بتـــــاريخ : 11/17/2008 6:10:33 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1335 0


    نسمات عليلة.. في جو خانق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وصال سمير | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    ما أن اجتازت سيارة الأجرة التي تقلني إلى "الكسوة" مسافة ليست بالطويلة، خارج حي الميدان.. حتى أشار علي السائق بأنني وصلت إلى المكان المطلوب..‏

    اندفعت إلى المعمل، مفعمة بالأمل.. في ذلك الصباح الخريفي الجميل.. وأنا أتأمل السحب البيضاء المتفرقة فوق بساط سماوي أزرق.‏

    فوق الباب الأسود العريض والمرتفع.. المغطى بغبار كثيف علقت لوحة كبيرة، كتب عليها اسم المعمل..‏

    أشعة الشمس الضعيفة والواهية، تسللت إلى روحي فأحسست بسعادة خاصة.. ارتسمت ابتسامة على شفتي.. كان المصنع غارقاً في السكون، لا صوت، لا زعيق، ولا شجار.. النسائم الصباحية العليلة، أوحت إلي بقضاء يوم باسم ولطيف.‏

    وقفت أمام الباب الخارجي المغلق بإحكام، أفتش عن الجرس الكهربائي، لأعلن عن وصولي، وجدته مختفيا وراء طبقة سميكة من الغبار الذي تراكم، فبدا رمادياً داكناً. ضغطت على الجرس بعنف شديد.. انتظرت لحظات.. ثم أعدت الضغط دون توقف.. ثم انتظرت، ولكنني لم أر أحداً..‏

    أعدت الضغط مرات ومرات، وموجات من الخجل تعصف بي..‏

    امتد بصري إلى المساحة الهائلة من الأرض التي شغلها معمل البرادات.. رأيت أمامي بستاناً كبيراً غنياً بأشجاره المتنوعة، من مثمرة وغير مثمرة.. أشجار السرو أحاطت بالمكان من كل جوانبه وشكلت سوراً طبيعياً.‏

    البناء الكبير الذي توسط البستان كان مغطى بالأتربة فلم أتبين لونه الحقيقي..‏

    لم أتزحزح من مكاني.. وفي صدري تردد سؤال حائر:‏

    -لماذا لا يأتي أحدهم ليفتح لي الباب؟؟؟‏

    من بعيد، ظهر رجل بثياب العمل.. بدأت أتبين نحوله كلما اقترب مني بخطوات بطيئة ومتكاسلة.. وكأن أمر الواقفة أمام الباب لا يعنيه.‏

    وحين وصل إلي.. رفع نظره للمرة الأولى.. تأملني بدهشة واستغراب، وكأنه لم يتوقع قدوم فتاة في مثل سني..‏

    ثم بدأ يقيسني من رأسي، وحتى قدمي.. ثم قال باسترخاء أغاظني:‏

    -ماذا تريدين؟‏

    أجبته وقد عقد الإحراج لساني: أريد مقابلة المدير.. هل هو موجود؟‏

    ظل صامتاً برهة قصيرة، وكأنه يفكر في الجواب.. ثم ما لبث أن فتح الباب على مصراعيه.. دون أن يقول شيئاً.‏

    وحين سألت عن غرفة المدير.. وأين تقع؟‏

    اكتفي بإشارة مبهمة، اتجهت على أثرها إلى الجهة اليمنى من المكان.. تعثرتُ بأكوام متفرقة من هياكل البردات، مما اضطرني إلى إزاحة أجزاء منها بقدمي..‏

    صعدت درجات قليلة.. وحين وصلت للطابق الأول من البناء، قادتني لافتة صدئة إلى غرفة الإدارة..‏

    وهناك قادني سهم مرسوم بلون أزرق شاحب إلى غرفة المدير.‏

    تقدمت بخطوات مترددة في الممر الضيق والطويل حتى وصلت إليها.. رائحة واخزة، ملأت الفراغ.. مما جعلني أتنفس بصعوبة.‏

