بتـــــاريخ : 11/12/2008 5:33:49 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1201 0


    قصور البنات

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سحر سليمان | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

     

    لأعترف قبل كل شيء.. أنني انثى عنيدة، وشاحبة كأوراق الكتب القديمة. عاشرت أصابعي‏

     

     

    الحبر طويلاً وركضت عيوني على آلاف الصفحات بحثاً عن هدف غامض ورجل غامض، ربما‏

     

     

    اسمه المهدي، وربما هارون الرشيد. وإذا أردت أن أخفف عنكم، أقول أنا أنثى مسحورة بأشياء‏

     

     

    كثيرة، ومسكونة بامرأة تشبهني أستطيع أن أبوح بأنها امرأة غريبة مخيفة. وقد تكون قد عاشت‏

     

     

    من قبل. تدخن النرجيلة في المساء، وفي الليل تزحف فوق المخمل، تتلمس بأصابعها أعشابه‏

     

     

    السرية السوداء وتنتظر أمطاره السماوية.‏

     

     

    قلت لكم بأنني مسحورة بأشياء كثيرة ومسكونة بأكثر منها. قد يثير ذلك لديكم الدهشة‏

     

     

    لتفاهته وقلة اكتراث الآخرين به. كزمرة دمي، لا شيء إلا لأنها سلبية، ونادرة لذا اعتبرتها‏

     

     

    مقدسة فقد قال لي صديقي الطبيب الذي يعرف جنوني واهوائي يوماً:‏

     

     

    -زمرة دمك زرقاء وهذا يعني أنك من سلالة نبيلة، فمن أين تحدرت إليك؟‏

     

     

    -لا أعلم.. قهقهت بصوتي.. فنصف عائلتي مجانين.‏

     

     

    -والنصف الثاني؟‏

     

     

    على وشك الجنون‏

     

     

    تذكري من أين جاءك النبل..؟‏

     

     

    أنا مختلطة الدماء، فربما جاءتني من جدة بعيدة جاؤوا بها سبية من القفقاس.‏

     

     

    -وربما‏

     

     

    من جسد لي جاء من أرمينيا يبحث عن أقاربه، ربما كنت أميرة عباسية من سلالة الرشيد‏

     

     

    دمها ممزوج من كل عروق البلاد المفتوحة، وربما أكون بر مكية من جعفر أو الفضل.‏

     

     

    -أتحبين التاريخ إلى هذا الحد؟!‏

     

     

    -وأكثر‏

     

     

    -من هنا يأتي الجنون‏

     

     

    -أو الحكمة‏

     

     

    وضحكنا أنا وصديقي الطبيب، وهكذا كنت أحمل دماً أزرق، أحرص على اللعب به دون‏

     

     

    اعتبار أو خوف من الآخرين، فقبل سنوات بعيدة جاءت عائلتي إلى هنا وسكنت العائلة في بيت‏

     

     

    متواضع ظهره إلى سور المدينة العتيق، وإذا أردت التحديد اطل من سور المدينة التي بناها المنصور‏

     

     

    على شكل بغداد صغرى. كان ابي موظفاً صغيراً، وأمي امرأة حالمة، لا ترى في العالم سوى بيتها‏

     

     

    وأسرتها. قد تجلس أحياناً على باب البيت مع بعض الجارات.‏

     

     

    أما أنا فقد كنت مبهورة بكل شيء، العشب البري الذي ينبت في الربيع فوق أسطحة‏

     

     

    المنازل الترابية والتل الذي يقف شامخاً أمام بيتنا حيث كنت أقضي وقتاً في جني باقة من أزهاره‏

     

     

    البرية، كنت مبهورة باحجار القرميد الضاربة إلى الحمرة أو الصغيرة وبالناس الذين يحبون شرب‏

     

     

    الشاي، والدخان، مبهورة بالمساحات الواسعة للبيوت لأن التل لم يكن تلاً من تراب فحسب،‏

     

     

    وإنما يتوجه من الأعلى، ما بقي من إطلال بناء ما زالت بعض أوابده تتحدى الزمن، وفصول‏

     

     

