بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:38:46 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1564 0


    كأني أمسح أزمنة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    1)‏

    غرفتي نائية جداً‏

     

    وضيقة جداً جداً‏

    مع ذلك يستطيع البحر أن يدخلها، ويفرش أغطيته الزرقاء على أرضها، وعلى أسرّتها المورقة.‏

    ويستطيع الامتداد على وسائدها، وجدرانها. ثم يثرثر كثيراً... كثيراً.‏

    قد لا أسمعه.‏

    وهو يهشم كل الوصايا.‏

    وقد يخفي حذاءه تحت السرير ويسير بهدوء على رؤوس أصابعه. يمرر أنامله على الأشياء النائمة كي لا يوقظها ثم يندس بين الأغطية.‏

    قد يسهر معي على طاولة واحدة، يشدّ أصابع حيرتي إلى أن أصرخ -آخ- فيحرر أسماكه من ثيابي، وموجه عن نحري، يضحك، يثرثر.‏

    وأنا قد أخرج لأني لاأحتمل الصخب في غرفتي.‏

    .. ...‏

    قد أعود إلى غرفتي ليلاً.‏

    بعد أن أمشط المدينة بوجوه الأصدقاء.‏

    وبعد أن أهرق كل مجاملاتهم وخططهم على العتبة. ثم أنفض عن معطفي الشتوي قصائدهم الوردية. وأخلع حذائي المعفّر بعتمة لا مبرر لها.‏

    عندما أشعل النور تتمدد جدران الغرفة، فتستقبلني الطاولة المستديرة. ترفع رأسها الزهور المرشوشة على الغطاء والكؤوس الواقفة تمتد أكثر إلى السقف.. يبتهج البرد في غرفتي ويتدلى الصقيع على زجاج النافذة.‏

    أهذه حقاً غرفتي؟‏

    أجول ببصري على الجدران والأشياء والكتب‏

    أهذه حقاً غرفتي؟!‏

    يضحك البحر. كأني بلا حدود للمكان وبلا ذاكرة. مع أني مقتنعة بأن للأمكنة ذاكرة تثرثر في أصابعنا، وتقرأ نظراتنا وحركات حروفنا... إذن لماذا يصير للبحر كل هذه الأمكنة الفسيحة في غرفتي؟!‏

    .....‏

    أقترب من النافذة.. لا تشبه النافذة.‏

    (2)‏

    حيطانها زبد.. الزجاج يطل على زمن ممتدٍ لا ينتهي. أشعر بالخوف. أودّ لو أجد أحداً ما... أناديه.. الزحمة واسعة أمامي، مع ذلك لن يرد عليّ أحد... إذن لا أحد هناك وراء هذا الزجاج المغبش بخيالات غريبة. أمسح غبار الخيالات عن وجهي، كأني أمسح أزمنة. وأرتب الثواني على المكتبة.‏

    دائماً تندهش صديقتي لماذا لا أفرش حصيراً ولا سجادة في غرفتي.‏

    أهزّ رأسي مرتبكة.‏

    "أنا لا أفرش حصير الصمت حتى لا تفزع الكتب الواقفة من الفراغ ولا أفرش سجاد القناعة. لمن نكتب إذن؟"‏

    هناك أصص أسئلة في الزاوية.‏

    هناك ورود خيبة على الجدران‏

    "أكره ورق الجدران هذا"‏

    أحمل سكيناً وأقشّر الورق... أقشر... ينزل الزمن. تتدحرج الوجوه التي كنت أخبئها... ماعاد قلبي يتسع لأحد. خدعني الورد والأصدقاء والبحر و...‏

    هناك شموع بين الأوراق... أود لو أحرق كل هذا الركام. ربما يخرج إليَّ البحر بهياً بلا غبار الموت. بلا دماء يصنع جزراً... آه بلا أشلاء يأكلها الملح.‏

    أودّ!؟‏

    أشعل الشموع كي أرى. أريد أن أعرف طريقي إلى أين يسير؟.. الطريق يجرّني. الطريق يسوقني، أنا عليّ أن أغمض عيني وأمشي دون سؤال أو جواب دون تبرّم، أو ضجر: هكذا أكون كعباد الله الصالحين. هكذا أدخل غرفتي فأراها واسعة عليّ.‏

    أهذه غرفتي؟‏

    ذاكرة للوجع هي. أسرّة للحلم. حيطان أعلّق عليها المساءات التي خلعتها.. بلاط أفرشه بالأسماء. سجادة لصلاة الآباء.. سرّ من أسراري أرفض. أشتم. أبكي. أتقمص امرأة أخرى. أهذه غرفتي؟!‏

