بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:02:26 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1479 0


    القرار

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد رشيد الرويلي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كان يتأمل بدهشة جَغرافيةَ المنطقة.. الشوارع والأزقة.. اللوحات المضيئة وأشياءَ أخرى، فيهزّ رأسَه، ويمطُّ شفتيه الرخوتين..

    لم يستطع السيرَ على رصيف الشارع لأنه كان شبهَ معرضٍ لبضائع مستوردة.. تأملها بعناية. عدّ أصنافها، وقلّب بعضها بحذر، وقرأ ماكُتب عليها باللغات الأجنبية، وأعادها بهدوء الى أماكنها..‏

    أخذ يقرأ وجوهَ المارة باهتمام.. رآها صدئةً تختزن الهمومَ والمتاعبَ.. لم يستطع التعرفَ عليها، فتأوه..‏

    منذ أربعين عاماً كان يعرف أناساً لاعدّ لهم، وكان كلما سأل عن واحد منهم يتكرر الجواب: تعيش أنت..‏

    منجلُ الغربة حصد سنابل الذاكرة، وحفَر في الوجه أخاديدَ عميقة..‏

    نوارسُ الروح تنوح بين ضفتي الماضي والحاضر.. يصفعها الموجُ الأغبر كل صباح، فيتناثر الزبدُ الأسود على قوادمها.. يثقلها الغثاء فتهوي على طمي العشق وصلصالِ العتق..‏

    لم يمتط صهوةَ الريح بحثاً عن اللذة والمتعة، ولم يركب البحرَ ويعاقرِ الوحدةَ من رهبة.. كان يبحث عن ذاته.. عن ظله المفقود.. عن شيء من كرامة أيام كانت المدينةُ تلبس قناع الدمع والقمع، وكان أبوه رقيقاً بيع في سوق الأسى والحِرمان، وكل من حوله يمضغ الجوع تحت الضلوع، فيخترمه اليأس والخنوع، فلا شفاعةَ في زمن المجاعة.. كان كلما التجأ إلى الفرات يقول: يافرات يادمَ الذين ينشدون على ضفافك أغنيةً منحوتة من نُطفة العشق من شهقة الجرح صدى عذابك اقرأ لهم يافراتُ من كتابك.. كان الفراتُ معوجَ الشدقين تتربع عليهما راقصةٌ تُرصّع ثدييها ببريق العملات الصعبة والسهلة ومغني الفرات يرشف خمرته ويغني للفقراء..‏

    لذا ترك أقدامه تدب كأنها جُرذٌ على جلد الليالي الآمنة ليدخل في صَدف الخضوع.. لقد وعَد الآخرين بالخبزِ والأمان فعاد إليهم في آخر العمر بلعنةِ الزمان والمكان..‏

    أنكَرته الضفافُ والجزائرُ والسمكُ المهاجر.. أنكرته الجسورُ والسدود والأشجار والأطيار والأزاهر.. أنكرته الشقوق والصخور والمعابر.. بصق الزمان على وجهه وقذفه الرجال بأعقاب السجائر، فصاح مهتاجاً:‏

    ياأيها الديرُ المطرزُ بالكلاب وبالشتيمة والجريمة.. يابلدَ الخداع الملونِ والأرصدةِ واغتصابِ الخرائط في الأفئدة لن يبصر القادم إليك غير ارتطام الحجارة في الأفق.‏

    صحيح أن مطر المهانة في دمي، والشوكُ أدماني، والصباحُ بكى على صوتي المسمر في توابيت الجراح لكنني ماجئت إلا لأرى الحفاة والعراة.. لأرى بقايا البيت الذي انهار في ليلة شتوية مازالت مخالبها وأظفارها تتراءى لي كل مساء..‏

    حثّ الخطا إلى مكان شهد طفولته البائسةَ ويفاعَه الشقي، فرأى البيوتَ العتيقةَ وأبوابها الصدئة والجدر التي ترشح عفونةً.. وقف جامداً أمام دوحة هرمة يلعب حولها الأطفالُ بأسمالهم البالية، فهرول إليهم، ولعب معهم لعبةَ القطار والغماية والعسكر والحرامي حتى أضناه التعب، فجلس في ظل الدوحة، وسرعان ماالتف حوله الأطفالُ وهم يدورون منشدين" فات الثعلب فات فات وبايدينه سبع لفات.."‏

    أخذ ينقّل عينيه في وجوههم بفرح لذيذ لكن الدموعَ فضحت مشاعره وأحاسيسه، فتركها تهطل مدرارةً على وجنتيه المجعدتين.. نكّس طرفه، واعتصر صدغيه بقوة، وأفاق بعد لأي على صوت كهل يحاول جاهداً إبعاد الأطفال الذين تحلقوا حولَه.‏

    قال الرجل الكهل بصوت متهدجٍ:‏

    = قم ياولدي وسامحهم.. هي والله عادتُهم كلما رأوا غريبا يؤم حارتنا.‏

    لم يكن صوتُ الرجل الكهل غريباً عنه.. إنه قريبٌ إلى قلبه.. ياالله! من أرى؟!‏

    رفع رأسه، ونظر ملياً في عينيه الغائرتين وفمه الأدردِ، فبكى ونشج طويلاً طويلاً..‏

    قرر وقتذاك قراراً لارجعةَ عنه.. الموت في أرض الوطن

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()