    السنة، وتعديات الأهالي. في أحد الأيام.. سألت جارنا العجوز الذي كان يجلس كل يوم عصراً‏

     

     

    إلى جانبه وهو يدخن النرجيلة ويشرب الشاي ويسعل متأملاً كل ما حوله بمتعة واهتمام، هذا‏

     

     

    العجوز الذي علمني كيف أمسك خرطوم النرجيلة وأقرقع بالمياه واسحب منها حتى يضيق‏

     

     

    صدري فانفث الدخان مرة بعد أخرى بدأت أشاركه الشاي والنرجيلة ونتحدث...‏

     

     

    أهذا البناء قديم يا عمي...؟‏

     

     

    -ايه يا ابنتي قديم قبل أن أخلق...؟‏

     

     

    -أوه يا عمي فهو قديم جداً.‏

     

     

    -ضحك وهو يأخذ مني خرطوم النرجيلة....‏

     

     

    -خربوه.. نهبوا حجارته، وبنو منازلهم الوضيعة التي أمامنا هذه..‏

     

     

    -وماذا كانوا يسمونه؟ يا عمي؟‏

     

     

    - يسمونه.. وهز برأسه- قصور البنات.‏

     

     

    - وأي بنات يا عمي؟‏

     

     

    بنات هرون الرشيد.. ويقولون يا ابنتي إن خزائن الرشيد مدفونة فيه.‏

     

     

    قالها ثم بدأ السعال الذي لا ينتهي منه عادة إلا بذرف الدموع.. وناولني خرطوم النرجيلة.‏

     

     

    هذا الرجل المسن، كان يعاملني كشابة كبيرة، يستفقدني إذا غبت عنه يحكي لي عن هرون‏

     

     

    الرشيد، وعن الرقة وسكانها الأصليين وعن الوافدين وعن بيوتها القديمة، وكيف ساهم في بناء‏

     

     

    الجسر العتيق، هذا الجسر الذي عتقوه لكثرة ما أطلقوا عليه الجسر العتيق، رغم أني وجارنا‏

     

     

    العجوز ما زلنا نراه الأجمل.. حين نخرج إليه صباحاً وحين نتعب نجلس على رصيفه وكأننا في‏

     

     

    قارب والمياه الخضراء السريعة تمر من تحتنا... هذا الجسر الرائع، الذي كان أول جسر للعالم‏

     

     

    الثاني، فلولاه لبقيت الرقة بقعة مجهولة.. وعليه مر الآلاف من البشر قادمين ومغادرين.‏

     

     

    رفع جارنا العجوز يديه قائلاً: بيدي هاتين نقلت إليه الحديد.. والاسمنت. تركت له متابعة‏

     

     

    الحديث، وانسحبت إلى الطرف الاخر من الحارة أراقب التل والحجارة، والعشب، وقد رسمت في‏

     

     

    عينيَّ صور بنات الرشيد وسط الجواري والوصيفات، ينتقلن من غرفة إلى غرفة، عبر الردهات،‏

     

     

    والسراديب، ورائحة العطر تعبق من أردانهن وعند حافة البركة تقف امرأة تشبهني تجلس على‏

     

     

    طرف البركة، تلهو بأقدامها التي تزينها رسوم الحناء، تلعب بمياه البركة، ويداها تعبثان بسلسلة في‏

     

     

    أسفلها معلق قلب فارغ. ومرت الأيام ونشبت بيني وبين تلك الأطلال علاقة قوية. فأنا أجلس‏

     

     

    هناك أتلمس الأحجار أرى الأقواس والنوافذ التي لا زالت عامرة... وأحياناً أسمع همسات‏

     

     

    الجواري.. ضحكاتهن وأشم عطراً غامضاً يهب من فتحة الحمام محملة بتنهيدات حارة اصغي‏

     

     

    إليها.‏

     

     

    في يوم من الأيام جاء رجال غامضون وقفوا فوق التل يستعرضونه. رجال شقر شباب‏

     

     

    وكهول يلبسون لباساً يختلف عن لباس رجال مدينتي... يتحدثون بكلمات لا أفهمها، وقد‏

     

     