    ....‏

    (3)‏

    أهذه غرفتي؟!‏

    هذه ليست غرفتي. جدرانها بلا حدود. تبتدىء بالدوائر وتنتهي بالدوائر أزمنة مجففة في حضن المتنبي القابع هناك. الباكي، الغاضب، المتعجرف. النواسي يرمّد حريقه ويحكي عن زمن القرود.. أمسح على زجاج النافذة كأني أمسح أزمنة. لغط وضجة وأنا ما عدت أقدر على تحمل هذا الزحام تناولت أول كتاب من المكتبة رميته إلى الأرض. الثاني. الثالث. ألـ... ياه. تناثرت الحروف. تناثرت المدن. أكتظ المكان برائحة أزمنة خانقة، ركضت أفتح النافذة "من؟"‏

    أحاول إشعال الزوايا بالشموع. "من؟" يرتعش الصوت. "أنا أوغاريت"‏

    أوغاريت القريبة من بيتي حتى الهمس.. أسفة لأني رميت حروفك أقصد أبجديتك على الأرض.‏

    أردت أن أغلق النافذة والباب، لا أريد لأحد أن يدخل ويكشف أسراري... الأبواب أسرار والرسول حضّنا على الاستئذان قبل دخول الأبواب.. ولكن الباب دفع في وجهي ودخل رجل طويل أسمر الوجه. جميل الطلعة.. خلع حذاءه عند الباب وتقدم. ثم جلس على الأرض "من؟ " يا إلهي. لا قهوة عندي ولا سجائر وليس عندي حلوى للضيوف. أنا هنا بين الحروف أنام -أقوم- أتعارك مع نفسي "أنا ملك سيانو" ارتبكت. ماتت حروفي على يدي من الدهشة. نهض المتنبي بينما النواسي ظلّ يحرق ويرمد. وظلّ ملك سيانو قابعاً في الغرفة.‏

    "أنا يا سيدي أعمل في مزرعة للأبحاث في تلّك العظيم المطلّ على البحر المشرف على تلّ سوكاس.‏

    "أعرف لهذا جئت" أتحولون مملكتي إلى مزرعة؟! غداً عندما تعود الأميرة من طيبة عبر الحبر كيف ستغرف الطريق إلى المملكة؟.‏

    "اعذرني يا سيدي. هذه تبدلات الزمن.."‏

    هزّ رأسه. يا للزمن.‏

    "أتشربون قهوة؟"‏

    لم يرد أحد... إذن السكوت علامة الرضى. أخرج وأترك الجميع في غرفتي، أقرع الباب على الجيران. أرجوكم. أريد قليلاً من القهوة. عندما عدت لم أجد أحداً.‏

    .....‏

    (4)‏

    فركت عيني. كأني أفرط أزمنة. درت في الغرفة كأني أدور العالم.‏

    أكره غرفتي "المنفلشة" بلا حدود. بلا ستائر باهظة. بلا بوابات حميمة تنغلق على وجوه لا تذوب في ملح النهايات. أمشي باتجاه اللاشيء. أحدق في أرض الغرفة البارد... أسمع لهاثاً مخنوقاً خلفي. أدور بسرعة مفاجئة يدهشني أن أرى أفعى بيضاء تتكوم في الزاوية. أفعى تحمل صورتي في فمها وتلدغها كأنها تلدغ تاريخي وملامحي.‏

    لا أعرف إذا كان عليّ أن أبكي في نهاية زمن وبداية زمن. نهاية، ونهايات وسخّاب دموع يجري بين الألف والياء. على ماذا أبكي إذا ما لدغتني الأفعى وقصفت شجرة حياتي؟ ابتعدت بخوف. رأيتها تتحرك ببطء. ثم تخلع ثوبها بهدوء شديد وتبدل لونها... كأنها تبدل أزمنة. تراجعت بعيداً. رأيت غرفتي تضيق. ما الذي أتى بهذه الأفعى البيضاء السامة؟! نحن في المدن البحرية لا نعرف هذا النوع السام الفاقع. من أي عمامة سقطت؟!‏

