ربما ما أتحدث عنه لايهم شخصاً آخر غيري وعليّ أن أحمله معي وأمضي خشية تدنيسه بعدم الفهم الكامل أو اللامبالاة وبالتالي كان ينبغي التمسك بالهدوء الذي قاد حياتي الظاهرة والاستمتاع بلعبة التأجيل الذي وطّن حياتي. أشعر بحسرة لعدم سيطرتي على شروط اللعبة القاسية التي قررها هدوئي الظاهر وضعفي. نعم، ضعفي.. الضعف نفسه الذي أفقدني نعمة التمسك بالذاكرة الهادئة. لذا كان ينبغي التمسك بالخوف الذي يجنبنا ملامسة صدى الحقيقة الخفي ذلك الصدى الذي بمقدور ظلاله أن تجرح أكثر من أي شيء آخر.
وإذا كنت اليوم أحاول التفوه بما أخبرني به فذلك لأنني أشعر بانضمامي إليه كلياً وأننا وجدنا إنسانيتنا أحدنا عند الآخر.
بعد كل رحلة من رحلاته الطويلة كان يأتينا محملاً بالحكايات والهدايا. ونحن صغار كانت الحكايات تثيرنا أكثر من أي شيء آخر وإن كانت مكرورة في بعض الأحيان.
كان يمكن أن تفقد طعم الحكاية لولا إصراره على قصها بطرق مختلف. وبهذا كان بمقدور كل واحد منا أن يمتلك حكايته الخاصة. أما عما كانت تدور تلك الحكايات فلم يكن ذلك بالأمر المهم. ماكان يهم قدرة المتلقي على خلق حكايته هو الآخر.
ربما لهذا السبب بالذات كانت حكايات بلدتنا معروفة المصدر.. مشاعة للجميع وإن اختلفت بشكل أو بآخر حتى يمكن أن تعد محاولة التزام حكاية محددة حماقة كبيرة.
ومع هذا كان صغار مدينتنا يستبدلون الحكايات بالهدايا حالما يبدأ أحدهم برسم قرص الشمس ضامراً وراء الأفق بلا عيون أو خدود وردية وبدون فم ضاحك وشعر طويل أصفر... يحيدون عن روح الحكاية حالما تختفي النجوم من حول قرص الشمس ويختفي القارب الذاهب إلى كوخ تنبع من سقفه نخلة مثقلة بالتمر.
اليوم أدركت سبب حزنه وهو يأتي على نهاية حكاياته بالرغم من كل الطرافة التي كان يحاول بثها في المكان. وهكذا كانت حكاياته مشاعة للجميع إلاّ تلك الحكاية التي لم يتجرأ أحد على التلاعب بها أو تداولها لأنه ببساطة لم يتفوه بها لشخص آخر غيري ولم يره أحد أو يسمعه وهو يقص حكايته الأخيرة.
هل كانت حكايته الأخيرة؟!... لا. لم يكن الأمر كذلك. نعم، لم تكن الأخيرة بل الوحيدة. كان يمكن أن لا أعدها كذلك لولا إيماني بأننا تغلبنا على الانفصال وأذبنا الجليد القاسي الذي يغلف الذات الموحشة ويفصلها عن الآخر عندما قصها عليّ وهبني إياها. منحني الحق في تفسيرها.. التأثر بها... التجاوب معها أو عدمه.
منحني كل هذا ولم يطلب مني كتمانها ذاك لأنه كان يعرف أن هذا ماكنت سأفعله.
هل كنت أمينة على حكايته وأنا أرددها في داخلي في محاولة للحفاظ على كيان هدوء ظاهر، يخفي تحته ذاكرة محمومة؟! أشك في هذا!!
أيمكنني مثلاً أن أنقل أو أن أجسد ملامحه التي استكانت إلى أبدية الحكاية واستغرقت في أجوائها تماماً أو تعابيره الملفعة بالجمود الحي وهو ينتهي منها.. اطراقته.. حركة أصابعه القلقة.. صوته المتهدج تارة والمخنوق أخرى.. ارتعاشة صوته وهو يتلفظ بأسماء أولئك الأشخاص.. السخرية المرّة وهو يتكلم عن نفسه.. وصفه لما شعر به وفكر فيه وهو يحاول قص حكايته عليّ؟!
