وهل من شك بعد هذا بأن من أتحدث عنه هو مواطن يتوفر له كامل عدة المواطنة وعتادها؟ وإذا كان هناك من يشك ، فإنني أقول: ان هذا الذي أتحدث عنه يمارس حقوقه الدستورية بأكبر قدر متاح، إذ أنه يشتري بعض الكتب والصحف والمجلات التي تسمح دائرة المطبوعات والنشر بدخولها ، ويدفع ثمنها من راتبه الذي يتقاضاه كل شهر ، وبالمناسبة ، فإن الراتب أكبر دليل على أن من يتقاضاه هو مواطن معترف به من قبل كافة مخاتير حارته، ومن قبل السلطات الرسمية في الدولة.
أما بالنسبة له كمخلوق طموح، فهذا محور الحديث، خاصة وان طموحه هو مربط الفرس أو بيت القصيد كما يقال.
ولست أظن ان أحداً يختلف معي في ان الطموح مسألة مشروعة لكل الناس في هذا الوطن، إلى درجة أنها أصبحت مشروعة للأجانب كي يحققوا طموحاتهم بين ظهرانينا.
وفي ظل سياسة الاقتصاد الحر أو المفتوح ، في وطننا ، فإن مواطنا كالذي نتحدث عنه، يصبح من حقه ان يمارس طموحه، بل ان من حقه ان يخلق لنفسه طموحاً ، كي يتبناه إلى أن ينمو ويكبر ويحققه بكامله.
ومن أجل الحقيقية، أقول ، ان هذا المواطن كان طموحاً منذ اليوم الأول لميلاده السعيد، فعندما انزلق من بطن أمه، جأر بأعلى صوته، لا على طريقة المواليد العاديين، إنما بطريقة فريدة خاصة به، بل إنه ولد وفي يده قلم لا ينضب حبره، واشهره في وجه القابلة القانونية صائحاً:
- أنا ناقد هذا البلد.
وفعلاً ، عندما كبر وترعرع ظلت هذه الصفة ملازمة له، فكان ينتقد كل تصرفات زملائه، الحسنة منها والسيئة حتى أصبح مكروهاً منذ نعومة أظفاره ، ولكن حبه وتفانيه وهيامه بالنقد لا يجعله يهتم بمشاعر الآخرين نحوه، لأن لا صوت يعلو على صوت الموضوعية .
وعندما كبر، وبلغ سن الرشد، استيقظ على حقيقة مدهشة ومثيرة للفرح الجميل. لقد اكتشف ان النقد على نطاق ضيق داخل دائرة الزملاء والأهل والأقارب، ليس مجدياً، ولابد من الدخول في الدائرة الأكبر، دائرة النقد الأدبي، من خلال الصحف الأسبوعية في البداية ثم الصحف اليومية.
ولعل الحديث عن شخص فذ كهذا، لايمكن أن يكون وافياً وشاملاً، مثل الحديث معه، والدردشة دون أية تحفظات.
قلت له:
-هل يستطيع أي مواطن أن يصبح ناقدا؟
قال بثقة ظاهرة:
-بالتأكيد ، لأن الطموح هو الأساس، فأنت تلاحظ معي، ان المواطن الذي يريد أن يصبح تاجر حبوب معتبراً ، يستورد ويصدر، ويحتكر ويخبئ بضاعته، لا يمكن أن يكون كذلك بدون الطموح.
-وما هو الطموح كما ترونه؟
فكر برهة، ثم قال:
- الطموح، هو التطلع إلى المستقبل بابتسامة مضيئة، والعمل على تحقيق الرغبات الكبيرة بكل السبل، ومن هنا نجد ان الطموح مرادف للعصامية، وإذا لم نكن عصاميين، يصبح طموحنا ضربا من أحلام اليقظة السخيفة.
قلت مستوضحاً:
-هل لكم ان تضربوا لنا مثلاً على ذلك؟
-إذا قلنا ان الطموح ، هو التطلع إلى فوق مع الابتسامة المشار إليها، فإن كل مواطن فقير يسعى إلى الانسلاخ عن طبقته ، كي ينتمي إلى البرجوازية الصغيرة، هو مواطن طموح.