    قرعت الباب قرعات خفيفة، ثم فتحته دون أن أنتظر السماح لي بالدخول.‏

    وراء طاولة عريضة، وعلي كرسي دوّار، جلس رجل كهل وقد وضع رأسه بين راحتيه وكأنه يفكر بمسألة صعبة الحل. لذا ارتعد حين رآني منتصبة أمامه.. كشيطانة انشقت عنها الأرض..‏

    نظر إلي باستغراب.. ثم تنبه إلى جلسته، فانتصب واقفاً وقد عقدت لسانه المفاجأة.. وبحركة آلية، مدّ يده اليمنى لمصافحتي..‏

    وقبل أن يسألني عن هويتي.. انطلقت أقول له:‏

    -أنا صحفية.. جئت لإجراء مقابلات مع العمال..‏

    -أهلا وسهلا بك.. ارتسمت على وجهه علامات اهتمام والتمعت عيناه ببريق محبب.. أما وجهه الأبيض والمستدير فقد أوحى إلي بشيء من السذاجة.‏

    ولاحظت الحماسة التي دبت فيه فجأة من خلال الألق الأخضر في عينيه الواسعتين.. وكأنه أُستنفر بكليته لتقديم المساعدة لي.‏

    حانت مني التفاتة إلى الجانب الأيسر من الغرفة.. فوقع نظري، وللمرة الأولى مذ دخلتها على نافذة عريضة، فتحت على مصراعيها.. وفي الزاوية المقابلة أطلت فتاة حلوة من خلف مكتب صغير.. وقد أسدلت شعرها الأشقر الطويل على كتفيها.. وتركت خصلات مبعثرة منه تغطي جبينها العريض.‏

    وحين وقع نظري عليها، لاحظت حمرة تعلو وجنتيها، حمرة طبيعية.. ربما أثارها الخجل من رؤيتي في غرفة المدير..‏

    وكان من المفروض أن أمرَّ على غرفتها قبل غرفته لتأذن لي بالدخول.‏

    نظراتي المتطفلة، بدأت تنوس بين المدير وبينها وكأنني أعقد مقارنة بينهما.‏

    بدأ المدير، يحدثني عن تاريخ المصنع، بينما كنا نحتسي القهوة.. ويشرح لي مقدار الجهد الذي بذله حتى وصل المعمل إلى المستوى الذي أراه أمامي.. ثلاثة آلاف عامل.. يعملون فيه.. وينتجون عدداً كبيراً من الثلاجات في كل عام.. تغطي حاجة البلد، ويصدر الباقي إلى دول الخليج.‏

    كانت كلماته تتدفق من فمه سريعة وغير مترابطة.. مؤكدة حسن سير العمل.‏

    ثم نادى سكرتيرته الحسناء.. التي تقدمت وحيتني فملأ أنفي عطرها الفواح.. وتبينت أنه من نوع فرنسي غالي الثمن.. ضوعه يوحي بأن صاحبته، قد اغتسلت في غابة من أوراق الصنوبر والغار.‏

    كانت "يارا" كما فهمت اسمها من المدير فتاة في العشرين من عمرها.. مليئة بالحيوية والحركة.. وأجمل ما فيها خجلها الواضح الذي يضرج خديها كلّما وقعت نظرات المدير عليها.. وربما أثار هذا الخجل إحساسه بفحولته، واطمأن لهذا الإحساس، فترك النافذة مفتوحة بين غرفته وغرفتها.‏

    دخل معاون المدير -كما فهمت من تقديمه لي- وهو يرتدي نصف ملابسه.. أشحت بوجهي عنه، وقد صفعني هذا المنظر الذي لم أكن أتوقعه...‏

    وتساءلت: أمكان عري وعمل؟؟‏

    واخترق الباب عامل ثان وثالث.. أحدهما كان يحمل سكينا حادة..‏

    -ماهذا؟ سأل المدير باستغراب..‏

    وبصوت غريب كصوت وحش مجروح، ابتدأ العامل الطويل ذو القوام الممتلئ يشرح للمدير أسباب المشادة التي قامت بينه وبين زميله القصير والنحيل.‏

    لم يسمح له المدير بإكمال شرحه.. أمره بمغادرة الغرفة وهو يردد ألفاظاً قاسية: بعدين... بعدين.. اخرجا الآن.. لعنكم الله أنتم الاثنين.. اغربا عن وجهي..‏

