بتـــــاريخ : 11/18/2008 7:02:22 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1363 0


    غرفة على السطح

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد قرانيا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    جلستُ في غرفتي منهكاً متعباً. أرسلت بصري -كعادتي كل يومٍ- يتجوّل في أنحاء الغرفة الصغيرة المتصدعة، التي تغفو على سطحٍ في أحد الأحياء الشعبية، لم أجد جديداً في الغرفة التي استوعبتُ جغرافية كل جزءٍ منها، وأدمنتْ أذني سماعَ أنين نافذتها، المتهدّل طرفها كطرف عجوزٍ مشلول. سوّيتُ من جلستي على السرير فأصدر صوته الرتيب. تدثّرتُ جيداً، يأتيني صوتُ الريح التي تُعوِلُ في الخارج، فيصلُ إلى أذنيّ صريرُ باب الغرفة الخشبي، وكأنه يحتجّ على شيءٍ مجهولٍ.... يصل إلى سمعي -هذه اللحظةِ- وقعُ أقدامٍ. لابدّ أنها خطواتُ ذلك الشخص الغامضِ الذي سكنً الغرفةَ المجاورة، منذ شهور، ولم يحاول أن ينشئ معي علاقةً من نوعٍ ما يفرضها حقُّ الجوار، والوحشةُ التي تلفُّ كلاً منا، وهو يعيش مثلي منفياً في غرفته القاتلة.

    كان العمل هذا النهار مرهقاً. انعكس التعبُ على نفسيتي فانتابتني حالةٌ من الكآبة والملل... اصطدمتْ عيناي بالرسالة التي كتبها أبي بخطْ الرقعة الجميل. خطُّ أبي جميلٌ مريحٌ على الرغم من أنه لم يدرس في مدرسةٍ، وإنما تعلّم في طفولته في كتّاب القرية، فحفظ على يد الشيخ مصطفى عبد الرزاق القرآنَ الكريمَ، وأتقن فنَ الخطّ حتى ليباري به هذه الأيام خريجي الجامعة من مدرّسي اللغة العربية..... كنتُ قد قرأت الرسالة أكثر من مرةٍ، وهأنذا أعيد قراءتها من جديدٍ.‏

    أما لماذا أقرأها، فلا أدري، أهو بسبب جمال الخطّ الذي يعيدني إلى زمن الأصالة والبراءة، أم بسبب الفراغ الذي يزيد في إرهاقي هذه اللحظات، أم بسبب الخواء الروحي الذي لا أجد له انتهاءً في هذه المدينة التي تزخر بالصخب والازدحام، وتضجّ جنباتها بالأوجاع، أم هي الغربة عن حقول القرية التي لا تزال تبني العصافير أعشاشها على أغصان أشجارها. وتعمر بيوتَها حكاياتُ المطر والزيتون، والحبّ العذري، الذي تذخر به صدورُ الصبايا والشباب.‏

    تركتُ الرسالةَ جانباً. سادت لحظة صمتٍ. تناهى إلى سمعي من جديدٍ وقعُ خطواتٍ بطيئة. لابدّ أن ذلك الشخصَ يراقبني!.... كتمت أنفاسي. انقطعَ الصوتُ. لابدّ أنه يقف خلف الباب يسترق السمع. ماذا يريد مني هذا الشخصُ الغامضُ؟!. تسلّلتُ حافياً نحو الباب. سألقي القبض عليه هذه المرة. وسأسوقه إلى القسم متلبساً بالجرم المشهود. صحيحٌ أن هيئته توحي بأنه درويشٌ من دراويش الزمن الماضي، ولكن عملي في التحقيق، جعلني أشكّ في كل مخلوق. سألقّنه درساً لن ينساه. أمسكتُ الباب بهدوءٍ، ثم فتحته بسرعةٍ، ونظرتُ يميناً وشمالاً، لكني لم أجد أحداً.‏

    .... تنفّستُ الصعداء. استندتُ إلى الباب. قلتُ بعد أن هدأت أنفاسي قليلاً:"لابدّ أنه سمع حركتي في الداخل، فاختفى.".‏

    عدت إلى السرير، لم أتدثّر هذه المرة. أحسست بالحرارة تصعد في عروقي. لماذا ترهقني المدينة، وتلاحقني بكل هذه المنغّصات؟!... في القسم -هذا الصباحَ- صدمتني رؤيةُ امرأةٍ وفتاتين. ضبطتْهم عناصر الدورية في وكرٍ للدعارة قريبِ من مركز المدينة، بعد مراقبةٍ دقيقةٍ، استمّرتْ أياماً. لدى التحقيق، اعترفت المرأةُ المتصابية بطبيعة عملها، واعترفت الفتاتان، من دون أن تُظهرا أسفاً أو ندماً، وكأنهما قانعتان بشغلهما، وبأنهما تؤديان عملاً قد خُلقتا من أجله.‏

