بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:25:25 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1147 0


    زائر مع سبق الإصرار

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حـنـان درويـــش | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    يوم دخل بيتنا.. يوم داس عتبة أعناقنا، كان النهار شاحباً، والوقت غائماً. داهمنا بغته.. أقبل على عجل.‏

    لم ننتظر مجيئه، ولم نفرد وجوهنا مساحة ودًّ لاستقباله، ولم نرفعْ لأجل عينيه راية الودَّ والقبول.. حاربناه.‏

    شهرنا ألسنتنا سياطاً عليه.. قلنا له بصريح العبارة:

    - اخرج من هنا.. نحن لانريد يدك.‏

    هذا ما حصل في البداية.. أمّا فيما بعد، وعندما تجاهل شعورنا، وضرب عرض الحائط برضانا، واستشرى بيننا كهمّ ثقيل.. عندما فعل هذا كلّه أقمنا عليه الحد، وقرّرنا بالإجماع- نحن أفراد الأسرة- محاربته دون خوفٍ أو خجل.‏

    انقضت ساعات، تلتها أيّام، كبر فيها حقدُنا عليه..‏

    حتىّ صار تلالاً لاتزحزحها ريح، ولا تنقصها، بل تزيدها جاماتُ الغضب المتتالي صلابةً وصلفاً. إذ لم تنفع أشاحةُ الوجوه، ولا الترصّدُ، ولا المباغتة، كان الزائرُ يدخل ويخرج على هواه.. يتوسّدُ الأرائك ويفترش الموائد، ويرقّص شاربيه الأسودين كمن يترنّم بأغنيةٍ حديثةٍ عصيّةٍ على الهضم، ثمّ يلقي تحيّة المساء ويمضي.‏

    أهلُ المنزل جميعاً، يضعون رؤوسهم- كلَّ ليلة - على مخدّة الغد وينامون، وهم يحلمون بصباح جميل خال من الغرباء.‏

    أهل المنزل جميعاً ينادون الوسن، فيأتيهم طيّعاً أليفاً، دون تعب أو معاناة...‏

    وحدي فقط.. استجدي الراحة فلا تبين..‏

    عاداني الرقاد، خاصمني.. صارت بيني وبينه جفوةٌ، وبيني وبين الأرق صحبةٌ وحوار.. فأنا ومذ تعرّفته، تغيّرت أحوالي، وتبدّلت طباعي، وتعطلت أعمالي..لا ليلي ليل، ولا نهاري نهار. أعصابي متشنجة.. نظراتي هائمة.. في قلبي علّة، وبرأسي دوار.. سئمت الحياة، ونأيت عن الطعام، حتىّ هزلت، واختار الشحوب صفحة وجهي مسكناً له.‏

    - عصام.. إسمع.. الليلة بالتحديد يجب أن ننتهي من هذه المهزلة، وإلاّ غادرت المنزل، ولن أعود حتىّ تجدّ حلاً لما يجري.‏

    تأفّف زوجي. ضرب كفّاً بكفّ. صرخ بوجهي للمرّة ما بعد العشرين، مؤكدّاً أنهّ أكثرُ قلقاً منيّ، وأنّه يتمنّى طردَ الغريب اليوم قبل الغد.‏

    لكنّه عاد إلى هدوئه وحازماً أمره من جديد، آخذاً بعين الاهتمام موضوع مغادرتي للمنزل إذا لم تحسم المشكلة المعلّقة.‏

    ابتسمت لذاك لقرار.. فلا بدّ من وضع النقاط على الحروف، ولابدّ من رفع الصوت أكثر، ليس الصوت فقط، فالكلامُ لم يعد يجدي..وإنّما العصا الغليظةُ التي أُحضرتْ كدواءٍ ناجع لزائر البيت الثقيل، بالإضافة إلى عصيّ أخرى كانت تمسكُ بخنّاقها قبضاتٌ صغيرةٌ أجبرت على ذلك الفعل بتأثير من الأب الذي لايريد أن يأخذ أولادُه الجبنَ والخوفَ عن أمِّهم، والذي كان يردّد:‏

    - ما دمتم تتبعون خطاها.. فلن تفلحوا!‏

    ويقصدني أنا... وأنا لم أكن أتذمرُّ من كلامه، ولا أتأفّفُ، أو أشكو.. فهي نقطةُ ضعفي، وعقدةٌ حمّلتني إيّاها الطفولةُ... ومعه الحقُّ، الحق كلُّه في تأنيبي، ووصفي بالجبانة، ما دام الأولاد يتأثرّون بي، ويتصرّفون على شاكلتي حيال الطواريء التي تداهم منزلنا بين حين وحين.. مثله، مثلُ أيّ منزلٍ في الدنيا.‏