    وكأنه قد لمح إحراجي.. فبدأ يعتذر عن كل ما رأته عيناي.. وخرجت من فمه كلمات متقطعة ممتلئة بالأسف، كان يحاول بها أن يبين أسباب العري.. فالجو بالمعمل خانق.. والعمال مضطرون إلى الاكتفاء بما يستر العورة..‏

    لبثت صامتة.. وصدمتني غضبة خفية، صعب علي تفسيرها.. وأنا أهبط مع المدير ومعاونه إلى الطابق الأرضي عبر سلم داخلي حيث يوجد العمل والعمال.‏

    صرّ المدير على أسنانه وهو ينطلق بكلمات بذيئة لأحد العمال وكان قد استلقى على السقيفة تاركاً عمله..‏

    -انهض يا.. سمعت صرير أسنانه، وكلماته السوقية اخترقت سمعي.. وكل ظنه أن شيئاً منها لم يصلني.‏

    الضجيج ملأ أذنيّ.. وصوت الآلات جعلني أتراجع إلى الوراء وأصوات العمال الخشنة قد تداخلت وتشابك بعضها ببعضها الآخر.. مصحوبة بضحكاتهم الصاخبة.. وغمزاتهم المريبة.. وكنت قد أصبحت بينهم.‏

    مررت على خطوط الإنتاج.. وتعرفت على رؤساء الأقسام.. ورأيت المادة الخام.. كيف تنتقل من قسم إلى قسم آخر.. متحولة من شكل إلى شكل جديد.. ثم تخرج على شكل برادات متقنة الصنع من الطرف الثاني لخط الإنتاج.‏

    فرحتي تجاوزت خجلي.. فكل ما يغني وطني يغنيني.. ولكني حزنت.. وأنا أرى العمال يشتغلون في ظروف صحية سيئة.. في قبو رطب.. عششت به العنكبوت.. بدت حركاتهم بطيئة ممتلئة بالملل.. يستعينون بألفاظهم الفجة والسوقية للخروج من مآزقهم.. متناسين مديرهم الذي يقف بينهم.‏

    -أين مكان العاملات؟..‏

    فوجئ المدير بسؤالي..‏

    وأجفله سؤالي الثاني:‏

    -أهناك حواجز تفصل بينهن وبين العمال؟‏

    رمقني بنظرة غريبة.. وأجابني ببرود ظاهر يحمل الكثير من الامتعاض..‏

    -لا مكان للعاملات هنا.. أتريدين أن تجعلني من هذا المصنع مكانا للفجور.‏

    صدمني جوابه القاسي.. فتماديت في أسئلتي قائلة:‏

    -أتعني أنك لا توظف الفتيات؟‏

    جاء رده سريعاً هذه المرة:‏

    -ولماذا أشغلهن.. أتريدين أن أدخلهن لهذا الجو الغريب.. أما سمعت حوار العمال.. وسلوكهم الفج مذ أن وصلت؟‏

    -ادخلْ تلك التجربة.. ولن تندم أبداً.. صدق أنك لن تندم!!‏

    وربما سخر مني كعادة الرجال.. حين تبدي النساء رأياً مخالفاً لآرائهم.. ولا سيما في اللحظات الأولى.. حين يفاجئهم الرأي بما يذهب بصوابهم.. ثم لا يلبثون أن يأخذوا به بعد ساعات معدودات.. وقد استملحوا مضمونه.‏

    انطلقت أشرح له بإسهاب.. أن وجود العلاملات إلى جانب العمال.. سوف يهذب سلوكهم.. ويشذب الفاظهم.. ويحسن من مظهرهم الخارجي.‏

    علامات دهشة واستغراب، ارتسمت على وجهه.. فقد اعتبر طلبي جرأة ووقاحة لا يقدر عليهما.. ولمحت بين كلماته سمات الرفض القاطع والصريح.‏