أسئلة تجاهلتها بعد أن أمعنت في محاولاتي لنسيانها أو تناسيها. أما كيف تجاهلتها فهذا لايعود للزمن أيضاً بل لمحاولاتنا تخطي ذلك الخط الفاصل بين الذكرى والحزن وتحديد مكاننا الخاص في دائرة الألم التي تضيء عتمة الداخل.
وبما أنه لاشيء من حولنا يمكن أن يسير بانتظام ولا يمكننا أن نتذوق مطلقاً الإحساس بتحول العالم يوماً ما إلى خطى تسير على إيقاع موسيقي واحد -مارش عسكري ربما- أشعر أن من الصعوبة بمكان إيجاد نسيج منتظم تسير عليه حكايتي.. حكايته.
لذا سأحاول ترتيب حكايته.. عفواً حكايتنا برقة، ما علي إلا أن أمنحها الحرية. كل الحرية لكي تبقى غير ثابتة.. هلامية تختار بدلاً عني سبيل الخروج.
أعرف أن معنى هذا الاحتفاظ بتركة الألم الثقيلة في دواخلنا لكن ذلك ليس ما زوكية بأية حال من الأحوال مادمنا نحافظ على عمق الألم ونبله، وما دمنا نخشى على تلك الهالة الخصبة التي يولدها فينا ونحن نقتات عليها في لحظات تكون الروح فيها مثل فراغ ثلجي هائل يقتلنا تراكمه.
قبل أن يبدأ رحلته الطويلة التي لم يعد منها إلى الآن قص علينا جميع الحكايات.. القديمة منها والجديدة: الحكايات التي استحوذ عليها الأجداد والآباء. منح كل واحد منا حكايته الجديدة في جلسات طويلة يغادرنا بعدها منهكاً وعلامات الإعياء واضحة في صوته الذي بدا بعيداً موغلاً في السخرية.
ثلاثة أيام لم يتوقف فيها عن سرد حكاياته إلاّ لكي يتركنا متظاهراً بالنعاس. غير أنه كان يستلقي طوال الليل محدقاً إلى نقطة واحدة من سقف الغرفة.
في فجر اليوم الرابع رأيته بهدوء حاملاً حقيبة جلدية زرقاء، لم أرها من قبل، ويغادر المنزل. توقف عند سدرة الدار الهرمة.. تأملها طويلاً. حاول هزها وعندما أخفق أبتسم بتعب.
راقبته من نافذة الغرفة المطلة على الحديقة. وهو يهم بحمل حقيبته التقت عيناه بنظراتي فبقي على وضعه منحنياً، يده تمسك بالحقيبة من دون أن يحاول رفعها والوقوف من جديد.
نظر إليّ بطريقة أحسب أنه أدرك إحساسي بها: نظرة جريئة قلقة اخترقت خطوط الشمس الأولى المخبأة في برودة الفجر والمسافة والنافذة واستغرقت في العينين تماماً. شعرت بألم في ظهري وكأني أقف منحنية أنا الأخرى. ومع هذا كان عليّ أن أقاوم ذلك الألم وقوة نظراته واستمر في النظر إليه تماماً مثلما يفعل.
قوة ماكانت تدفعني لذلك.. تصرخ بي "قاومي... لاتهربي.. لاتهربي".
واصلت النظر إليه وأنا أضغط بكفي الأيمن على حافة النافذة، أتشبث ببرودة الحديد.
ربما استمر ذلك لحظات لا أكثر، غير أنني أحسست بأن زمناً طويلاً مرّ قبل أن يشير لي "تعالي".
لم يقم بحركة أو يفه بكلمة لكنه أغمض عينيه وهو يخفي شبح ابتسامة قديمة شفيفة.
توجهت إليه بسرعة. عندما وصلت لم أعرف ما أفعل أو أقول. كنت مرتبكة فبدأت أهز الشجرة. تساقطت الأوراق ولا ثمرة واحدة. قال لي يبدو أنني هرمت.
-أنت راحل. أليس كذلك.