- وكيف تسعون أنتم إلى طموحاتكم النقدية؟
-هذه شغلة بسيطة ، لقد حفظت مفردات عربية وأجنبية غريبة ومألوفة كثيرة، ثم بدأت بإطلاقها على الأعمال الأدبية والفنون التشكيلية المطروحة في ساحتنا.
- هل لكم ان تذكروا لنا نماذج من هذه المفردات ؟
- مثل بيرواقراطية، تيوقراطية، الالتحام الحميم بالواقع المعاش، الانفلاش، الانفراش، الضبابية، التقوقع داخل الذات، الهروبية، الالتزام بالقضية الفلسطينة.
- وهل يكون الالتزام بالقضية الفلسطينية، وحدها التزاماً؟
- بالتأكيد لا ، غير أن قزمية كتاب الساحة ، تجعلني اتقازم في فهم الالتزام حتى يكون هناك انسجام ديناميكي مواكب لديمومة الابداع وصيرورته، ومن هنا فانك بلا شك تلاحظ ضرورة الالتزام بالقضية الفلسطينية .
وضحك المواطن الطموح وأضاف:
- وبمجرد أن أعثر على ذكر لفلسطين في أية قصة أو قصيدة، أقول عنها إنها ملتزمة بالقضية الفلسطينية ، وإنها نموذج يحتذى به.
ورغبة مني في إضاءة جوانب أخرى من شخصية هذا المواطن قلت:
-وكيف تتعاملون مع الكتاب؟
-في الواقع ، أتعامل معهم على أساس تصنيفهم إلى معسكرين، معسكر الأصدقاء، ومعسكر الأعداء. وأنت تعرف أننا نعيش في مجتمع ما يزال يعطي للخواطر والمجاملات أهمية معينة لا تخفى على اللبيب ، ولذلك ، فأن أعمال معسكر الأصدقاء الأدبية، هي نماذج تحتذى ويقتدى بها، أما أعمال معسكر الأعداء فهي غامضة ، تدور في فلك الرمزية المغلقة، ويسود دهاليزها المنفلشة ظلام قاتم يصعب الولوج فيه. وهذه الأعمال دائماً رديئة، ويستحسن كنسها من الساحة.
قلت:
- وإذا كتب واحد من معسكر الأعداء قصيدة أو قصة جيدة، فماذا تقولون؟
- قد لا أقول شيئاً البتة، وقد أقول ما يجب أن أقوله عن أعمال معسكر الكتاب الأعداء، فالأحكام موجودة، جاهزة وتحت الطلب ولمختلف المقاسات ولكل الأعمار.
قلت للمواطن الطموح:
- إلا تخشون من قيام أحد أفراد معسكر الأعداء بإهانة شخصكم الكريم، فيلوي عنقكم ويضعه تحت رجله؟
نظر إلي بذعر مكبوت وقال:
-وهل الدنيا سائبة ؟ هل نحن في فلة حكم ؟ لماذا أنشأت الدولة مخافرها في كل مكان؟
وشهق ثم زفر ثم قال:
- هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن المهم ان تبقى راية الموضوعية قائمة مرفوفة على هذه الساحة الجميلة، وثق تماما ان الموضوعية التي أتحلى بها، جعلتني محبوبا من قبل بضعة أشخاص.
وسألت المواطن الطموح:
- هل أورثتكم ممارسة النقد مشاعر خاصة نحو الأشياء والناس؟
- سؤال وجيه فعلاً. في الواقع نعم فأنا انظر إلى الجانب القبيح في الأشياء، وافترض دائماً أن الكتاب يكرهونني جداً، وان القراء يقفزون عن مقالاتي . ولكني اعترف لك، وهذا كلام ليس للنشر ، أنني أحس بكبرياء طاووس عظيم، ولاسيما أني بدأت أحقق طموحي فعلاً. وخلاصة الكلام: أنا مكروه أذن أنا موجود.