    أصابت الدهشة معظم الجوار.. إلا صديقي العجوز الذي قال بلهجة عادية: سواح.. إنهم سواح‏

     

     

    أجانب قليلاً ويرحلون لكن الرجال عادوا في اليوم التالي. بنوا خياماً في الساحة المجاورة لمنزلنا،‏

     

     

    وبدؤوا يفردون أوراقهم، وخرائطهم كان الوقت صيفاً... يدققون في الخطوط والأشكال يقيسون‏

     

     

    المسافات يضحكون أو يعبسون.. وبعد أيام استأجروا عمالاً، وبدؤا بالحفر وترحيل الأتربة‏

     

     

    وبدأت تتكشف معالم جديدة لقصري، ردهات طويلة جدران.. دهاليز وغرف.. والرجال الشقر‏

     

     

    يتابعون عملهم بهمة عالية، وتصميم دون اعتبار للحر، أو التعب، وقد علمت أنهم بعثه المانية‏

     

     

    مهتمه بالآثار الإسلامية، جاءت للتنقيب في هذا التل. ويوماً بعد يوم، ألف الأهالي وجود الرجال‏

     

     

    الشقر بينهم أما أنا فكنت أراقب ما يجري بمتعة وخوف.. وفي أحد الأيام اقترب مني أحد الرجال‏

     

     

    الشقر... كثيراً أما كنت أقف بجانبه أعطيه ماءاً أو أناوله ازميلاً صغيراً يشير إليه في الحقيبة‏

     

     

    المفتوحة.. أو ابتسم له، فيرد علي. إنه "جون" هذا الشاب الجميل أشقر الشعر.. عيناه زرقاوان..‏

     

     

    أسنانه كانت تثير في الابتسامة، فإذا ما فتح شفتيه كنت أسترق النظر إليها.. كان يتردد كثيراً إلى‏

     

     

    بيتنا.. تعلمت منه بعض الكلمات بينما هو التقط بعض المفردات العربية التي ينطق بها أحياناً‏

     

     

    لكثرة ما تجول في بلدي. اقترب مني.. جلس بجانبي على الأرض، ورفع طاقية حمراء كتب عليها‏

     

     

    باحرف ألمانية كبيرة، اسم الشركة التي يعمل بها.. وضعها على رأسي مما شجعني كي أقترب منه،‏

     

     

    وأسأله:‏

     

     

    -هل وجدتم شيئاً؟‏

     

     

    -ضحك وقال: أوه... شيء.. أشياء كثيرة.‏

     

     

    -وأين هي؟‏

     

     

    -ألا ترينها أمامك؟! إنها ثروة كبيرة.‏

     

     

    -كنت أريد الوصول إلى ما يشغلني كي أستعيد صورة هرون فسألته:‏

     

     

    صحيح ما يقال عن هذا البناء؟‏

     

     

    -وماذا يقال؟‏

     

     

    -إنه كان قصراً لبنات الرشيد وفيه كنوزه مخبأة.‏

     

     

    -ضحك هذه المرة "جون" ضحكة صاخبة ومديده إلى رأسي، كي يبعثر شعري ثم قال:‏

     

     

    -هذا كلام صحيح، إنما غير دقيق.‏

     

     

    - وأنت ماذا ترى؟ أقصد البعثة...‏

     

     

    - حتى الآن نستطيع أن نقول: إن هذا البناء ربما يكون. وهذا غير أكيد قصراً لأحد أثرياء‏

     

     

    تجار الرقيق.. كان يستخدمه لطالبي اللهو، والمتعة أو اللذين يريدون شراء الجواري النادرات..‏

     

     

    إنه يعد بمثابة دار،أو معهد لتعليم الموسيقا.. الرقص الأدب.. الغناء.. ضاقت عيناي، وتقطب‏

     

     

    حاجباي حين انهى "جون" جملته الأخيرة.. فذهبت إلى منزلنا. جلست في الغرفة.. أحسست‏

     

     

    بأشيائك الكثيرة يا هرون تغادرني.. هززت كل ما لدي من قناعات وأحلام. تراجعت إلى الوراء‏