سألته ولم أزل أهز الشجرة. ربت على كتفي وقال بصوت خافت:
-كنت أظن أنني أستطيع أن أمضي هكذا بصمت. كان بمقدوري أن أفعل هذا. غير أنني وقفت هنا وكأنني أنتظر قدومك.. أنت بالذات. لقد كبرت بسرعة لم أتوقعها ومع هذا مازلت تنضمين يومياً إلى الصغار وتصغين لحكاياتي، أردت أن لا أخبر أحداً برحيلي.
-"لست مضطراً لذلك".
قلت له ذلك وأنا لاأعرف إن كنت أعني ما أقول حقاً.
-"يبدو أن كل شيء يفلت مني بسهولة حصولي عليه، مع أنني لم أمتلك قرار الرحيل بتلك السهولة. كان الثمن مؤلماً".
كان يتكلم كمن يخاطب نفسه. توقف فجأة وهو يسألني:
-"كم عمرك؟
-عشرون عاماً. لماذا؟
يالسرعة السنوات.. كم هي...
قاطعته "أريد أن أذهب معك. بل قررت ذلك. كنت متأكدة من أنك سترحل. شعرت بذلك منذ مقدمك.
-أنا أيضاً أحسست بأنك تعرفين وربما لهذا السبب توقفت عند الشجرة كي أمنح نفسي فرصة فقدان ما اعتقدت أنني امتلكته.
-أريد أن أرحل معك.
-لماذا؟
-أشعر أنني لن أراك مرة أخرى.
-هناك أسباب كثيرة تمنعني من اصطحابك، ينبغي أن يمر زمن طويل قبل أن تبتلعك، الدوامة، إن ما أقوله ليس حكاية من حكاياتي عن "الدوارات" التي تبتلع السفن والملاحين والعشاق والقراصنة والصعاليك.
فأنا مثلاً كنت من الذين يجهلون مايحدث خارجهم. لكني بعد أن شهدت ماحدث بدأت رحلة داخلي للوصول إلى الخارج. رحلة مرعبة تتبعت خلالها قانون الآخر. لم يكن في نيتي الوصول إلى مرحلة يمكنني معها انتشال الماضي من بؤرة الأخطاء. إذ أن الأمر بحد ذاته أصبح ميؤوساً منه إلى جانب كونه مؤلماً. ربما ما يمكن أن أفعله هو تحديد شكل تلك الأخطاء التي نتوارثها بحكم تشابه التجارب وعدم شعورنا بالأمان، ونحن نجد أنفسنا فجأة في مدار شرط تاريخي نظل نتخبط في فلكه حتى تبتلعنا دوامته مثلما فعلت مع الذين سبقونا والذين سبقناهم.
أشياء كثيرة لابد أن تتخلي عنها قبل أن تمتلكي قرار الرحيل.
أتدركين ما أعني؟
-أعتقد أنني أشعر بما تقول.
-لابأس.. لابأس. ليس سهلاً أن نشعر بالشيء. إنها خطوة كبيرة باتجاه إدراكنا له.
لقد اقتضى مني ذلك الإدراك أن أعيش تلك الحياة الواسعة وأن أفقد الكثير بما في ذلك إنسانيتي لكي أصل إليه.
مع هذا لم أصل بعد لكني في طريقي للكشف عنه. أعتقد أن الوقت حان للرحيل.
نظرت في عينيه ولم أقل شيئاً. حمل حقيبته واستدار مغادراً المكان.
لم أقل كلمة أو أتبعه كما توقعت، لكني بقيت أنظر في عينيه بالرغم من مغادرته المكان. شعرت بأنه سيعود إلى المكان نفسه وهذا ماحدث.
اقترب مني وأمسك يدي برقة وقال:
-لاأستطيع أن أرحل وأنت هكذا. سأقول لك شيئاً.
-لست مضطراً للحديث.
قلت له ذلك ولم أزل أنظر في عينيه لكنه تجاهل ماقلت واستمر في الكلام.
"أعرف أنك تؤمنين بي ولهذا السبب يجب أن أخبرك بأني لست كما تظنين.. قد يتطلب إيضاح هذا الكثير من الشجاعة. شجاعة مني ومنك. وأنا أرحل ينبغي أن أكون أمامك أنا لا صورتي.. بعدها عليك أن تتخذي قرارك.. أنت وحدك.