    من أي زمن خرجت؟‏

    أي ملك اشتراها هدية؟!‏

    أهذه غرفتي؟! كم هي ضيقة الآن. أريد أن أهرب ولكن الجدران، الجدران. لم تحدثني أمي عن أفعى عاشت في منزلنا. أو عن أفعى تطاردني بحقدٍ وهي تلفظ ألوانها وأنوثتها الحارقة. من أين جاءت الأفعى البيضاء وترابنا أسمر محروق بالتعب والشمس؟! حاصرتني. انسابت على البلاط. البلاط بارد. الزمن بارد. القناعات باردة. إذن عليَّ أن أركل هذه الأفعى اللعينة. عليّ أن أقتلها أو تقتلني".‏

    تحسّ بهجومي. نتحرك كطوفان. تطوقني. أحاول التخلص... أصرخ... أنادي الحروف والملوك والأصدقاء الذين كانوا هنا. منذ لحظات كانوا هنا، وها هي قهوتهم وفناجينهم ولكن لم يرد عليّ أحد. هكذا دائماً نحن وحيدون. ربما لهذا السبب كان الحضّ على إغاثة الملهوف.‏

    ملهوفة أنا. أدعس الرأس ثم تنقطع. يقفز الذيل بعيداً. إنه يرقص. لم يمت. يضرب الجدران. يملؤني الرعب. ذيل يركض. بلا بداية وبلا نهاية. بلا مقدمات ندوسها أحياناً وأحياناً نهرب.‏

    ............‏

    ها هي غرفتي خالية. عجفاء.‏

    كأنها ليست غرفتي، كأني لست أنا التي بها. أبحث عني، لا أجدني. أمسك الهواء بأناملي. ثم. هذه ليست غرفتي بالتأكيد. لم أرتبها هكذا. لم أغمرها بغبار الزمن. أين الطاولات الصغيرة التي أشعل فوقها الشموع؟! أين أضع كؤوس الشراب لأشرب نخب بداية.‏

    أين...‏

    وجهك‏

    صوتي.‏

    البحر.‏

    دعسات الموج؟‏

    رأس الأفعى؟‏

    لا.. هذه ليست غرفتي‏

    أتركها وأمضي. الباب مفتوح. النافذة مفتوحة. كدت أسأل لمن هذه الغرفة.‏

    أهكذا قد أتنازل عن غرفتي؟.‏

    أقصد... نتنازل عن العمر، عن المكان، عن الذاكرة. عن أشيائنا الحميمة. ما الذي يبقى إذاً؟‏

    أنا كل هذه الأشياء.‏

    أنت كل تلك الأشياء الصغيرة، الحميمة، المحزنة، المفرحة. العطر. الهمس. الـ. التي نخبئها في الغرفة.‏

    هنا في الزاوية وقف الزمن مشدوهاً. هكذا تتنازل عنّا الأشياء وهكذا نحن نتنازل عن الأشياء التي لا تهمنا بسهولة.‏

    أنا لا أريد التنازل عن الأمكنة التي تخصني حتى ولو امتلأت بالأفاعي. غير أني مجبرة.‏

    كنت أمشي في المدينة. سألتني صديقتي: ماذا تريدين أن تشتري؟‏

    قلت: أريد أن أشتري غرفة، مكاناً، زمناً. ضحكت... ماذا تعني الغرفة دون الجيران. دون أشيائنا الصغيرة. دون أحلامنا التي "نخبئها" تحت السرير.و.‏

    آه.. حقاً. تركتها تتكلم بينما رحت أركض. أركض. أصل غرفتي. أقع على عتبتها لاهثة.‏

    .....‏

    (5)‏

    ياه... ما أكبر غرفتي.‏

    مفتوحة أبوابها، ممتدة نوافذها إلى الشارع. تعانق المارة واحداً. واحداً. وتطبع على يديه بداية جديدة، غامضة. سرّية. أمشي حذره. خائفة. أتلفت حولي داخل الغرفة. هي البدايات هكذا حذرة.‏

    ما أكبر غرفتي!‏

    ممتدة جدرانها إلى الساحة التي تتوسط الحارة وتلتف الشوارع حولها.‏

    عربات تمر. شعراء يمرون. أطفال يتسكعون. ماسحو أحذية حفاة. حمير، كلاب، قطط باذخة المواء. نساء ملفعات بالسواد يتلصصن على الرجال القاعدين على الأرصفة. رجال يلتقطون لفتات النوافذ والأبواب.‏

    ياه... ما أوسع غرفتي.. مباحة لكل انكسارات الأزمنة والورد. ترقص فيها الأشياء والأسماء وكؤوس المتنبي والنواسي. تسبح فيها أوغاريت وتقف على السطح منارات "سيانو" كي لا تضل السفن القادمة...‏