    -إذاً.. كيف تستطيع أن تحول هذا المصنع إلى بيت كبير يملؤه البهجة والفرح؟‏

    نجح مرات كثيرة في توجيه الحديث إلى مواضيع أخرى اعتبرتها بنظري أموراً ثانوية.‏

    وأحسست فجأة بعيون العمال تنغرز في جسدي بوقاحة وصلف، وكأنني كائن غريب قد ورد للتو من كوكب آخر. مما أشعرني بالندم لأني جئت وحدي.. فالمكوث ساعة في هذا الجو الرهيب ليس بالأمر السهل..‏

    جرّدني العمال من ثيابي مرات ومرات.. وشعرت بعريي. وامتلكني الخجل الرهيب.. الذي أخفيته وراء حديثي الجدي.. ووجهي الصارم.‏

    الاختناق عضّ عنقي.. وأنا أتابع جولتي في أقسام المعمل المختلفة، والعمال يجيبونني عن أسئلتي.. وهم يتغامزون على تلك الفتاة الوقحة التي جاءت إلى هنا.. لتجري مقابلات معهم.. وقبل أن أغادر المصنع.. عدت ثانية.. لأذكر المدير بضرورة تشغيل العاملات.‏

    اكتفى بأن قال: إن شاء الله..‏

    وحين هبطت إلى فناء المصنع.. وقعت عيناي من جديد على تلك الأكوام المرمية بإهمال وفوضى في أرجاء المكان.‏

    وعلى الغبار العالق برؤوس الأشجار الموزعة على مساحات كبيرة من الأرض.‏

    وزاد دهشتي مسبح كبير محاط بالورود والأزهار وقد علته الطحالب والأشنيات.. وتكدس التراب على المقاعد الخشبية المحيطة به.‏

    ساءني كل ما رأيت..‏

    وحين غادرت المعمل.. أقفل الحارس الباب ورائي وهو يكاد يلعنني.. فقد اضطر لترك كوب الشاي الذي كان يحتسيه بتكاسل واسترخاء، وهو يجلس على كرسي صنع من القش..‏

    ثلاث سنوات مرت على تلك الزيارة.. وعدت مرة ثانية مرغمة لأقوم بمثل المهمة نفسها.. في البداية تهت عن المكان.. وحين تساءلت مستغربة أجابني شاب نظيف كان واقفاً هناك، وقد ارتسمت ابتسامة حلوة فملأت محياه:‏

    -المعمل هنا يا آنسة.. لا لم تخطئي المكان..‏

    كل شيء قد تغير هنا.. دهن الباب الخارجي بلون أسود جديد وسويت الحديقة المترامية الأطراف.. وكدست بقايا الهياكل في زاوية بعيدة خلف المصنع...‏

    وبان لون الدرج المؤدي إلى غرفة المدير.. والتمع رخامه.. أصص من الأزهار الملونة ملأت غرفة المدير.. وفي الغرفة المقابلة جلست فتاتان.. إحداهما تضرب على الآلة الكاتبة.. والثانية تنظم أوراقاً صفت أمامها.‏

    أمسك المدير بيدي، وسار بي دون الإستعانة بمعاونه.. وهو يبتسم لي ابتسامة كبيرة.. وفي الطابق الأرضي.. فوجئت بعدد كبير من العاملات.. القويات والنشيطات.. اللائي اختارهن المدير بعناية من القرى المجاورة.‏

    والجميع ظهروا بلباس العمل.. الذي يعطى لهم مرتين في السنة. رأيت أمامي خلية نحل.. يعمل أصحابها بنشاط وحيوية عجيبين.. لم تصل إلى أذني كلمة نابية واحدة..‏

    لم يعد في المعمل عري.. ورحلت الوحشية التي أخافتني إلى غير رجعة.‏

    وحين ودعني المدير.. هبط معي حتى الباب الخارجي..‏

    ورافقني إلى البناء الجديد.. الذي يضم حضانة لأطفال العاملات.. ابتسمت للشاب الذي وقف يودعني عند عتبة الباب الكبير.. وقد امتلأت بدفء محبب.. وحملت معي منظر المياه المتدفقة إلى المسبح الذي دهنت أرضيته بلون أزرق جميل.. وانعكست عليه شمس الصباح.. فبدا مغرياً لتلك الأجساد المتعبة بعد يوم عمل طويل.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()