الحلم(1)
رأى عبد الله نفسه يسير في صحراء لا ماءَ فيها ولا شجر، يجري وراء رغيف ممطوط له وجه ساخر وخلفه تجري كلاب عاوية تشتهي لحمه.. عبد الله يجري وراء الرغيف والكلاب تجري وراء عبد الله.. الشمس رأس تنين يمدّ لساناً من شوك ملتهب.. فجأة انتصبت أمامه زوبعة تتلوى كأفعى خرافيّة ثم بدأت تزحف نحوه.. توقف عبد الله يلهث.. اجتاحته الزوبعة أدارته بعنف رفعته ثم طرحته على أرض الصحراء وغادرت تلهث بعد أن قذفت بين يديه رأساً يشبه رأسه.. العينان المتعبتان.. الشعر الأشيب الذابل الشاربان المتهدّلان.. الأسنان التي صفّرها الدخان.. نطق الرأس وقال: (أين المفر يا عبد الله؟ الرغيف من أمامك والكلاب من ورائك فاحفر قبراً واهبط إليه واستسلم) ارتفع العواء واقترب لهاث الكلاب من لحم الساقين رمى عبد الله الرأس للكلاب فتناهشوه.. أحس بأنّ مسامير حامية تتغرز في رأسه.. صرخ.. صرخ لكنّ حجراً كان يسدّ حلقه.. فشهق عبد الله ونهض يبسمل ويحوقل..
التحوّل(2)
كان ضوء الصباح يتسلّل عبر النافذة كغيره من الصباحات التي تسرّبت من سلة العمر النازفة.. اعتدل عبد الله في فراشه.. أحسّ بأنه ليس على ما يرام.. نادى شريكة شقائه التي هجرت فراشه لأن الجسدين الذابلين قد اصطلحا والنوم قربه كالنوم بعيداً عنه.. لكن الصوت لم يخرج واللسان يرفض أن يتحرك.. تنحنح ونادى من جديد فانطلقت مأمأة ضعيفة تشبه مأمأة الخروف أصرّ بعناد على النداء فانطلق أخيراً ثغاء واضح.. ماع.. ماع مستحيل.. صاح من جديد فارتقع ثغاؤه تماماً.. ماع.. ماع.. ماع ما هذا؟! ضحك.. ليس هذا وقت المزاح.. ولكني لا أمزح.. وهل يمزح الإنسان مع نفسه؟!.. رفع صوته أقصى ما يستطيع فصدر من فمه ثغاء يشبه ثغاء كبش القطيع في ربيع خصب.. مستحيل ما يجري له، نظر فجأة إلى يديه.. كان الصوف يغطيهما وكفّاه قد تحولا إلى ظلفين لطيفين.. هذا غير معقول.. قفز نحو المرأة فأطلّت عليه صورة خروف ينظر إليه بوداعة ودهشة له قرنان مكسوران ويرتدي مثله بيجامة مهترئة.. تلمّس عبد الله رأسه فتلمّس خروف المرآة قرنيه.. إنه كابوس حتماً.. أسرع عائداً إلى الفراش وغطّى جسده ورأسه ولكن بقيت عيناه يقظتين تحدّق برعب في الظلام الذي صنعه الغطاء.. مدّ يده يتحسس إلتيه فوجدها قد كبرت وترهلت.. سحبها خائفاً.. رنّت الساعة تنذره بأن ميعاد الذهاب إلى العمل قد حان.. فليذهب العمل والمدير والموظفون إلى الجحيم.. ماذا سيقول لهم إذا أطلّ عليهم بهيئته الخروفية؟! سوف يقهقهون ويقودونه إلى المدير سوف ينظر إليه بارتياب من خلف طاولته ويسأله باتّهام: أهكذا يتنكر جماعتكم هذه الأيام؟ الساعة ما تزال ترنّ.. غضب عبد الله فمدّ يده الخروفية ودفع الساعة بعيداً فهوت وصمتت.. أقبلت الزوجة مسرعة إنها تشعر بدبيب النملة إذا تحركت داخل البيت فأحكم الغطاء حول جسده.. دخلت الغرفة متفقدة.. نادته.. لم يردّ.. ألحت.. فبقي صامتاً هل أنت ميت يا رجل؟ ليته كان كذلك.. شدّت الغطاء من فوقه.. قاوم ببسالة لكنه انكشف أخيراً فشهقت وصرخت ثم ولّت الأوبار..