    قالت إحداهما:‏

    -أنا حرّةٌ، ومن حقي إعطاء جسمي حقه.‏

    لم أستطع تمالك نفسي, ثرتُ، توترتْ أعصابي، قرّرتُ الثأر منهما بنفسي. كانت إحداهما ترتدي(بنطال جنز) ضيّقاً، والأخرى ترتدي ثوباً قصيراً. أمرتها أن ترتدي(بنطالاً) عتيقاً أحضره أحد العناصر، فرفضتْ، وهدّدتني بأنني سأخسر وظيفتي، وسأعود إلى دروب قريتي أَلمُّ بَعْرَ الماعز، إذا لم أسارع، وأطلق سراحهنّ! استفزّتني السافلة، فجعلتها مع زميلتها على الأرض، ورسمت بالسوط على الأقدام خطوطاً متقاطعةً ومتوازية، ثم التفتُّ إلى المرأة الشمطاء، وأخذت آلة الحلاقة وحوّلت رأسها ثمرة يقطين!..‏

    أنا مرهقٌ إلى حدّ الإعياء!.‏

    لم أفقد أعصابي من قبلُ، كما فقدتها اليوم، تمنّيتُ أن تكذب الفتاتان، وألاّ تعترفا بشيءٍ، فقد كنت لطيفاً معهما، لأن إحداهما كانت تشبه ابنة عمي فاطمة، ووجهها لا يوحي بالعهر. لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها... ما هذا التهتّك والانحلال؟!.‏

    حاولتُ في البداية ضبط نفسي. تذكّرت توصيات والدي الذي لا يفتأ يردّدها على مسمعي كلما التقينا، ويذكرني بها كلما كتَب إليَّ"فكّرْ ألفَ مرّةٍ، قبلَ أن تُقدم على أيّ عملٍ. عمر بن الخطاب كان يتمنّى أن تكون له رقبةٌ طويلةُ كرقبة بعير، حتى يفكّر جيداً" وعلى الرغم من أننا قد درسنا في الأكاديمية أصولَ التعامل مع المجرمين والمنحرفين، بغية الوصول إلى الحقيقة، فقد استهزأتُ أمام وقاحة وجرأة الفتاتين بكل تلك الوصايا واللوائح...‏

    تتسارع دقّاتُ قلبي.... أسندتُ ظهري إلى حافة السرير. تمدّدتُ جيّداً. حاولت أن أريح أعصابي المتوتّرة. أخذت جهاز التحكّم. لعلّي أجد قناةً تلفزيونيةً تعيد الطمأنينة إلى نفسي. تتابعتْ أمام نظراتي القلقة مسلسلات الحروب الدامية. البوسنة. أفغانستان. الجزائر. الصومال. الأكراد. الجنوب. الإسلام في تركيا. الضفة الغربية. القدس. ومن خلفها تقبع وجوهٌ مشوّهةٌ ممسوخة تحركها.... لعبةُّ شطرنج بين الأذكياء تقام في مقاهي ومنتجعات بيتٍ أبيض وكوخ أحمر، وعبّاراتٍ بحرية تثقلها معلبات لحوم بقر مجنون وزجاجات مزينة بحصان أشقر.‏

    -هذه المناظر تزيد في إثارة الأعصاب ولا تُهدّئها.‏

    بحثت من جديدٍ عن منظرٍ هادئٍ وادعٍ مريح، يعيدُ بعض السكينة إلى نفسي المضطربة، ويسدّ جانباً من الخواء الروحي في كياني. طالعتني صور العاريات، ودعاياتٌ لهن وأرقام هواتف، ومجلاّت جنسية. غلت الدماء في عروقي. أغلقتُ جهاز التلفاز بعصبيةٍ. صرختُ بصوتٍ مكتومٍ: "أنا عازب... وعلى الرغم من أنني أعيش في مدينةٍ مفتوحةٍ على الغرباء، فإنني قد استطعتُ أن أمتلك زمام رغباتي، ولكن الكارثة يمكن أن تقع في أيّ لحظة ضعفٍ، وما أقربها!!".‏