أطرق وهو يتحدث بصوت كان يأتيني من البعيد "كنا عشرة وكان ينبغي أن يذهب سبعة منا في مهمة يعرف كل واحد منا أنها رحلته الأخيرة. لم يكن ثمة أمل في العودة. وكان علينا أن نتخذ القرار بأنفسنا من يذهب ومن...".
بدأ صوته يبتعد أكثر وأكثر وهو يتفوه بجملته الأخيرة.
وضع الحقيبة واتكأ على الشجرة رافعاً رأسه لايجرؤ على النظر إلى عيني اللتين تمسكتا بعنادهما.. بقسوتهما.
قوة غريبة كانت ترغمني على توجيه تلك النظرات إليه. لم أكترث بحزنه... بوحدته كنت مثلهم أحاول امتلاك حكاية وحسب!!.
كان يقف أمامي مثل طفل أعزل يشعر باليأس ولا يحاول الدفاع عن نفسه. لم أكن أريد النظر إليه بتلك الطريقة التي لم أكن مسؤولة عنها لكني استمررت مثلما أستمر بحديث طويل..
"انقضت الليلة وكل واحد منا منبوذ في عالمه الخاص. وحيدين بطريقة مريعة. صحيح أننا لم نصرح بذلك لكن هذا ما شعرت به ولابد أن يكون ماشعر به الآخرون أيضاً.
من يرنا في تلك الليلة بمقدوره أن يجزم أن لاقوة يمكن أن تزيحنا من مكاننا أو تخرجنا عن صمتنا. لكن أول خيط ضياء تسلل إلى موقعنا كانت له تلك القوة.. قوة جبارة جعلتنا ننتفض جميعاً في وقت واحد فزعين، مثل شخص مستغرق في النوم يباغته صوت إطلاق الرصاص.
في فوضى الصمت المخيف صرخ أصغرنا.. اسمه كريم.. حدثتك عن حكايته مرة كما أعتقد. كريم الصغير لا الكبير الذي تعرفينه هو الآخر. قال "الحل هو، ولم يكمل. توجهت أنظارنا إليه في وقت واحد.
كانت أول مرة ننظر فيها إلى شخص آخر طوال تلك الليلة.
لم تخرجه نظراتنا عن صمته بل زادته صمتاً، عاد إلى زاوية الموضع البعيدة وانكمش واضعاً رأسه بين يديه. كل واحد منا كان يرغب بمعرفة الحل بقدر خوفه من سماعه، حينما توجهت الأنظار إليّ.... إلى كبير المجموعة -كما كانوا يقولون-!!
تصوري حجم الرعب الذي تملكني وأنا أقف إزاء ثمانية أشخاص ملامحهم معبأة بالخوف والموت والأمل والرجاء. كانت نظراتهم متوسلة تبغي الخلاص.
هرباً منهم توجهت إليه. وقفت قريباً منه ورجوته بصوت خلت أن المكان ردد صداه بقوة ولا جواب. التفت وجدت النظرات المتوسلة ذاتها. أدركت أن صوتي لم يكن سوى صدى لخوفي وإن الكلمات لم تكن غير همهمات ميتة انتشلتها خفقات قلبي، وتحولت النظرات إلى حنجرة صرخت بجزع "نريد أن نسمعك أنت. أنت أكبر سناً وأكثرنا حكمة!
رددت حنجرة ثانية وثالثة.. أصبحت خمس حناجر.. ثماني حناجر صرخت بيأس "عليك أن تقرر".
كانوا يصرخون ولم يأبهوا بحزني.. بتعبي... بالحكاية الدامية التي جملوها بإطار قرار. كنت وحيداً أعزل تدفعني قوة أرواح يائسة للسير حافياً في طريق شائكة.. طريق أدمت روحي... جففت دموعي.. أخرست صوتي حينها تكلم الصوت الذي لم يكن صوتي كان صوتاً سمعته مثلما سمعه الآخرون. كان صوتاً لا إنسانياً وهو يقول "لنجر قرعة".
