الريح البحرية تستفيق.. تبترد برشقة من رذاذ الأمواج، وتتحرك.. على امتداد الشطآن تتمطى ساحبة ظلال النوارس على راحتيها.. هاهو ذا نعاسها يُنْفَض عنها برعشتين.. وشجر مرتعش يفسح لها في المسار، فتسكب في غدائره مناحة متمهلة.
الريح البحرية تنهض في مهابة الجلال لتعمِّد بالملح قبعة المساء، وتمسح بأصابعها البليلة صواري السفن ورؤوس المتعبين. تصرخ في صبايا الشجر فتجفل هذه وتتخفف من زينتها، تبدو كأنها تودع الغروب بنثار من الأوراق التي تتبعثر تحت أعناقها كمجموعة من الأحجار الكريمة انفرط عقدها النظيم.
الريح البحرية تنذر جيرانها بإخلاء الشاطئ، تنهي تصييف المترفين، والأسرُ الكريمة تتفقد أبناءها وممتلكاتها وتكثر من الأسئلة.. وغير بعيد تستنفر العصافير لتحصي ماتبقى من ثمار التين والعنب.. تبدو الريح البحرية عجلى قليلاً وهي تقوِّض خيام قيلولتها وتصعد إلى شرفات المنازل تتحرش بسهر الناس، وتنقل أسرارهم من بيت لبيت.. وها سيدة تحمل قفص عصفورين إلى الداخل، وتنهر ابنتها لتغطي ساقيها، ثم تحمي بيدها كتفي زوجها من قبلات ريح الخريف. يحس الرجل دفء الوطن على كتفيه، يتنهد... ومن شرفته يتأمل المصطافين وهم يقفلون حقائب الأغاني ويرحلون.. وإلى الدفاتر الصغيرة تلتجئ العناوين وأرقام الهواتف.
من رأى أواخر الطيور تتخلى عن موطنها؟ من رأى الغربان تتعالى.. وملويةَ الأعناق تبتعد عن الشاطئ وتدخل في دهشة الرحيل. جوقةٌ من النعيب في ثياب الحداد تذرو الريح البحرية ريشها، تسوقها في الفضاء الوسيع فتمتصها غيوم القرى.. مع الغيوم يرحل الدفء، والأصوات، والمواعيد فيخلو الشاطئ من الغرباء.. يسترد أنفاسه ويخلد إلى سكينة كالخيبة المباغتة.. يفتح المدى البحري منفى صغيراً لعابر تأخر في المجيء.. وتملي الريح البحرية مقاطع من دوي الوقت:
- من هجرة إلى هجرة تتواثب ظلال الذاكرة. والرمل العاشق يرتشف خمرة البحر العتيق موجة إثر موجة.. وقلباً فقلباً يحمل شاعر الحب ناسَهُ بشفتيه ليبني منها عشا لوطن كالذي يحلم به.. يقيم مناخاً من شمس وماء وأصابع لا تهدأ، ويغدق على جسد التراب فيضاً من الحرية والاخضرار. يرى الأشجار والرؤوس والأغاني تنتصب كالأمانات بين أيدي الشرفاء، كالمآذن في أعين المصلين. يرسم دروباً لبشر يخرجون إلى أعمالهم خليين آمنين، ويعلنهم وديعة بين أيدي الشرفاء، يعلن الأصوات واضحة، يعلن نوافذ مشرعة للشمس ويشير إلى الخبز، وفي الأماكن العامة يطلق ضحكات الآباء كقبرات الحقول. يلغي الكوابيس فتصبح الأحلام بإيماءة منه مباحة في الليل والنهار.. يهيب بقوافل متحيرة أن تختصر انتظارها وتبدأ المسير، يقيم علاقة حميمة بين الضوء والعيون.. يفرج عن الأغاني الحبيسة داخل الجدران والأبنية لتنطلق خيولاً تملأ مزارع البلاد بالصهيل.. يعيد قراءة الوطن، ثم يحفظه.. وعلى صدره يعلق قائمة من أسماء الشهداء.. يطرز المدارس والشوارع بأسماء الشهداء، فتتفتح أزهاراً وأوسمة... وحين يتعب من تهجي مخاوفه. حين يتعب من الرموز وأوجاعها، ينثرها على تراب هذا الوطن لتشرئب فصائل من التلاميذ والأزهار والسنابل، ثم يؤوب من جنونه، ويرتدي ذاكرة جديدة.
***
للريح البحرية يقول العابر الذي تأخر في المجيء، مثلك أتمنى أن أتدفق على هذه الأرض.. مغفلاً كدم الأبرياء.. وحاراً، كما يليق بحب الوطن أن يكون...