    أغمضت عينيّ قليلاً. هبّتِ العاصفة من جديدٍ. نهضتُ أحكم إغلاق الباب الخشبي الذي بدأ يتراقص ويصفّق كراقصةٍ هندية. حانت مني التفاتةٌ إلى الغرفة المجاورة. وجدتها تغرق في عتمة مقيتةٍ. قلت في نفسي"لعل الشخص قد تعمّد إطفاء النور، ليقف خلف شباك غرفته، وينظر إلى البيوت المجاورة عساه يلتقط محطةً محلية نسيَ مخرجها أن يجري عملياته وراء الكواليس....‏

    في الصيف كنت ألتقط مثل هذه المحطّات البلدية مصادفةً، فأصحاب البيوت الضيقة الخانقة ترغمهم حمّارة القيظ على ترك النوافذ مفتوحةً حتى في أوقات الليل الخاصة جدّاً.‏

    هذه ضريبة المدينة. والفقراء أول من يدفع هذه الضريبة.‏

    تناهت إلى سمعي حركةٌ آدمية. أرهفتُ السمعَ. لماذا يراقبني هذا الشخص؟ هل كلّفه أحدٌ بهذه المهمة؟! هل يريد أحدهم الإيقاع بي؟!. أنا إنسانٌ نزيهٌ. لست أشبه غيري، تعافُ نفسي السهر والسمر. لا أدخّن، ولا أمجن، ولا أقبل رشوةً، ولا أنتمي إلى شلّةٍ... لم أدّخر من راتبي سوى القليل، ولو لم يكن والدي يبعث إليَّ بالزيت والزيتون والجبن والبيض من القرية، لما وفّرتُ قرشاً واحداً من راتبي! فلماذا يضعوني تحت المراقبة؟!.... أنا مضطربٌ. صوت أبي يلاحقني. وصاياه لا تغيب عن مسمعي"إياك، والظلم يا ولدي، فالظلم ظلمات." هل يعقل أن أسومَ أحداً ظلماً أو أُلحق به أذى. بالعكس تماماً. فأنا أتساهل كثيراً في الحالات التي تقع ضمن المخالفات والجنح التي لا تمسّ الأمن ولا تضرّ بمواطن.... أما حاولتُ أن أبرّئ ذاك الرجل المسنّ الذي ضُبط وبحوزته كؤوس مهربة؟! وأن أقف إلى جانب المعلم الذي ضربَ تلميذاً بقصد تعليمه؟.‏

    لماذا يراقبونني إذن؟!!.‏

    قصف الرعدُ قوياً. توهّجت السماء ببرق يكاد سناه يذهب بالأبصار. انفتحت النافذة المهيضة. نهضت أُحكم إغلاقها. لمحتُ غرفةَ الشخص المجاور مضاءَةً!. ماذا يعني ذلك؟! ما قصة هذا الشخص الغامضِ. منذ شهورٍ -وأنا المتمرّس بقضايا التحقيق- لم أصل إلى معرفةِ شيءٍ عنه....‏

    عدتُ إلى السرير. أمسِ. عندما خرجَ، كان يحمل حقيبةً خفيفةً. أمعنت النظر إلى وجهه المهمل. ثيابه العادية التي لم تتغيّر. شككتُ أن في الحقيبة شيئاً مهمّاً سيوصله إلى جهةٍ ما. قد يخصّني. خرجتُ خلفه متخفياً -هذه طبيعة عملي- لحقتُ به عبر الزقاق المفضي إلى الساحة المكتظّة بعربات باعة الخضار والفواكه. اعتقدتُ أنه شعر بملاحقتي له، فحثّ الخطا، دخل بين العربات، لكنني كنت خلفه، لم أدعه يغيب عن ناظريّ. لابدّ أن أعرف الجهة التي يعمل لها. صار أمام باب دار قديمةٍ. لا. ليست داراً. إنه مسجد صغير بقبّةًٍ عثمانية. تلفّتَ يميناً، لكنه لم يرني. دخل المسجد... توقّفتُ لحظاتٍ. قررت أن أكفّ عن الملاحقة. لبيوت العبادة في نفسي مكانةٌ مقدّسة. لن أجترئ على حرمتها. ولكني لن أدعه يفلت, جلست على حجرٍ أثريٍ متطاولٍ عند باب المسجد. أخذتُ جريدةً ليست للقراءة، وإنما لسترِ الوجه. كان عدد المارة قليلاً، والوقتُ ليس وقتَ صلاة.. انتظرتُ ساعةً. مرّت بي بعض الوجوه التي لا تثير أيّ اهتمام لديّ. شعرت بالدقائق بعد ذلك مريرةً ثقيلة. أحسست بصعوبة الملاحقة. أحسست بالامتعاض، استسخفتُ تفكيري، وأنا الشاب المقبل على الحياة بذهنٍ متوقّدٍ وعقلٍ مستنير، وقد كنت أظن أن حياتي أهندسها بقدْرٍ معلوم، وأزنها بميزانٍ دقيق، وكل شيءٍ في عالمي يتحّرك وينمو بمعيارٍ صحيحٍ، حتى إن زملائي والعاملين معي يشهدون في كثيرٍ من الأحيان بدقة مواعيدي، ويضبطون ساعاتهم حسب توقيت دوامي وانصرافي، إذا لم تكن هناك مهمّةً تستدعي التأجيل أو التقديم. فلماذا يراقبني هذا الشخص؟ ولماذا تغرق غرفته في الظلام ثم يغمرها الضوء ونحن في ليلةٍ شتائية عاصفة؟!... أعلم أنه لا يملك مدفأةً ولا تلفازاً، ولكنه يمتلك مذياعاً صغيراً وكتباً، وغرفته خاويةٌ، ليس فيها سوى طاولة، وحصير، عليه فراشٌ ملتصقٌ بالأرض.‏

