لســــع النعناع
" الشيخ إسماعيل " مؤذن الزاوية القديمة يردِّد دائماً أن لا منبه ولايحزنون ، هو يفيق من تلقاء نفسه ، و"الشيخ على" الإمام لا يصدقه أبداً ، لأنه هو نفسه لا يستغنى عن المنبه .
أحس الشيخ إسماعيل بلحم " أم فرج " يثقل على سلسلة ظهره . فتح عينيه ببطء . تنصت لصوت الأنفاس العميقة ، نادى : أم فرج ، أم فرج
لكن صوته تحشرج . بدا كأنه يتنحنح ، أراد أن يقول لها أن تكشح فخذها عنه ،وأن تنقلب الى الجهة الأخرى : نايمه نوم أهل الكهف ...
قالها لروحه ، فيما أحسَّ أنه أوان الفجر . انقلب على ظهره . جاهد حتى اعتدل . قعد . نظر بضيق الى سحنتها العرقانة ، لاحظ أن جبينها ووجهها يلمعان من أثر العرق المدهِّن ، حوّل عينيه عنها .
زحفت كفُّه تحت المخدة ، سحب طاقيته ، كبسها فى صلعته ، ثم ترك ساقيه تنزلقان وتتدليان ، شعر بالحصيرة تدغدغ باطن قدميه . نتش الجلباب المعلّق على مسمار بالجدار ، طرحه خلف رقبته المعروقة، خطا نحو الباب ، تحاشى أن يخبط شيئاً ، شدّ دلفة الباب نحوه مرتين ، أزت المفصلات ، مرر جسده ثم استدار ، زم ًّالباب ، انقلبت " أم فرج " الى مكانه .
فوق عتبة البيت دسَّ قدميّه فى المداس .. بعد خطوتين فى الحارة الضيقة السدْ . شعر بنسمة هواء رطب تدخل من فتحتىّ لباسه الطويل ." يا الله " تمتم بها ، وحَوَد الى الشارع .
رغم سُمرة بشرته الا أن النور المنبعث من مداخل البيوت ، جعل زبيبته الداكنة تسطع فى وجهه ، وتنافس أنفه على الظهور .
وجد نفسه – كما فى كل مرة – يمشى من الجهة التى بها بيت الشيخ على ، رغم أنه ينوى دائما أن يخالفها ، حتى لايشعر به ، إذ ربما يكون فى نوم ثقيل فتروح عليه الصلاة ، فيؤم هو المصلين ، ويظل يتندر بها طوال النهار .
مرقت ( عِرسة ) من أمامه ، لم يلحظها .. حاذى جدار غرفة نوم " الشيخ على " .. وحاذى جدار مكتب تحفيظ القرآن .. وتحاشى العتبة التى يجلسان فوقها آخر النهار ، وهما يتحادثان ويحكيان لبعضهما الأسرار ، حتى إذا غلبهما الصمت ، سأله عن الوقت ، وقام يسبقه الى الزاوية ، ليؤذن ، ويرد الشيخ على بأنه سيلحق به ...
( وينسل من الباب الموصل حجرة المكتب بالصالة ، ليطمئن على زوجته الجديدة ، وما إذا كانت تريد شيئا أو ينقصها شىء ، فهو يدلّلها آخر دلال ، وشايف مزاج مزاجها ...)
ولاحظ الشيخ إسماعيل أنه صغر أكثر من عشر سنوات ، وأنه قد صبغ شعر رأسه ، ويداريه عن الناس ..
( وعنى أيضا ً، مع أنه كان لا يدارى عنى شيئاً مطلقا ً، حتى نيته فى الزواج صارحنى بها فى وقتها ، بعد أيام من وفاة زوجته، ولما نقلتُ الخبر إلى أم فرج ضربتْ صدرها وقالت : بعد وطفة ناوى يتجوِّز !؟
وأقسمتْ أنه لن يأخد ثواب صلاته ، بل أن صلاته باطلة ، ولم لا !؟ وهو الذى تزوج وخان العشرة ...فضلت ُ ساعتها السكوت ..)