كنت استمع مثلهم إليه لكن الأنظار كانت متجهة نحوي، ارتعبنا وأنا اكتشف أن الصوت صادر عني أنا. خبأت وجهي بيدي. حاولت أن أبكي. لم أستطع. مع هذا لم يتركوني. كتبوا أسماءهم على وريقات صغيرة وقالوا "عليك أن تقوم بسحب الأوراق". كنت آمل أن يدعو بصيص الأمل الذي تبقى لي وحسبت أني أستطيع التمسك به لكنهم لم يتركوني. قالوا بصوت واحد.
"اكمل ما بدأت" حتى كريم الصغير انضم إليهم. كان وجهه الوجه الوحيد الذي وقعت عليه عيناي وظلت هكذا ربما لحد هذه اللحظة وأنا أنظر إليك. كان الجميع يدفعني للاستمرار في الطريق الشائكة.. أن أصل إلى آخر الطريق. ومرة أخرى لم تكن اليد التي امتدت إلى كيس الأوراق يدي كما لم يكن الصوت الذي تلفظ بالأسماء صوتي.
كانت الوجوه متجهة نحو شفتي... تحاول تحاشي صوتي اللاإنساني.. تحاول تلقف جرمي.. نعم جرمي. كنت أشعر بقرف مني ومنهم.. بقرف من وجودي معهم.. من وجودهم معي. ومع هذا لم أستطع تحويل نظراتي عن كريم الصغير، حاولت ولم أستطع. كنت أرى الآخر الذي فقدت مجسداً في وجهه الطفولي الخائف العاشق الممتلئ حباً للحياة. لم أكن أنوي إخافته لكني لم أحول نظراتي عنه وأخفقت في الإمساك بآخر فرصة لي. ترى ماذا لو كنت فعلت وأنقذته من نظراتي؟
أكنت تمكنت من إنقاذ فرصتي الأخيرة؟!!.
كانت يد الآخر تواصل عملها بإتقان أكبر بعد إسقاط كل ورقة وعندما سحبت الورقة الأخيرة وأوشكت على فتحها أمسكت بها يد أخرى، كانت يد "كريم الصغير" الذي انتزع الورقة صارخاً (كفى. توقف. لم أعد أستطع الاحتمال. إنها ورقتي... إنها أنا.
سأذهب. سأذهب، فقط كفوا عن هذا.. سأذهب).
لم أعرف من وقعت القرعة لكني رأيتهم وهم يحملون أسحلتهم ويغادرون بصمت. بحثت عن كريم الصغير الذي لم تفارقه أنظاري فلم أجده.
ذهب معهم وبقيت مع اثنين آخرين لم أتعرف على وجوههم، قابعاً في الزاوية المفضلة لكريم الصغير.. الزاوية التي كتب على جدرانها حروف اسم حبيبته وتواريخ لقاءاتهما.. مقاطع من أغنية جنوبية قديمة متجددة الحزن طالما سمعته يرددها كما سمعت الجدران ترددها بغيابه.
نعم، سمعت ذلك ولم أكن واهماً. سمعت صوت كريم الذي اختزنته جدران الزاوية شجياً قوياً متعب النبرات.
كان الصوت سلسلة متواصلة من غمغمات أغان مبتورة النهايات تداخلت فيها هدهدات مهد وصوت أراجيح العيد ودعوات أم بلا أدنى نشاز مكونة ترنيمة حزينة طويلة عن الفراق والحب المستحيل توقفت بعد يومين من الهدوء المرعب، إذ باغتنا صوت غناء كريم الصغير وقهقهة كريم الكبير.
قاموا بجلبة كبيرة وهم يدخلون الموضع. عادوا جميعاً. أسرع زميلاي إليهم فرحين. انتظر الجميع أن أتفوه بكلمة أو أقوم بحركة تنم عن إحساس أو شعور ما لكني لم أفعل. جلست في مكاني. شعرت بأنهم لم يكونوا الرفاق ذاتهم الذين عرفت كما لم أكن أنا.
كانت وجوههم مغبرة، متشابهة وكأنها اتخذت معالم وجه واحد. وجه حيادي رأيت فيه معالم الآخر الذي أكره. حتى غناء كريم الصغير وصوته الشجي لم يكن سوى نشيج بقايا إنسان في داخله... في داخلي.
جلسوا يتسامرون ويتقاسمون الطعام والحكايات. الحكايات التي أصبحت ذكريات حالما انتهوا من أداء أدوارها والذكريات التي ستصبح حكايات يقصونها على الذين ينتظرونهم. الأمهات والآباء.. الزوجات والحبيبات.. الأصدقاء والجيران.