    سمعت من جديدٍ حركةً في الخارج. لابدّ أنه عاد يراقبني... ولماذا يكثر المراقبة هذه الليلة على وجه الخصوص؟!... من دون وعيٍ أمسكتُ مسدسي، بينما كان هاتف في داخلي يهتف: "الأعمار بيد الله"... تحرّكتُ على أصابع قدمي، ثم فتحت الباب بهدوءٍ، فعزف سمفونيته الرتيبه... أرسلتُ نظراتي. لم أجد أحداً.... أيعقل أن يكون قد أحسّ بي هذه المرّة أيضاً، فطار إلى غرفته، وأغلق الباب خلفه؟!... تسللت بخطواتٍ رشيقةٍ، محتمياً بالجدار باتجاه غرفته. نظرتُ من شقّ الباب. رأيته يتخذ وضعية المصلّي الساجد!.. قلت في نفسي: "إنه شخصٌ غامضٌ، لكنه ذكيّ جداً. علم أنني أراقبه، فتصّنع حالة الغياب الصوفي..." عدتُ إلى غرفتي من جديد. جلستُ قليلاً أفكر فيما يحدث لي... يعجبني ذكاءُ هذا الرجل. أحسب أنه تدرّب على ذلك حتى أتقنه. لقد مرّت بنا في دراستنا الأكاديمية، أمثال هذه الحالة التي يتقمصّها الرجال من متعاطي المخدرات والدعارة والقمار والخلايا الحزبية السريّة... لا أدري كم مرّ من الوقت، وأنا مستغرقٌ في التفكير، حتى قررتُ إعادة النظر في تصرفاتي السابقة. وأخذت أستعرضها، وكأنها شريطٌ سينمائي يعرض على شاشة(بانورامية).... لم أجد فيها ما يدينني، ومع ذلك فقد توقّفتُ قليلاً عند بعض المواقف التي اصطدمت فيها اصطداماً غير مباشرٍ ببعض الرؤساء الذين كانوا يتدخلون في بعض الأحيان لجعل التحقيق يتخذ مساراً آخر غير الذي كنت أسير فيه، فأعترض، وأخالف إيحاءاتهم، ومن هنا بات بعضهم ينظر إليّ نظرة المشاكس، ولعلهم يريدون الوقوف على ثغرةٍ ما في سلوكي، يمكنهم من خلالها التعرّض لي، ولكني مع ذلك لا أخاف. فالنزاهة حصنٌ يقيني الخوف والانحراف. والوصولُ إلى الحق، صعبٌ لا يستطيعه إلاّ من أوتي بصيرةً ثاقبةً، وقناعةً لا يعتريها النقص.‏

    لابد من تلقين هذا الشخص الذي رضي أن يراقبني درساً لا ينسى، وهل نسيَ أنه يراقب رجل أمن نقياً نقاء الثوب الأبيض من الدنس؟.... ولماذا لا يكلفونه -مثلنا- بمراقبة عشرات الأوكار التي تتحكم بالسوق السوداء، أو وسطاء الرشاوي، أو تلك المواخير التي تزخر بها المدينة، وتغري الرجال الذين كانوا يتوجهون إلى جنوب شرق آسيا لقضاء أمتع لياليهم في بلادنا، مع نساء سوياتٍ نظيفاتٍ، لسن صفر البشرة، مستديرات الوجوه، ضيّقات العيون...‏