هرب عبد الله واختبأ تحت السرير فعادت الزوجة متسلّحة بالتعاويذ وابنه البكر العاطل عن العمل وابنته المطلقة وثلاثة آخرين من أولاده.. دخلوا الغرفة بحذر نادوه لم يردّ.. رأى أقدامهم تقترب من السرير.. ضحك بمكر.. ولكنهم سرعان ما اكتشفوا مخبأه الغبي فأطلّت عليه وجوههم الدهشة وامتدت أيديهم تريد سحبه فعضّها بأسنانه الخروفية.. صرخوا خائفين ثمّ كرّوا مهما جمعن وأخرجوه بقوة لكنه استطاع الإفلات وبدأ ينطحهم كأمهر الكبّاش محقّقاً إصابات بليغة فهربوا.. أغلق الباب وركض في الغرفة فرحاً بانتصاره كما قفز مراراً على السرير يستمتع بأنّات نوابضه، تجمّد حين سمع طرقاً على الباب حدّق من من ثقب المفتاح فشاهد زوجته والعاطل عن العمل والمطلّقة ومعهم ثلاثة رجال عابسين يرتدون ألبسة بيضاء.. اشتدّ الطرق وبدأ الدفع فقاوم بعناد لكنّ القوة المعادية استطاعت تحطيم الباب واندفعت للإمساك به فهرب نحو الزاوية.. لن يكون غبياً رخيصاً كخروف العيد دافع ما استطاع بقرنيه وأظلافه ثم قفز نحو السرير ومنه إلى الخزانة منحشراً بين سقفها وسطح الغرفة.. نادوه كي يستسلم فرفض توسّلوا إليه وعدوه بالأمان لكنه رفض بإباء وشمم ولكن حين جاء ابنه العاطل عن العمل بعلبة كبريت وأقسم بأنه سيحرق الخزانة وما عليها هبط عبد الله منكسراً ورافعاً راية الهزيمة.. وما كادت قدماه تلامسان الأرض حتى انقضّوا عليه ناكثين بوعودهم فأغلقوا فمه وشدوا يديه ورجليه ثم ألقوه في سيّارة مضت تولول مسرعة بغنيمتها نحو بناء كبير أصفر له سور يقبع خلفه مجانين هادئون.
الاعتراف(3)
هل تسمعني يا دكتور؟.. لا تقف أو تشرد أرجوك.. أعرف أنك موظف في هذا المستشفى الذي يرعب السامعين باسمه ويبتسمون بفخر لأنهم ما زالوا خارجه. من حقك أن تسألني ومن واجبي أن أعترف لك بكل ما جرى لي.. أنت تأخذ راتبك من خزينة الدولة وأنا مواطن اسمي عبد الله الحافي. لا لست حافياً كما ترى فلدي حذاء أمريكي قد اشتريته من البالي وهذه الشحاطة المثقوبة قد جاد بها عليّ مشفاكم أما لقب الحافي فقد حظي به جدّ جدي عندما خدم منذ قرن في جيش السلطان ودافع عن بلاد الإسلام ثم عاد إلى بيته حافياً لا يستطيع ارتداء أيّ حذاء لأنّ الدمامل والبثور تملأ ساقيه وقدميه.. حسناً سأعود إلى قصتي.. أنت تستمع إذن.. راتبك حلال إذن والحمد لله.. اسمعني جيداً.. أنا إنسان أكره (الزايحة) يعني أيّ أمر ناقص حتى لو كنت أنا قد فعلت ذلك فأقف أمام المرآة وأوبّخ نفسي وقد أشتمها دون خجل.. الأنبياء.. الخطباء.. الشعراء.. الحكماء يأمروننا أن نغير كل أمر منكر وأنا أفعل ذلك ولذلك فقد قررت تقويم كلّ معوج.. فإذا رأيت شخصاً يلقي زبالة في غير موعدها أصرخ به (النظافة من الإيمان يا أخ.. أرني إيمانك إذن) وإذا رأيت بائعاً يرفع سعره أهدّده بالتموين بعضهم يخاف وبعضهم يقهقه ساخراً وإذا رأيت طفلاً يكسّر شجرة مسكينة أصيح به مؤّنباً (أهذا ما علموكم إياه في المدارس؟) فيهرب أو يخجل أو يستقوي بوالده الذي يطلّ من النافذة أو الشرفة وهو يهدّد.. إترك الولد يا مسطول.