بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:29:28 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1454 0


    حادثة في أواخر الشتاء

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نور الدين الهاشمي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    حين وقف صلاح يشيّع جثة الفتاة التي أحبّها كان الصقيع فكّاً ينهش جلده وكانت السماء رماديةً صمّاء.. خرجوا بها في تابوت رخيص من باب خلفي لعمارة فخمة يحملها اثنان ريفي كهل بثياب نظيفة وسائق سيارة قديمة.. وضعا الجثة معاً في الحقيبة الخلفية للسيارة وأطبق السائق الباب الصدئ فلم يستطع إخفاء التابوت بل برز منه كنصل مكسور.. أخرج السائق حبلاً وسخاً وأحكم به ربط التابوت ثم أسرع الاثنان داخل السيارة وبعد أن قبع السائق خلف مقوده مدّ يده الملطخة بالشحم والزيت طالباً الأجرة فأخفى الكهل يده داخل عُبّه ثم أخرج محفظة منتفخة بالنقود نقد منها السائق ما طلب ثم أعادها بزهو إلى جيبه فرحاً بالمبلغ الكبير الذي أخذه ثمناً لسكوته عن موت الفتاة ثم انطلقت السيارة تنفث دخاناً كريهاً مسرعة إلى قرية فقيرة..‏

    الجثة الصغيرة ترقد في التابوت وقد تحجرّت ملامحها باختلاجات الألم وأغمضت أجفانها على حلم مسموم يطفو في رحمها جنين بنفسجي تفحمت دماؤه شوقاً للهواء ويلامس جسدها الرقيق برفق خشب التابوت الرخيص فيوقظ فيه البكاء إلى سواقي الخريف..‏

    قال له والده يوماً: أراك تكثر من الخروج إلى الشرفة يا صلاح.. أمامك شهادة ثانوية أم تريدني أن أطمعك مع اخوتك إلى الأبد.. الأمر ليس خافياً على صلاح إنه يفهم لماذا يستعجل الأب نجاحه فهو يريد أن يلقي نير العائلة على رقبته.. أعوامٌ قليلة وسأخرج للتقاعد وستغدو أنت ربّ الأسرة يا صلاح.. هزّ رأسه.. لا فرق عنده إن نجح أو رسب.. سيتعلق اخوته الصغار على جسده وسيأكلونه ويتركونه عظاماً كما أكل هو وأخوته عمر أبيه الذي أمضاه في الوظيفة.. لم يستطع والده شراء بيت.. الأولاد يكبرون ويكبر مصروفهم يا أم صلاح.. الثياب الجديدة يتناقلها أفراد الأسرة حتى تفقد لونها..‏

    حمل صلاح كتابه وخرج إلى الشرفة.. الفتاة الصغيرة وحدها قادرة على تبديد غشاوة السأم التي تذبل روحه.. أمعن النظر في الشرفة المقابلة كانت فارغة.. ستخرج بعد قليل.. نظر إلى الحديقة فرأى بضع زهرات قد تجرأت وتفتحت في وقت مبكر.. تذكّر كلام أمه عن الأزهار التي تتفتح قبل الأوان حين قالت: ستموت هذه الأزهار في ليالي الصقيع.. ثم جلس محتمياً بكتابه يسترق النظر إلى الشرفة المقابلة ولكن لماذا لم تخرج حتى الآن.. الفتاة الصغيرة ربما كانت مشغولة بخدمة الأسرة الغنية، ألم يدفعوا لوالدها أجرة عام كامل فهي مُلك يمينهم يفعلون بها ما يشاؤون.. أحسّ بالضيق.. أيحبّها حقاً؟.. لن يجرؤ على البوح بهذا الحبّ أمام رفاقه سيسخرون منه.. صلاح يحب خادمة الجيران.. سيضحكون ويضحكون ويمزّقونه بسخريتهم.. كان يستمع إليهم وهم يتباهون بمغامراتهم مع الفتيات الجميلات والغنيات فيصغي بلذة وحسد ولكنه سيكتم سره عنهم قدر ما يستطيع.. ليتهم يعملون كم هي جميلة.. وجهها الصغير عيناها الحزينتان دائماً.. النمش البني الذي يدغدغ وجنتاها وأنفها الرقيق.. ما زال يذكر كيف جاءت منذ أسابيع تسير مضطربة خلف رجل ريفي نظيف الملابس تتشبث به حين تقتحمها العيون متفحصة قدرة جسدها النحيل على العمل.. وحين تركها بكت بحرقة وخوف ثم صمتت وهي تختلج حين فاجأتها سيدة البيت بلطمة قاسية..‏

    طال انتظاره وتسرب القلق إلى نفسه.. حدّق إلى الكتاب فتثاءب الكلمات ممطوطة في كلّ اتجاه وتمزقت كنمل مسحوق.. فجأة فُتح باب الشرفة المقابلة وخرج منه شاب صغير توقف أمام الباب يتمطّى بثياب النوم الحريرية ثم مشى بضع خطوات واتكأ على حافة الشرفة تثاءب قليلاً ثم نظر إلى صلاح بعينين خامدتين.. تأمله باستخفاف ثم عاد يدخل البيت باعتداد. فأحس صلاح بأنّ حجراً صلداً يضغط على قلبه وحلقه فينزف قلبه ماء مُرّاً يلهب كلّ شيء.. وانتفض حين أدرك أن فتاته الصغيرة تعيش في هذا البيت بين فتيان يكره وجوههم الممطوطة، ثيابهم المزركشة الضيقة وشعورهم المسترسلة.. سياراتهم.. رفاقهم..، سأل والده مرة: لماذا لا نصير أغنياء كجيراننا فصمت والده ثم قال بمرارة: المال الكثير يا بني لا يأتي إلا من الحرام.. لكن صلاح لا يريد شيئاً منهم فليأخذوا كلّ شيء.. وليستمتعوا بما شاؤوا من مال وثياب وسيارات.. وليتركوا له فقط هذه الفتاة.. عندهم كلّ ما يشتهون.. لا يريد منهم إلا أن يتركوا له فتاته الصغيرة الحزينة..‏