    لن أدع هذا الرجل يحلم هذه الليلة بمراقبتي. وسأعمل على الإيقاع به.‏

    قرّرتُ تنفيذ خطةٍ جديدة. ارتديتُ ثيابي كاملةً. أطفأت نور الغرفة. خرجت. كمنتُ بجانب الحمام... بتُّ أعتقد جازماً أنه سيدخل هذه الليلة غرفتي عساه يجد فيها ما يرضي أسياده... التصقتُ بجدار الحمام، قبعتُ أراقب... عندما كنتُ صغيراً كنت أقرأ على زجاج السيارات الخلفي عبارة(من راقب الناس مات هماً) فأجد فيها حكمةً رائعةً، جعلتني خلال دراستي الجامعية، لا أهتم بما لا يخصّني، ولكني بعدما دخلت الكلية كانت الدراسة تنصبّ على المجتمع الذي لا يمكن أن يكون نظيفاً إلاّ بمراقبة أفراده ومؤسساته.‏

    جادت السماء بمطرٍ غزيرٍ. تعلّمت الصبر في مثل هذا الموقف، فالصبر بالنسبة للمحقق أساس شخصيته، وسرّ نجاحه... شددت(ياقة) سترتي حول رقبتي. ابتللت بالماء. قلت في نفسي: "حسناً. كل شيءٍ بثمن، ولابدّ من الوصول إلى المجرم مهما كانت التضحية.‏

    سمعتُ حركةً من جهة غرفته. هاهو يحرك الباب.. ظهرَ. ابتسمتُ في سرّي. هتفت فرحاً: "لقد وقعت أيها الغامض" لن تكون غامضاً بعد الآن. سأفضح أمرك، سأقدمك في الصباح إلى العدالة. ستقف في المحكمة أمام قاضٍ خلفه ميزان، لا ترجح فيه كفةٌ على أخرى، ولائحةٌ مكتوبٌ عليها بخط الثلث: العدلُ أساس الملك. سأقف تجاهك أمام القاضي، سيجردني من رتبتي، ويضعني في موازاة الخصم. سيطلب مني أداء القسم.‏

    سأقسم على قول الحقّ، ولا شيء غير الحقّ، وسأكثر مما أقسم عليه بعد الله من برّ الوالدين والانتماء إلى الفقراء وحبّ الخير، ومعاداة الجشع والانحراف والشذوذ والرشوة، وأني لم أمدّ يدي في طفولتي لأسرق حبة لوزٍ في القرية.....‏

    مشى أمام الغرفة. ها هو الآن يصل إلى باب غرفتي. ينظر إليها. يتوقف لحظةً قبل أن يدخل كلصٍ محترفٍ... لكنه يتحرك بخطا ثقيلةٍ باتجاه دورة المياه.‏

    أخذتُ نفساً عميقاً. لابدّ أنه ينفّذ خطةً معينة. ودخوله دورة المياه تمويه ليس غير. ولكن لماذا لا أدخل غرفته؟ فالباب مفتوحٌ، والنور يملأ الغرفة، والفرصة سانحة ولن يستغرق الأمر سوى لحظاتٍ، وأنا الخبير بفنون الأمن والمداهمة.‏

    نفذّتُ الفكرة. جلت ببصري في أنحاء الغرفة. شعرتُ بالمرارة. لا شيء فيها يثير الانتباه. شاهدت قصاصة ورقٍ على الطاولة. أخذتها وعدت إلى مكاني بجانب جدار الحمام، قبعت أترّقبُ. السماء لا تزال تجود بخيرها السخيّ، وأنا أغتسل بالمطر، والرجل يخرج من دورة المياه... صار قرب باب غرفتي. يتوقّف قليلاً. يمدّ عنقه. ينظر إلى داخل الغرفة.... تسارعت أنفاسي. آه. ما أقسى أن يقع رجل أمن في شباك رجل أمنٍٍ آخر!.. هيأتُ نفسي للانقضاض عليه عندما تصير قدمه داخل العتبة. وضعت يدي على صدري الخافق.. ها هو يمدّ يده إلى أكرة الباب. يغلقه بهدوء ثم يتابع خطواته إلى غرفته.‏

    تنفّستُ الصعداء. رفعتُ رأسي إلى السماء. غسلني المطر. أحسست أنني أتطهر من أوهامي وذنوبي. تراخت يدي. عدت متسللاً إلى غرفتي. أضأتُ النور جلست على السرير. شعرت بخواءٍ نفسي وأنني بحاجة إلى راحةٍ تامةٍ في الريف بعيداً عن المدينة. تذكرت قصاصة الورق التي وجدتها على طاولته فتحتها. قرأت فيها: "لو علم الملوك ما أنا فيه من اللذة لجالدوني عليه بالحراب...."‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()