت إلى اليوم تقفز كحورية البحر من الصورة التي يتطلع بها لساعات إلى الحائط المقابل له لترقص حتى يتأخر الليل فتجعل من السرير جهنماً وناراً لا تنطفئ إلا بحمام فاتر. (آه ياعزيزة.. كي أستمر في حبك علي أن أضع رأسي فوق وسادة مريحة.. كل ما أريده ثمن جدار أقدمه لك في الصيف القادم...).

    في النهار يصنع سعادته حين يركض مع التلاميذ في باحة المدرسة، يضحك ويصفر كثيراً بعصبية. رامي ينسحب من اللعبة بهدوء ويتسلل لوراء جدار مختبئاً عند المغاسل يمسح نظارته الطبية وينشل من زناده كتاباً صغيراً ثم يبدأ بالقراءة من النصف لحق به زميله وفسد عليه للأستاذ ظريف. اقترب من الولدين رفع كفه في وجه رامي ليصفعه لكن الصفعة لحقت بالتلميذ الآخر. ومسح رأس رامي:

    (أنت ولد ذكي.. أرني الكتاب.. أوه كتاب تاريخ.. من أين حصلت عليه؟

    لدى والدي الكثير.. خذه يا أستاذ.

    ثم ركض تاركاً ظريف في حيرته "... لم لا يتفق اثنان من هؤلاء إلا عندما يلعبون على شكل فريق واحد... لم لا يتوحدون لإخراج فرنسا!".

    بدأت يده ترتجف وهي تخفي الكتاب "ماذا لو كان الكتاب خطيراً... سأرميه.. وتحت الضوء الخافت جلس يقرأ. يفهم ولا يفهم. قلّب صفحاته حتى اشتعلت أعصابه فرماه وهو شبه نائم.

    دق الباب.. ظهرت صاحبة البيت الأرملة أم كاظم تحمل له طبقاً من طعام العشاء بدت وهي تمسك الكتاب كشجرة حبق يلعب بها النسيم ليوزع عطرها في الفضاء وضع في فمه لقمة كبيرة مغمسة بالبيض المقلي، بينما المرأة تفتح الكتاب وتجلس قبالته على الكرسي تبلل شفتيها بكأس من الشاي.. الصمت بينهما لم يطل، صرخت
    (الله.. الله.. ! قرأت تلك الأغنية المكتوبة في الصفحة الثانية؟ اسمع...

    وصارت تردد بصوت هادئ أشعر ظريف بالسكينة:

     

    هيّن ضرب السيف يابا هيّن عَلَيّه

     

     

     

     

    ولا شوف الشعب كلّه بالعبوديه

     

     

    شدّد أوتارك يا عود، وسلينا بنشيد

     

     

     

     

     

    مجد العرب بده يعود، البعث هيك يريد

     

    مسح فمه من الزفرة وابتسم: خذيه..

    كادت المرأة تطير من الفرح، أخذته بعد جدال واضعة يدها في يده بامتنان ثم خرجت وبقيت رائحتها في الغرفة. لتلك المرأة صوت يذيب قلب من يسمعه، صوت مغلف بالحزن والألم والأمل. كلما رددت تلك الأغنية تستحضره عزيزة وفي رقصتها شيء من الانكسار والخمول. بدت صورتها تغيب عن ذاكرته شيئاً فشيئاً، وصار يغني نفس الأغنية في كل مكان، في الحمام، وحين، يحلق شعره المؤبر في وجهه. عند الظهيرة حصل انفجار، صرخ كاظم من فوق السلم ودق عليه الباب رامياً نفسه في حضن ظريف حين كانت أمه في عملها خارج المنزل.

    مر دياب الدركي في الزقاق وصفر، أشار له ظريف أن يصعد. أخذ كاظم من يده وغمز بعينه (حنون أنت يا ظريف!).

    رد ظريف: (حرام إنه يتيم).

    ضحك: (بحياة والدك.. ألا تعطف على أمه أيضاً؟!.. أخ لو لم أكن متزوجاً. امرأة مازالت تحتفظ بجمالها حتى تكاد تفجر الصخر شذرات).

    يبدأ صديقه بسرد الأحداث التي حصلت طوال الأيام السابقة ثم يقضيان وقتاً طويلاً في الصمت. يتحدث ظريف عن عزيزة حتى يشعر الآخر بنعاس شديد لا يزيله سوى الحديث عن الأرملة ويقنع نفسه بقراره:

    "ليست عزيزة الأولى التي قضت حياتها بالانتظار وفاتها القطار... فالجيب لن يمتلئ والحياة صعبة. الأرملة ناضجة كلامها أمل، خطواتها واثقة إنها البديلة ولو أنك الغالية".

    فتحت أم كاظم الباب وتعالى صراخها حتى سمعه ظريف.. كانت تبكي كأن مصيبة حلت بها، ولكن ماذنب الولد كي تصفعه. التقت عيناها بعينه حين تراخت على الكرسي (ماذا فعلت يا كاظم.. آه يا كاظم.. أتمزق كتاب أجدادك لتصنع طائرات من ورق.. ألا تحب أن تعيش حراً.. وإن لم تعشها اقرأ عنها...!).

    الولد يبكي، ويحدق بها كالأبله، في تلك اللحظة قرر ظريف أن يتزوجها.

    عزيزة منذ ساعة وهي تقف جانب السكة، تحت الجسر، تنتظره ليصبّرها كما كل صيف، ضحكت وطارت خصلات شعرها الفضي، صفر القطار.. توقف.. لم تر من بين العشرات أي أحد وظريف وقف بسيارته فوق الجسر ندت من عينيه دمعتان، وساد صمت الاحتراق

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()