    لزمت فراشي تلك الليلة، أغلقت بابَ غرفتي خوفاً من وصول الغريب إليها، وإنْ كنت قد تأكدّتُ من وجوده في المطبخ. عرفتُ ذلك من صياح ابنتي الذي ارتفعَ بما يشبهُ الزعيق.. فكأنَّ الدقائق الأخيرةَ له كانت تلفظُ أنفاسها، وكأنّ ساعةَ النهايةِ قد أزفت.‏

    فقد بات وجه الدخيل والعصيُّ في تقابل مباشر...‏

    ضربةٌ من هنا، وأخرى من هناك صنعتْ جلبةً..‏

    لم تكن الضرباتُ تصيبُ، لكنّها ترعبُ، تهوّلُ، تصدرُ ضجيجاً وجعجعةً، وإن لم تصلْني بوادرُ الطحن بعد.‏

    استطالَ الزمنً.. استطالَ كثيراً.. وهاهو موعدُ انبلاجِ الفجر على أهبةِ المجيء.‏

    معقول؟!.. حتى الآن لم يستطيعوا إخضاعه!...‏

    إنّه واحدٌ، وهم أربعةْ..‏

    نضبتْ الدماءُ في عروقي. جفَّ حلقي، واعترتْني رجفة..‏

    فالمعركةُ لم تؤتِ أكلها، وزائرنا ما زال يناورُ، يخاتلُ، يشاكسُ يراهنُ على مشروعيّة وجوده، يتشبّثُ بالمكان إلى حدِّ الاستماتةِ.. إنهُ يفضّلُ الموتَ على أن يخرج مستسلماً.‏

    " لماذا.. يامن اغتلت أماننا، واعتديت على هدوئنا، وشوّهت أقّانيمَ حياتنا؟... يامن سمنتَ على حساب طعام أطفالنا، وسدتَ بتفريقنا، وأتيتَ على هناءة عيشنا. قد يستطيعُ الباقون تجاهلك، وقد يتأقلمون مع طبيعة حضورك.. لكن أنا.. لا.. إنّ القلق منكَ ومن أمثالكِ واشباهِك يشتّتُ طمأنينتي، وينغّصُ راحتي، ويبعثُ في نفسي الكدر. لاتسعدُني رؤُيتكِ، ولا تروق لي تصرّفاتُك الزئبقيّةُ، ولا أستطيعُ التعوّدَ عليك..".‏

    ما زال المطبخُ عامراً بالعراك، ما زال أبطالُ المسرحيّة في تحفّز وتوتّر. إنّني استشعرُ عن بعدٍ احمرارَ وجناتهم وأطرافِ آذانهم، ,أحسُّ بالتهابِ حناجرهم، وازرقاقِ شفاهِهم، وارتعاشِ أهدابهم، وارتجافِ قلوبهم.‏

    إنّني ألمحهُم، وقد وصل بهمُ اليأسُ حدّاً جعلني أتأكدُّ من انحسامِ النتيجةِ لصالحِ الغريب، وفوزِه، وبقائهِ وتثبيتِ مواقعهْ. كيف أطمئنُ، وأنا اسمعُ خبطَ الأبواب، واصطدامَ الكراسي، واحتضارَ الصحون والكاساتِ واحدةً واحدة.‏

    عقبَ تفاقمِ تلكَ الحالِ، وبعد أن بلغَ التشنجُّ منيْ مبلغه التامَ، وكدتُ أصابُ بقنوطٍ كاملٍ سدَّ في وجهي سبلَ الانفراجِ... انتبهتُ أن سكينةِ مريبة قد سيطرت على الجو، هي إلى سكينة المقابر أقربُ.‏

    الصمتُ لم يطلْ، عقبهُ هرجٌ ومرجٌ وضحكٌ عالٍ، ودعاباتٌ متفرّقةٌ. رفعت الغطاءَ عن وجهي.‏

    رصدتُ أحاسيسي وجوارحي كلَّها لخدمةِ تلكَ اللحظةِ، وكان لي ما أردتُ:‏

    - ماما.. ماما.. لقد قضينا عليه.‏

    فتحت البابَ، سرّبتُ من انفراجته البسيطة نظرةً فيها شيءٌ من الوجلِ والترقّبِ.. رأيت وجوهاً صغيرةً أضناها العراكُ، ولمحت عصاماً وقد وضع" الجرذَ" على محفّةٍ من الورق المقوّى قاصداً بابَ المنزل لرميهِ في الخارج، متشفّياً منه بكلماتٍ تفوحُ منها رائحةُ الشماتةِ.‏

    في تلك الأثناءِ.. كانت قدماي تؤوبان إلى السرير بخطا متهالكة، تسترجعان ذكرياتٍ موجعةً لأيامٍ خلت

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()