بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:18:07 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1238 0


    النــــذر

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سجيع قرقماز | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة النــــذر سجيع قرقماز

    سكون لايعكره إلا زقزقة عصافير الدوري المبتهجة بالربيع. بينما بدأت الشمس باكراً بنشر ضوئها الفرِح. الأرض هي فرحة أيضاً، فقد مرّ "البعل" باكراً هذا العام، ولوّن الأقحوان بالأصفر والأبيض، ونشر بخور مريم في كل مكانه، وبذر شقائق النعمان لتملأ الأرض. السماء أبت إلا أن تشارك الأرض، فخلعت ثوبها الرمادي، وارتدت الأزرق، البحر غار منها ولبس ثوباً شبيهاً.‏

    صوتٌ قادمٌ من بعيد، يحرك السكون، نشيدٌ قويٌ يبدأ بالانتشار، ترتفع الموسيقا تدريجياً مع اقتراب امرأة ريفية في حوالي الثالثة والثلاثين من عمرها، يختلط صوت الموسيقا بأصوات العصافير، تتابع المرأة تقدمها، الشمس تضيء وجهها، وعيناها تلتمعان، وتقودان بها ثلاثين عاماً في الذاكرة...‏

    "صورة بعيدة لفتاة في الثالثة من عمرها، تركض بين الأشجار والدموع تملأ عينيها تصل مقبرة القرية، شاهدة قبر هي عبارة عن حجرٍ عتيق حفر عليه:‏

    - المغفور له المرحوم أحمد الشاهين 1883-1916 تجلس مقابل القبر، تضع قصفة غارٍ أو ريحان، تبتعد عن القبر الذي يبدو أن ترابه لم يجف بعد، تهرول باتجاه القرية"‏

    يزداد التماع عيني المرأة، تسقط دمعة ساخنة، تهرول المرأة بين أشجار الزيتون، ودمدمة النشيد ماتزال ترد من البعيد، لكنها تبدو وكأنها تخرج من صدر المرأة، بل هي من دقات قلبها، تصل ساقية ماؤها رقراق، تملأ المرأة راحتيها، تشرب، تحدق في صفحة الماء التي بدأت تغّل، الذاكرة ترجع عشر سنوات. تتذكر تلك الأيام الرائعة معه، يتبادلان الهمس وأيديهما متشابكة، البندقية في كتفه، وصفّ الرصاص يزين صدره، تمرر يدها فوق بطنها المنتفخة، يضع أذنه على بطنها، يحاول التقاط أنفاس الطفل، ينظران إلى الأفق بسعادة غامرة..‏

    "دوي انفجار مفاجئ، خطوات ثابتة وهادئة لامرأة شابة تتجه إلى مقبرة القرية، تعبر قبر أحمد الشاهين، أبيها، تصل قبراً آخر يبدو أن ترابه لم يجف بعد، تضع عليه قصفة غارٍ أو ريحان، الشاهدة تحمل اسم زوجها محمد الأحمد 1910-1936، تنظر الشابة إلى الأفق الغربي، تتمتم ببعض الكلمات، تضع يدها على بطنها، ويبدو أن المخاض قد بدأ."‏

    تملأ راحتيها بالماء ثانية، تشرب، تنهض، تتابع سيرها، تركض، تبطئ السير أحياناً في اطلالة رائعة على البحر، تصل زيتونة مزهرة بفرح، تجلس تحتها، تفتح صرة طعامها، حبات زيتون، أرغفة شهية، تتناول لقيمات سريعة، مستعجلةً المتابعة، تتوقف بنظرها عند زيتونة يافعة..‏

    "تركض المرأة لملاقاة ابنها اليافع، وهو في حوالي العاشرة من العمر، يحمل كتباً ودفاتر في حقيبة قماشية معلقة في كتفه، تحضنه الأم، تطغى على المكان أصوات طبول ومزامير، ينظران بفضول، يركضان باتجاه القرية يزداد صوت الأهازيج والأفراح.‏

    يخترقان الأهازيج والأفراح، يعلما بالخبر، يحاول البقاء في ساحة القرية، تشده معها إلى البيت، تستعد للرحيل، تضم ابنها إليها، تحدق في عينيه بكل ثقة:‏

    - لو بقي مع جدك رصاصة واحدة، لما تمكن الغزاة الأتراك منه.‏

    - ومتى يعود أبي ياأماه؟‏

    -آن الأوان لأخبرك بالحقيقة ياولدي، لم تعد طفلاً، يجب أن تفخر بأبيك، هو ورفاقه صنعوا هذا اليوم العظيم.‏

    - استُشهد أبي إذاً؟!‏

    - أجل ياولدي.‏

    ترقرقت دمعة في عيني الشاب دون أن تنزل:‏

    - وإلى أين أنت ذاهبة ياأماه؟‏

    - عندما استُشهد أباك نذرت أن أسير حافية إلى أول موقع يحرر من القوات الإفرنسية، فأقبل تراب الأرض، وأطلق زغرودة تملأ السماء، وتخبر الجميع أن استشهاد من دافعوا عن هذه الأرض لم يكن عبثاً.. وقد آن الأوان لأفي بالنذر.‏

    تركت ابنها، تركت قريتها الراكنة في حضن الجبل وهي تحتفل باليوم العظيم، وسارت..."‏

    تحدق إلى تلك الزيتونة اليافعة، تدعو الله أن يعيش ولدها حياة مطمئنة، تلم مابقي من الخبز والزيتون، تربط صرة طعامها، تنطلق ثانية صوب البحر، حيث تتراقص مياهه مع شمس نيسان.‏

    تتابع المرأة طريقها، تعبر حقول القمح طري الأعواد مايزال، تطل على اللاذقية، تدخل أحياءها المليئة بالفرح والنصر، من ساحة بيت يطل على الشارع، وجهت لها الدعوة للمشاركة في التبولة والكبة، وأصوات فرحة تغني (نور قمرنا فوق اللاذقية) تتابع المرأة بشغف كل مايدور حولها، لكنها لاترغب في المشاركة حالياً، فلديها مهمة أخرى..‏

    تسرع الخطا باتجاه ثكنة هنانو- أول موقع يخرج منه الفرنسيون- شجرة ضخمة في وسط الساحة تظلل المكان، جنود وضباط سوريون يلتفون حول سارية العلم استعداداً للبدء، تخترق المرأة الحشد وسط دهشة الجميع، تصل قرب السارية، تجثو أرضاً، تتمتم بكلماتٍ لايسمعها أحد، تقبل التراب- من الجهة الأخرى تبدو قدماها العاريتان وهما تدميان- تنهض بهدوء وكأنها في صلاة مقدسة، بينما يسود الصمت الثكنة، تقف، تنظر بفخر إلى العلم، تطلق زغرودة ترتفع إلى السماء، وتدوي في كل أرجاء الأرض‏

    - حماة الديار عليكم سلام...‏

    تستقبل السماءُ الزغرودةَ والنشيد- بينما أسراب الحمام تدور صفوفاً صفوفاً وهي ترقص على الإيقاع في سماء اللاذقية، حيث يستمر النشيد...

    كلمات مفتاحية  :
    قصة النــــذر سجيع قرقماز

    تعليقات الزوار ()