    ما أعظم غرفتي. يتكدس على بلاطها غبار السيوف ونهايات السنين... ما أقذر غرفتي. متسخ سقفها بالصراخ والزيف والخوف الذي قتل كل الأمواج الغافية في شراشفها.‏

    أكره غرفتي. إنها ليست غرفتي. أليس كذلك؟!‏

    ماذا أفعل؟‏

    رحت أقلب وسائدها وكتبها وكراسيها. ثم أرفع الشراشف و. ها هي الأفعى. تهرب مني. أهرب منها. أطاردها... ها هي.‏

    تختبئ في سريري. في كتبي. أحاول أن أقتلها... ولكن لا أقدر تختفي فجأة. أبحث عنها إلى أن أتعب وإذ يهبط المساء لا أجرؤ على النوم في غرفتي. يأتي البحر. يستلقي يرخي أسماكه على بلاط المخيلة. أرخي الزمن من يدي ولا أقدر على النوم.‏

    .....‏

    -7-‏

    لماذا لم تنامي؟‏

    لا أعرف . جافاني النوم. أشعر أن المكان لم يعد يخصني وحدي.‏

    "والزمن لا يخصك وحدك"‏

    "لم أقل ذلك"‏

    "إذاً لماذا تريدين ترتيبه على هواك؟"‏

    لم أرد. ولن أرد. أنت قلت لي الكلام الذي لا جدوى منه لا تقوليه.‏

    وأنا قلت: ما قيمة الحروف إذن؟‏

    "إنها تحفظ الزمن"‏

    "عفواً أوغاريت. ما قصدت التقليل من أهميتك"‏

    رأيت دمعة على خد أوغاريت. على خدّ الأبجدية. انسحبت.. خرجت. بقيت وحدي. أريد أن أقول شيئاً. لكن الكلام مات.‏

    أقف قبالة المكتبة. أنقّب عن وجوه وأسماء أمدّ يدي إلى كتاب ضخم، أتناوله. يسقط من يدي عندما أرى الأفعى البيضاء تتكوم وراءه ورأيت عدة فراخ صغيرة تتكور قربها.‏

    "لو قتلت رأسها ما كانت فرّخت"‏

    "حاولت. لم أقدر"‏

    "الأفعى لا تموت إذا لم يمت الرأس. لذلك عليك بالرأس".‏

    سأحاول.. سأحاول... ولكن أنا وحدي. الرأس يقفز في الهواء... يضرب الجدران. يخربط كتبي. كؤوسي. هدوئي. الرأس يمسح الزوايا، يحرك الغبار في وجهي، وعندما أحصره، يرش سمومه. أقف عاجزة. ألهث. تدور الغرفة بي، أهدأ يهدأ الرأس. أتحرك يقفز الرأس، يخبط، ثم تتحرك الفراخ الصغيرة الفاقعة والملونة على بلاط الغرفة.. أشعر بالغثيان. أشعر بالقهر. أريد أن أبكي.. أن أصرخ. أرتعش. ولكن أظن أن المدينة مقفرة. لقد صرخت كثيراً. لم يرد عليّ أحد.‏

    .....‏

    (8)‏

    كنت ألهث وأتشظى.‏

    وكان رأس الأفعى المقطوع يحدق بي بعينين مخيفتين، ثم يفتح فمه فتظهر الأنياب السامة المريعة. يقشعر بدني. أحياناً علينا مداراة الفجيعة.‏

    "هل تقاوم العين مخرزاً؟"‏

    "أي مثلٍ هذا؟"‏

    "إذن..."‏

    إذن أرمم الرأس بالذيل وأبدأ مع نهاية جديدة علّني أصل بذلك، وعن طريق اللف والدوران على الزمن، أصل إلى بداية أكثر ثباتاً، وإلى غرفة أكثر إلفه.. واتساعاً.‏

    أأسمي؟! بداية الأفعى البيضاء؟ أم أسمي زمن العمامة الرقطاء؟ أقصد السيوف التي تحزّ الزمن... أقصد زمن غرفتي الموحشة.‏

    مجبرة كنت.‏

    رممت الرأس بالذيل... عادت الأفعى طويلة، ملتفة. مخيفة. أظن أنها قادرة على ربط الشرق بالغرب والتلال بالبحر. و... كم أشعر بالاشمئزاز من نفسي.‏

