بتـــــاريخ : 11/15/2008 9:46:31 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1521 1


    الملاك الحارس

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حسن حميد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    مساءً،‏

    أحسستُ بالأسى يملأ قلبي، وقد بتُّ وحيداً في الحديقة العامة، وهما لم يحضرا بعد!!‏

    لا أحد حولي، لا عشاق يتهامسون، ولا أطفال يجرون أو يتصارخون، ولا عجزة مثلي يتأملون.

    يخيفيني هذا الفراغ العجيب، فأطلق بصري في ما حولي فلا أرى سوى المقاعد المنزوية تحت الأشجار ، وقرب مراتب العشب، وفي البعيد، أرى الحارس العجوز الضامر يترامح هنا وهناك ، يغلق الأبواب ، يتفقد الأدوات والأسيجة ومصابيح الإنارة، ويخرج!!‏

    كان المطر ، قد بدأ منذ لحظات ، يتساقط ناعماً رخواً، وكنت ألوذ بمعطفي الأسود الطويل تحت واقية التوتياء المصبوغة بإعلانات الأشربة الباردة، أتفرج على الناس الهاربين من المطر وعتمة المساء والريح اللافحة، والسيارات اللجوجة، والبيوت التي راحت تبدي جمالها بعدما أضاءت نوافذها وشرفاتها العديدة. أحسست بوطأة الصمت ، ووحشة المكان، وبوحدتي المديدة، فهممت أكثر من مرة أن أذهب وقد ازدادت البرودة وتضاعفت، إلا أن شوقي لرؤيتها وهما يتهاديان إلى موعدهما الاعتيادي، جعلني أتلبث في مكاني لكي أراهما فقط!!‏

    كانت روحي، لحظة يطلان، تطمئن وتهدأ كأنني ملاكهما الحارس، وما أن يجلسا حتى أنهض مديراً لهما ظهري، متميناً لو أن أشجار الحديقة تتقارب وتتزاحم حولهما لتحجبهما عن نظرات الناس اللائبة. لا أدري ما الذي حببهما إليّ دون باقي الخلق الوافدين إلى الحديقة.‏

    كما لا أدري لما رضيتُ عن لقاءاتهما دون أن أعرف محتواها؛ بل لا أدري لماذا كان النوم يجافيني في المساءات التي لا أراهما فيها؛ كلّ ما أدريه هو أنني ، وكلما رأيتهما ، تذكرت الماضي ، يوم كنتُ ألتقي ربيعة قرب بيتهم بعيداً عن العيون الراقبة؛ ربيعة جمال الدنيا الذي لا أنساه، وغصّتها التي لم أستطع محوها بعدما التهمها المرض فجأة فقطع خيطها مرة واحدة!!‏

    طال الوقت وامتدّ ، ولم يأتيا!! لعنتُ العتمة والبرد الشديد؛ لكنني لم أفقد الأمل، ولم أغادر مكاني.‏

    نشطتُ في مراقبة المداخل، وأرهفت سمعي، ولكن دون جدوى، فالحارس ولى بعدما سها عني قاصداً كعادته.‏

    أخثر بصري فوق مقعدهما الخشبي القريب مني، والمتواري وراء مشتل الورد القريب من الشارع العام، والمطل على البحرة الواسعة ونافورتها التي تحيل الماء إلى خيوط من الفضة اللامعة.‏

    لقد اعتدتُ على رؤيتهما في كلّ مساء وهما يتقدمان ببطء فوق خطا خجلى نحو مقعدهما المعهود، وقد عششت كفُّ الفتاة البيضاء الطويلة في كفّ رفيقها الطويل الأسمر، وقد مال رأسها نحو كتفه لائذاً في هجعة أرقُّ من الشوق وأحنّ ؛ يمشيان على مهل وهما يتبادلان الهمس، والنظرات ، والدفء الرغوب. لم اقترب منهما أبداً، ولم أر تفاصيل وجهيهما، ولم أسمع همهماتهما. كنتُ أكتفي دائماً بعذوبة هذا المشهد الرخي، وبرهافته الآسرة.‏

    في مرات قليلة ، كنتُ أشعر بالحزن وأنا أرى الشاب يدخل الحديقة وحيداً يهفو إلى المقعد كالمطرود، يجالسه ويمسّد عليه بكفّه لكأنه يدفئ المكان والوقت ريثما تأتي هي، فلا يهدأ أو يستكين إلا عندما يراها قادمةً على عجل تهمي مثل عيدان القصب، ترمي للدرب خطاها ولهاثها ونظراتها الشرود؛ لحظتئذٍ يصير مشهد اللقيا أبعد من اللهفة وأبقى‍‍!!‏

    أحسُّ بالليل يوغل في العتمة والهدأة الفائقة، وهما لا يأتيان. تأخّر الوقت كثيراً ، والبيوت أطفأت أنوارها، وهما لا يبدوان! أرفع قامتي رويداً رويداً، وأدفع خطاي نحو مقعدهما الوحيد البارد، فيلفّني المطر الحنون، ونظري يلوّب عليهما حائراً هنا وهناك في مفارق الحديقة، وخلف الأشجار فلا أرهما. أصل إلى المقعد. أدقق النظر فيه كأنني أراه للمرة الأولى. ألمّس عليه. أمسح نقاط المطر المتساقطة على أطرافه. أطرد بلله، وأجمع أوراق الأشجار الصفر المتناثرة حوله، أجعلها طبقاً فوق طبق مفرشاً طرياً لأقدامهما. أبدو كمن يؤثث المكان بأنفاسه وحيرته، وحين أطمئن أنسل مبتعداً كي لايضبطاني خلسة قرب عشهما فينفران كطيرين عزَّ عليهما الأمان، وقبل أن أحث الخطا خارجاً استدير نحو المقعد، أحدّق فيه وأطيل النظر، ثم أحدّق فيه وأطيل النظر ، فلا أمضي إلا وقد رأيتهما مثل غيمتين يهبطان عليه بعدما أعياهما التعب والجولان، إحداهما تدنو من الأخرى وتمسح عليها كيد ناحلة تقطر زيتاً تمرّ بخشوع على أيقونة ملأى بالألم العميم، وابتعد حابساً أنفاسي وطاوياً وقع خطاي، وقد خلفتهما ورائي تضيئهما أنوار السيارات حيناً ، وتخفيهما حيناً آخر في لحظة أرحب من المساء وأغنى!!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()