حاولوا أن يشركوني في حكاياتهم لكن الترنيمة سرعان ما عادت أقوى. أقوى مني ومن حضورهم الواهي الذي جعلني أصر على التمسك بحكايتي خشية أن تفقد شيئاً من صورتها اللاإنسانية المؤلمة وهي تتسلل إلى الآخر الذي ليس أنا.
منذ ذلك اليوم وحتى هذه اللحظة لم تتوقف تلك الترنيمة وربما هذا ماجلعني أحتفظ بحكايتي بعيداً عن الآخرين. لذا عليك إعادة التفكير ملياً قبل الإبحار في جوهر الحكاية.
كنت صامتة أتأمله متكئاً على الشجرة ولم أقل شيئاً أو أقم بحركة تنم عن سلوك أو شعور معين. لكني وجدتني أحاول الهرب من نظراتي المصوبة إليه.
تمنيت أن أقول كلمة.. أية كلمة كانت لكني لم أستطع. وددت أن يمهلني لحظات أخرى. لم يفعل. إذا تحرك فجأة كمن استفاق من إغفاءة طويلة.
لا أعرف أية قوة حركتني صوب الشجرة وجعلتني أهزها بعنف... بعنف شديد، بيأس.. بألم.. بعنف لم أتوقعه.
كنت أنظر بعينين مبللتين بالدموع إلى أغصان الشجرة التي تجردت من ثمارها.. من أوراقها. كان رأسي المنهك بالألم واليأس والحزن والحيرة وعدم الفهم والدوار وشبح ترنيمة طويلة أثقل من أن يحمله جسدي المتعب فجثمت في مكاني دقائق طويلة رأسي متكئ على جذع الشجرة وجسدي يحتضن الأرض وسط أوراق وثمار متساقطة.
كانت الصور التي أطبقت عليها جفوني لم تزل ضبابية متداخلة.
فتحت عيني أكثر من مرة ولم أستطع الإمساك بصور الخارج بوضوح.
مرة ثانية وثالثة حتى تمكنت من تمييز شيء صغير بدا بعيداً.. شيئاً فشيئاً بدأت هيئة ذلك الشيء بالاقتراب ومن ثم الوضوح. وضوح الشيء الشكل واللون الذي اتخذ عدة درجات لونية استحالت إلى الأزرق.. الأزرق الخالص. حقيبته الزرقاء التي أعرف إن كان نسيها أو تعمد تركها وهو يغادر.
نهضت وسرت نحوها. حملتها بحنان بين يدي. كانت خفيفة الوزن وكأنها فارغة. تحسست برودة ملمسها الناعم الصقيل. توجهت إلى داخل البيت من دون أن أفكر في فتحها أو أشعر بحاجة لذلك.
وهكذا مضى على جودها معي أكثر من عشرين عاماً. خبأتها بعيداً عن كل عين ونقلتها معي بحرص تراجعت حدته عاماً بعد آخر. حملتها معي بغبار البيوت التي سكنت والمواسم التي مررت بها.
تخلصت من أشياء كثيرة لكني لم أتخلص منها مثلما لم أستطع التخلص من أسئلة طفلي الذي يشبهه كثيراً -كما يقولون- وهو يحاول اكتشاف الأشياء بفضول. كبر طفلي وتوقف عن طرح الأسئلة غير أن أسئلتي لم تتوقف حتى حانت اللحظة التي طالما خشيت حلولها. تلك اللحظة التي وجدتني أنتزع الحكاية من أوراق روحي القديمة وأنا أرى ابني الذي كبر يحتضن الحقيبة محاولاً فتحها.
لم أقل شيئاً لكني رأيت يدي تمتد إلى الحقيبة غير مبالية بالغبار المتراكم عليها عاماً بعد آخر، تتسلل الأصابع إلى جسد الحقيبة وتمسده برفق.. تتحسس أخاديده الصلبة الهرمة.. تتوغل شيئاً فشيئاً لتفتحها. لاتستطيع. تحاول. بينما أغرق في نوبة بكاء هستيري ربما كانت نهاية ترنيمة حزينة طويلة