    رفع رأسه فرأى أمه تنظر إليه بإشفاق وحب.. قالت:‏

    -سأطلب من والدك أن يشتري لك كنزة جديدة في أول الشهر.‏

    شعر نحوها بفيض من الرثاء ثم رآها تتأمل حديقة الجيران وتقول بتنهد:‏

    -الجيران يهملون حديقتهم.. ليتنا نملك مثلها..‏

    -ماذا ستفعلين بها؟‏

    -سأجعلها مثل الجنة..‏

    حين جاء المساء قبع صلاح في غرفته يأنس بالظلام حوله ويحدّق إلى النافذة.. لم يهنأ كثيراً بهدوء المساء فقد تمزّق فجأة بأصوات الموسيقا القادمة من بيت الجيران والتي اخترقت الجدران والزجاج وزاحمته في غرفته تحاصر ثباته.. يقود الموسيقى الهائجة طبل ضخم يرفس الهواء بعنف فتراجع إلى مقعده يسدّ أذنيه.. لكن الأصوات العاوية كانت تجوب الغرفة والجدران وخلايا جسده المنكمش.. نظر إلى السقف فرأى جسداً يتدلّى.. تمنى لو يصرخ ويعتصر ما في خلاياه من ألم مكبوت.. حاول مراراً لكنّ صرخاته غارت في شقوق حلقه اليابس.. حدّق بألم إلى بيت الجيران.. كان يتبرّج بالأنوار ويهتزّ بالموسيقى القادمة من حانات الغرب.. لمح خلف النوافذ أجساداً تتلوى.. تتثنّى وتعتدل وتتمايل يميناً ويساراً يميناً ويساراً تمتدّ الأيدي كأفاعٍ تنفث في الهواء سموماً وعطوراً...‏

    وأخيراً هدأت الأصوات وتراخت الأجساد على المقاعد كسلى تنزّ عرقاً وتتجشأ طعاماً دسماً.. وتتالى إطفاء الأنوار..‏

    فتاته الآن في المطبخ تغسل الصحون والأكواب الملوثة بالأنفاس النتنة والكحول.. ستنتهي من العمل وتستلقي على بساط قديم في زاوية المطبخ.. يخدّر جسدها التعبُ والنعاس وتنهار جدران القصر فتأتيها القرية ودروبها وبهائمها.. ستمد يدها وتطعم الخراف والدجاج وتمسك بأيدي الأطفال يركضون معاً في دروب تغمرها الشمس.. سيلعبون معاً حتى يأتي المساء.. غرق البيت الكبير في الظلام وتحولت كلّ الأشياء إلى هياكل سوداء.. ترصد بخوف شاباً ثملاً يتحرك إلى المطبخ ثم يدخله ويقف فوق جسد الفتاة النائمة.. تستقر نار الرغبة في الدماء المتخمة بالكحول، فيلقي بجسده المحموم فوق الطائر البريّ الصغير ويجتاح بأسنانه وأظافره كلّ شيء..‏

    أفاق صلاح مذعوراً.. اقترب من النافذة وغطّى لهاثه الزجاج.. كتب اسم محبوبته الصغيرة.. تراجع يتأمله لكن الضباب الرقيق تلاشى بسرعة وانهمرت قطرات دامعة تنحدر ببطء على الزجاج البارد ولم يبق من اسمها إلا خيالّ باهت..‏

    ومرّت أيام لم ير فيها صلاح الفتاة في الشرفة طال انتظاره لرؤيتها دون جدوى.. وفي صباح أحد الأيام سمع أمه تقول: "قطع جيراننا شجرة التفاح ورموها.. لأن الدود أتلفها.. ثم دخلت إحدى نساء الجيران وهي تحمل خبراً ناءت بحمله ليلة كاملة..‏

    -خادمة الجيران انتحرت يا أم صلاح..‏

    -مسكينة كانت كالوردة..‏

    -فحصها الطبيب فوجدها حبلى..‏

    -يا لطيف..!‏

    -زوجي لم يصدق وقال: إن جيراننا داسوا لها السم.‏

    -مسكينة..!‏

    صرخ صلاح بلا وعي.. قتلوها.. قتلوها.. وراح يهزّ أمه والمرأة ثم انفجر بالبكاء وأسرع يتوارى في غرفته تتبعه العيون دهشة..‏

    وانكبّ على السرير يبكي بمرارة ويعتصر قلبه حقدٌ موجعٌ تمنى لو تمزق بأظافره وجوه جيرانه يطبق بأسنانه على حلوقهم، يقتلع أنوفهم المتعالية يسلخ وجوههم المكتنزة ويبّدل معالم وجوههم البغيضة.. وانهمر الدمع من عينيه.. والتفّ حول قلبه لهب أزرق وأخيراً وجاءه وجهها الصغير، كان حزيناً رقيقاً يكتم الألم الوامض في شعاف القلب.. تأملته بحنان ثم مدّت يدها ومسحت دموعه وتوارت.. جاءه من بعيد صوت أخته الصغيرة تبحث عنه وحين شاهدته أدار رأسه مخفياً دموعه شدّته من شعره معاتبة وسألته برجاء أن يحكي لها قصة جميلة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()