وإلا.. بل قد صرخت مرّة في وجه شرطي كان يقبض رشوة.. وذكّرته (الرشوة عيب وتحطيم للقانون يا رجلَ القانون) فنظر إليّ بسخرية واستخفاف وطلب مني أن أذهب لحال سبيلي قلت لي سبيلي إصلاح هذا المجتمع فما كان منه إلا أن جرّني إلى المخفر ونظم لي ضبطاً بالسير وسط الشاعر (وهذا غير صحيح وافتراء) وكان الراشي شاهداً ضدّي على ذلك.. وقد تجرأت مرة فشكوت مختار الحي لأنّه يسرق الكهرباء من الشبكة العامة ويربّي ماعزاً على سطح بيته ومزرابه يصبّ فوق رؤوس العبّاد كما أنه يشفط مئة ليرة عن كلّ (طجّة) ختم كما يتستر على المهربين والعاهرات والهاربين من خدمة العلم فأقسم المختار بأنني لن أنال شهادة حسن سلوك من بين يديه ما دام حيّاً، وقد هويتُ إرسال الشكايات إلى الصحف ولم تكن تخلو صحيفة أبداً من شكوى لي وربّما أكثر وكانت الردود دائماً (نعدكم بإزالة الشكوى قريباً.. أرسلنا لجنة للتحقيق.. وشكراً للمواطن الصالح عبد الله الحفيان) وصار الجميع يرهبني وأطلقوا عليّ ألقاباً كثيرة (المفسد- المؤذي- المضر- خارب البيوت) لم آبه أبداً لهذه الألقاب فالأنبياء المصلحون تعرضوا من قبلي لهذا الأذى.. ولكنّ أمراً غريباً قد حدث معي منذ أشهر قلب ميزان عقلي وألقاني في حيص بيص.. كنت أزاحم مع حشد كثيف.. ونسيت إن كان للحصول على الخبز أو جرّة الغاز أولدفع فاتورة ماء أو كهرباء أو للحصول على جواز سفر فكل أمر يهم المواطن يحتاج إلى طابور.. أذكر حينها أنني ألقيت خطبة في الجموع، فحواها أنّ الأمم العظيمة قد تفوقت علينا بالنظام ومصائبنا كلّها من الفوضى وطلبت من الجميع أن يخضعوا للنظام فصفّق بعضهم إعجاباً وحيّوني بحماس وصرخ آخرون (لن نخضع أبداً للنظام).. واتهمني أحدهم بأنني أحب الزعامة وآخر بأنني معتوه.. وآخر بأنني انتهازي.. ولكني أصررت على تنظيم الدور ووقفت في آخره لأعبر لهم عن تواضعي وإيثاري فجأة توقفت سيارة سوداء.. فهمس شخص (اسكتوا.. جاءت الشبح) وقدّر أحدهم ثمنها بأنه يساوي أدوية الضغط والقلب لأبناء المدينة عاماً كاملاً هبط منها شخص يشبهنا ولكن تعلو وجهه نظرة اشمئزاز رهيبة.. كأنه أكل منذ قليل فأراً نيئاً.. لمحنا بقرف ثم مشى باعتداد واستولى على أول الدور دون حق.. ولما حاول صاحب الدور الاحتجاج لطمه على وجهه فتراجع يعوي.. صمت الجميع كأنهم أحجار المقابر.. استفزّتني حمى إصلاح المجتمع وحماية الفضيلة فاتجهت نحو راكب الشبح وخاطبته بلهجة مؤدبة ولكنها حازمة -أنت يا سيد.. عد إذا سمحت إلى مكانك خلفي في الدور. وطلبت العون من أفراد الطابور فأداروا وجوههم متشاغلين.. أما راكب الشبح فلم يردّ أبداً وأدار لي أكتافه العريضة.. ناديته ثانية.