     

     

    كثيراً.. أصبحت وحيدة وسط فراغ قاتل.‏

     

     

    أهكذا يتحول رشيدي إلى نخاس يتاجر بالرقيق الأبيض. أهكذا يتحول قصره إلى مجرد دار‏

     

     

    لطالبي المتعة واللهو ولذة الجواري..‏

     

     

    صرخت بنفسي كملتاعة.. مهزومة.. منكسه.‏

     

     

    لم أصدق كل ما قاله جون.. كنت أتابع حفرياتهم، وأنا أتمنى أن يظهر ما يبدد أوهامي وكل‏

     

     

    يوم كنت أصادف مندوب مديرية الآثار، فأسأله:‏

     

     

    -ألم يجدوا جديداً‏

     

     

    -كل يوم نجد شيئاً جديداً.‏

     

     

    وما هي وظيفة هذا البناء؟‏

     

     

    وماذا يهمك أنت من وظيفة البناء؟!‏

     

     

    أريد أن أعرف، هل كان حقاً داراً لطالبي المتعة واللهو؟‏

     

     

    وهل تكرهين هذا..؟‏

     

     

    -لا بل أكره أن يكون هرون من النخاسين‏

     

     

    - عسى أن يحقق الله حلمك، فنجد ما يقلب توقعاتنا.. ولا يكون البناء داراً للمتعة.‏

     

     

    مرّ أكثر من شهر وأنا أترقب الجديد.. وأتابع معهم الحفريات وأسمع نقاشهم وتحليل الحروف‏

     

     

    ومقارنتها.‏

     

     

    واتى جون لمنزلنا راكضاً يناديني بعربيته المكسرة.‏

     

     

    - تعالي لك خبر سار عندي.‏

     

     

    - ما هو هل رأيتم رشيدي؟!‏

     

     

    -لا لا.. اكتشفنا شيئاً جديداً سيفرحك.‏

     

     

    -ما هو...؟‏

     

     

    قادني من يدي حتى أدخلني البناء وأشار إلى عمودٍ عليه كلمات لم أعرف ماهي؟ وأحرفها‏

     

     

    غريبة.‏

     

     

    التفت إلى "جون" متسائلة:‏

     

     

    -إنه عمود عليه شعار المؤسسة التي ينتمي إليها البناء "ووظيفته التي تهمك.‏

     

     

    - ما هي؟‏

     

     

    لقد كان البناء مشفى، فالشعار الذي على العمود يؤكد ذلك، فلقد رأينا مثله في دمشق.‏

     

     

    -مشفى؟! قلتها بفرح واستغراب.‏

     

     

    -نعم مشفى للمجانين.. فالبناء هو "بيمارستان" هكذا تقول الأحرف التي على العمود.‏

     

     

    -بيمارستان؟!‏

     

     

    ركضت إلى التل الذي ما يزال يطل على البناء.. هناك تربعت على الأرض.. انظر إلى البناء. فما‏

     

     

    زالت البركة تتوسطه، بينما الجواري تدخل إلى غرفه، وتخرج من دهاليزه.. ورجال.. وعبيد كثر،‏

     

     

    وقوافل تغادر وأخرى تحط أمتعتها وتدخل لترتاح فيه وتخرج. ضحكات من الممرات وأبخرة‏

     

     

    الحمام تصعد غيوماً فوق رأسي.. وتصل إلى أنفي رائحة عطور قريبة من نفسي... ولا زالت تلك‏

     

     

    المرأة التي تشبهني تجلس على طرف البركة وقدماها المزينتان بالحناء.. في الماء، بينما يداها تلهوان‏

     

     

    بسلسلة معلقة بعنقها تنتهي بقلب فارغ، وطاقية جون الحمراء لا زالت على رأسي.. ألم أقل لكم‏

     

     

    إنني أنثى مجنونة...؟ مسكونة؟ مسحورة؟ ما زالت تنتظر المهدي، أو هارون الرشيد، كي يملأ‏

     

     

    فراغ ذاك القلب المعلق بسلسلة تلك الجارية المضمخة بالحناء من رأسها حتى قدميها.‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()