    أتأملها.‏

    أرفض تناول القهوة.‏

    أود لو أكسر هذه النافذة. وأنفض هذه الحروف في المدفأة. أين أنت أيها النواسي. إحرق. إحرق.‏

    أأنا أفعل ذلك؟! أأنا أساير الزمن؟! أأنا أستضيف أفعى في غرفتي؟‏

    لتختبىء بين الكتب لتنم على الوسادة. لترتدي أحذية إيطالية. لـ. تكتب الشعر" ستظل أفعى. هي أفعى برأس وذيل طويل، ممتد. ممتد. ممتد. ياه... أين النهاية؟؟‏

    كانت تتكور قربي، وكنت أحدق إلى النافذة. اقترب مني رجل أبيض الوجه. أبيض الشعر. طويل القامة جداً.‏

    ناداني. لم أرد. حدثني لم أفهم شيئاً منه. مدّ يده إلى عمامته نزعها، ثم أخرج عدة فراخ لأفعى سوداء. وضع الفراخ في يده... راقبها... ثم اقترب أكثر من النافذة ورماها إلى داخل غرفتي.‏

    خفت. صرخت خائبة. ضحك. "لا تخافي. إنها مجرد فراخ". على كل حال المرأة تخاف جداً من الأفعى، لكنها تخاف من الرجل أكثر" قهقه بصوت عالٍ، نظر إليّ بتمعن. "لكن الفراخ ستكبر وتصير أفاعي سوداء"‏

    قلت. لكن لم يرد.‏

    ولولت. تركني ومضى.‏

    أنا أخاف النهايات. الرجل نهاية مثلاً؟!‏

    عندما تحركت في الغرفة شعرت أني محاصرة. اقتربت من الأفعى المكورة كدائرة، كالنهايات الملتفة على البدايات، كان لا بدّ لي من الاصطدام بالحدود المنتهية.‏

    ها هي فراخ الأفعى. واحد. اثنان... خمسة. عشرة. إنها تتناسل تتكاثر. تملأ الغرفة. لا بدّ إذاً من التأقلم مع زمن الأفاعي حتى لا يقال بأني خارجة على القانون وعلى الزمان والمكان هكذا أكون إنسانة طبيعية، خالية من العقد العاطفية والجسدية والسياسية و... و. صرت أضع الوسائد الصغيرة لتعض الأفعى حشوتها من الريش حتى تتخلص من سمّها"‏

    سمعت صوت الرجل الغريب يتدحرج عبر نافذة الغرفة. فتحت النافذة. رأيته بعمامته المزيفة. المرقطة. كأنها أفعى ملتفة. أردت أن أقتله. أظنه هو الذي حمل الأفعى الأم إلى غرفتي.‏

    لكن لم أستطع أن أحرّك ساكناً. ضاقت الغرفة. انزويت في ركن صغير... لم يعد لي مكان في غرفتي. شعرت أنها تنأى عني. راقبتها بأسىً رأيت الأفعى تكبر. تتضخم. ورأيت الذيل يكبر... يمتد يطول... يطول. لا مكان له... يصعد الكراسي ثم يمتد إلى رقبتي، يلتف حول عنقي، أكاد أختنق، غرفتي تضيق، تنأى، أنظر بحسرة إلى الساحة المجاورة. لكنها للأسف كانت مطوقة بذيول كثيرة تقفز وتركض في الهواء.‏

    ما أصغر غرفتي الآن.‏

    ما أبعدها...‏

    ارتديت معطفي.. شيعت الغرفة بنظرة باكية. اقتربت ألمس المكتبة. لمست آثار دموع على الكتب. أهي الحروف تبكي عندما تختنق؟! بحثت عن حذائي. سحبته من تحت السرير. ودون أن ألتفت أخذت أدس قدمي في الحذاء. لم تدخل. كأن قدمي قد كبرت أو أن الحذاء قد صغُر، نظرت إلى الحذاء. ياه!! كانت أفعى صغيرة، تنام في حذائي.‏

    {‏

    { هوامش:‏

    أوغاريت.... مملكة أوغاريت الشهيرة ورأس شمرا حيث ولدت أول أبجدية وهي تحاذي اللاذقية والبحر.‏

    تل سيانو... مملكة قديمة. آثارها حتى الآن باقية لها علاقات مع الفراعنة وتابعة تقريباً لأوغاريت.‏

    تل سوكاس... تل مرتفع قديم أثري. هو منارة سفن لمملكة سيانو

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()