رفع كلب رأسه ، وقام متمطعا ًالى الجهة الأخرى ، زام ، حتى مرّ الشيخ اسماعيل من فوق مكانه ، عاد ورقد فيه ثانية .
وقف الشيخ إسماعيل قبالة باب الزاوية ، مدّ يده فى ( الصديرى ) ، طلّع ربطة المفاتيح ، أطول مفتاح هو مفتاح الباب العمومى ، فتحه .
بسمل . خلى المداس فوق المصطبة أمام الباب .
" يا الله " قالها ودخل .
مدّ ذراعه الى لوحة الكهرباء ، أضاء لمبة فوق القبلة تماما ً.. ركن الجلباب عند المنبر ، قرّب ربطة المفاتيح ، المفتاح القصير الغليظ هو مفتاح المنبر ، فتحه .
أدار الراديو ، ورغم أنه يقفله دائما ًبعد كل صلاة للعشاء ، وصوته نقيا ًواضحا ً، إلا أنه يجده فى الفجر مشوشا ً، مختلطا ًبموسيقى ، وكم أوضح له الشيخ على وفسّر ، بأن السبب يرجع إلى الموجة ، وتغيّْر الإرسال ، ويعيد مايقوله ، ويزيد ، لكن الشيخ إسماعيل لا يفهم منه شيئا ، ويقع فى نفسه أن الشيخ على يتفذلك ، وأن فذلكته زادت من يوم زواجه الجديد ..
( المسألة ببساطة أن أحرك المؤشر قدر شعرة ، وأُنصتْ .. تختفى الموسيقى ، ويصفو الترتيل ، أمّا الكلام عن موجة وخلافة فهو كلام غير مفهوم ، ولا مؤاخذة يا شيخ على ..)
اطمأن الشيخ اسماعيل للصوت .. هوّى تكة لباسه .. راح للميضة ، وكلما اقترب سمع صوتا ً، كأنه خرخرة مياه. حدًّث نفسه لابد أنه أحد الملاعين الذين يأتون فقط للتبول ، قد ترك الحنفية من ورائه مفتوحة ..تأكد وتيقن أن الصوت خرخرة مياه ، وأنه يأتى من ناحية الحمًّامات . لبس قبقابا ً، نزل درجات ، خبط الأرضية ..
يسأله الشيخ على : إنت بتخاف ياشيخ إسماعيل ؟؟
يرد سريعا ً: أخاف من اتنين ؛ ربنا والنسوان .
يقول الشيخ على : النسوان خلقهم ربِّنا لنا .. للحياة الدنيا .. عشان نحبهم ، مش نخاف منهم !؟
- بس ياشيخ على ما قدرتهم على حد !!
يعجن الشيخ على فى الحديث ، ليأنسا وهما فى طريق عودتهما من المعزى :
- يعنى لو طلع لنا شيطان ماتخافش !!؟
- الشيطان ومالو.. لكن شيطانة أعوذ بالله ، احنا قادرين على إنسهم ..!؟
يقهقه الشيخ على فيجعل الطريق كله ضوضاء .
من عادة الشيخ إسماعيل أن يدخل أول حمَّام ؛ يقضى حاجته فيه ، ويخرج ليتوضأ ، لكنه تخطَّاه . حاذى كل حمَّام ، يبص ويتسمَّع . تبلبل لسانه فجأة واستعاذ ، حين لمح فى الضوء المتسلل من الزقاق المجاور شبحا ًعند آخر حمَّام ، زعق:
- بت !؟
صوته تحشرج .. استعاذ فى سره ، ربما مائة مرة :
- بت .. بتعملى ايه عندك ؟
- باملا ياشيخ اسماعين ..
استقر قلبه ، هدأ ، زرَّ عينيه ، عرفها :
- دخلت إزاى يابت !؟
- الباب دا مفتوح.. أهو .
(مفتوح.. !؟ المفتاح الأوسط هو مفتاح باب الزاوية الخلفى ..)
حط المفتاح فى الكالون، (المفتاح بيفوِّت! الكالون لابد فسد ..)