-يا أخ.. احترم النظام..
فاستدار نحوي ورمقني باستخفاف وقال عبارة أفقدتني صوابي
-هذا لا يعنيك.
فصرخت في راكب الشبح المشمئز.
-بل يعنيني.. أنت تأخذ حقي وحق الناس.. والناس كلهم سواسية أمام القانون.
-ومن أنت حتى تذكرني بالقانون؟
فأجبته بفخر واعتزاز.
-أنا مواطن
ولم أكمل (الطن) حتى هوت قبضة يده على وجهي ألقتني أرضاً وأحسست بحوافره ترفس بطني وظهري.. دارت الدنيا بي.. غبت عن الوعي وحين صحوت وجدت نفسي في غرفة مظلمة لا تتسع لأكثر من نملة وكنت أسمع دائماً صوتاً يحذرني.. (اسمع يا عبد الله الحفيان هذا جزاء من يتدخل فيما لا يعنيه..) وبعد أن أقسمت لصاحب الصوت بأنني لن أتدخل فيما لا يعنيني أخرجوني.. لكنّ المشكلة الكبرى يا دكتور أنني لا أستطيع التفريق بين ما يعنيني وما لا يعنيني.. شالتُ كثيراً عن الحل.. كتّاب.. أساتذة فلاسفة.. منجمين.. رجال دين.. ولكنني لم أفز بجواب شافٍ أبداً بل صرت أسمع هذه العبارة المستفزّة أبداً (هذا لا يعنيك) أينما ذهبت وتوجهت.. منذ شهرين كنت في دورة مياه عامة وفجأة رأيت أحدهم يطلّ عليّ برأسه الحليق من أعلى الباب صرخت به (عيب.. انصرف يا قليل الحياء) ولكنه أجابني ببرود (هذا لا يعنيك) ومنذ مدة كنت أسير مع ابنتي المطلقة وزوجتي فوقف أحدهم أمامنا ورمانا بكلمات بذيئة وإشارات فاضحة فصرخت مدافعاً عن شرفي لكنه أمسكني من عنقي وقال لي (هذا لا يعنيك) ومنذ أسبوعين كنت أركب الباص فأحسست بيد أحدهم في جيبي فسألته بلطف ماذا تفعل يدك في جيبي؟ فصرخ بكل وقاحة (هذا لا يعنيك) فاستنجدت بركاب الباص فصرخوا أيضاً (معه حق هذا لا يعنيك).. حتى أولادي وزوجتي وزملائي ومديري في العمل حين أسألهم عن أمر ما يقولون (هذا لا يعنيك).. لجأت أخيراً إلى الصمت التام وتناسيت أنّ لي لساناً كان ينطق ويحتج.. كما أحسست بأنه لا جدوى مما أراه ولا فائدة مما أسمعه.. فصرت أنظر ولا أرى.. أسمع ولا أعي أتحرك كما تتحرك القطط والكلاب والأنعام واستهوتني الخراف من بين مخلوقات الله فصرت أقتني صورها وأتردد على أسواقها أتأملها بشغف.. يا لها من مخلوقات لطيفة وديعة يحبّها الناس يقدّمون إليها العلف بيد ويذبحونها باليد نفسها.. لقد رعاها الأنبياء وقدّمها الناس قديماً أضاحي لإرضاء الآلهة الغاصبة.. إذا جاعت تثغو بلطف ماع ماع وازداد عشقي لهذه المخلوقات الوديعة المطيعة حتى تمنيت أن أتماهى في هذا المعشوق وأخيراً تحقّق حلمي وكان ما كان.