استدار ، وضع كفَّه فى الأخرى ، وراء ظهره ، عند خيط التكة . خفَّف من صوته :
- يا بت دى مية الجامع ..
- المية مابتوصلش عندنا ياشيخ إسماعين .
لاحظ ثوبها ( السرسيه ) مبلولا ً، وملتصقا ًببدنها ..
- دى يا بت مية وضو ..!
- ما احنا بنتوضى منها ياشيخ إسماعين !
قالتها بميوعة ، وابتسمت . بدت نضارة خديّها .. انحنت ترى إن كانت الغلاَّية امتلأت . انتفاخات أردافها بقيت فى الضوء ، وقعت عينا الشيخ إسماعيل عليها ..
يسأله الشيخ على : بنت مين ؟
يجيبه : بنت الشوربجى ..
يعتدل الشيخ على ويقول : البنت دى فرسة ..!
يردّ الشيخ اسماعيل وقد خمَّن مافى رأسه : مِرات عبد اللطيف السباك ..
يتغير وَجْه الشيخ على ، يرتد بصره ، يرجع ظهره إلى جدار مكتب التحفيظ ،
يضيف الشيخ إسماعيل : اللىّ فى العراق..
اعتدلت بنت الشوربجى ؛ الغلاية لم تمتلىء بعد ، سألها وقد راحت حشرجة صوته :
- عبد اللطيف هنا يا بت ؟
شدّت ثوبها الى الوراء : هنا ..
اختنقتْ ضحكة قصيرة فى صدره ، كح :
- كله منكم ، الخزان مابيكمِّلش النهار !
تقطَّعت ضحكته ، ولا يعرف كيف نطَّت صورة أم فرج اللحظة الى رأسه ، وكبستها بأكوام من اللحم المتهدل ، المدعوك بـ ( المروخ ) ..
- بيلعب نفسى ياشيخ علىّ ، ساعتها أقرف من الدنيا ومن كل بنات أمنا حوا ..
يقهقه الشيخ على ، يخرج الولد " رفعت " من دكانه الذى فتحه قبالة مكتب التحفيظ ، يمسح الشيخ علىّ قفاه بالمنديل ، ويميل هامسا : يعنى لاتعاشرها ياشيخ !؟
يرد سريعا ً، كأن الشيخ علىّ رماه بإحدى الكبائر : أبداً والله ، ومن سنين ، وكمان المرض اللىِّ جالها فى القلب ..
انتبه ، انتبهت ..
الغلاية طفحت ..
انكفأت تقفل الحنفية ، غابت عينا الشيخ اسماعيل ، حطَّت ، زحفت فى الخط الذى بين ردفيها وساقيها . تصوَّر الشيخ علىّ راقدا ًجنب بنت الراجحى التى لاتتخير عن هذه .
عدلت قامتها ، فكَّ يديه من وراء ظهره ، ومن غيرأن تطلب منه أو تلمح إليه مال معها ، يرفع الغلاية ، لم يشعر بثقلها ولا بدفقة المياه التى اندلقت عليه ، أحسَّ عافية واتته فى ذراعيه ، استحالت فجأة خدرا ً، حين انزلق ظهر يده – فى صعوده – على نهدها . استقرت الغلاية فوق رأسها ، واستدارت تخرج ، تقافزت عينا الشيخ إسماعيل على بدنها ، ثم حطَّت على الكالون .
وقف متسمراً ، لايشعر بشىء ، الا شيئا ًواحدا ً؛ هو ظهر يده ، يشعر أن به لسعا ً، كأن الذى فى عروقه ليس دما ً؛ إنما نعناع .
أفاق ، راح عند أول حمام ، لم يدخل ، تقدم للوضوء . صب َّالماء على يده . ازداد لسع النعناع .راح يلبس جلبابه . خرجت يده قبل رأسه . قعد على غير عادته ولم يصل ركعتى التحية ، ولم يسبِّح حتى أوان الآذان . أسند رأسه إلى المنبر، وضمَّ ركبتيه الى صدره ورأسه الى كفه ..
ينطلق لسع النعناع تحت جلده ، إلى أطرافه ، وإلى أنفه ، وإلى عينيه ، وإلى قلبه