بتـــــاريخ : 11/15/2008 9:43:11 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1355 0


    لَوَبَان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حسن حميد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة لَوَبَان حسن حميد

    لم أكن أعرفه من قبل ليصارحني بكل هذا الحديث؛ لكن الرجل الأشيب مهموم، وجسده الناحل لا يقوى على المضي في الدروب التي يجول فيها طوال وقت النهار.‏

    عرفته مصادفة في حديقة القنطورة، في ذلك المساء الشتوي المندّى. كانت الحديقة وحيدة تماماً، لا أحد فيها سوى الرجل القصير الأشيب، الذي قبع فوق أحد مقاعدها الخشبية الباردة، لكأنه ينتظر أحداً ما. كنت قد جئت إلى الحديقة قبيل الغروب بقليل بعد أن واعدت فريال صديقتي على اللقاء؛ فريال التي عرفتها منذ سنوات بعيدة، والتي لم أمنحها شيئاً سوى محبتي، وبعض الهدايا الصغيرة المضحكة.‏

    كان المساء جميلاً هادئاً، وكانت أشجار الحديقة، وأعشابها، وأسيجتها الشوكية مغسولة بالمطر النثيث الناعم. وحده الرجل الأشيب انتبه لدخولي، فابتسم من على بعد، ولوّح لي بيده منادياً كي أقترب؛ كأنه على موعد معي، أو لكأنه ينتظر قدومي. ولم أدر لماذا طاوعت قدميَّ ومضيت نحوه بكل بساطة(أحياناً تلفني حالة من العناد العجيب أشبه بعناد الحمير القبرصية)، وهشَّ الرجل، وتقدم نحوي على عجل، وهو يبتسم، وقبل عشرة أمتار من وصوله إليَّ مدَّ كفّه لمصافحتي؛ فمددت يدي إليه كأنني منوّم (لاشك أن منظرنا كان مضحكاً تماماً). وحالما التقينا أخذ كفّي بكفّه الصغيرة، وهزّها بلطف. بدا لي رجلاً يُسلّم بحرارة نادرة، ودعاني إلى مجالسته فوق المعقد الخشبي القريب منا. أحسست للوهلة الأولى بأنه رجل نسي أن يكمل نموه.. فجسده صغير، ضامر، وعيناه خرزيتان، وأصابعه صغيرة وقصيرة كأصابع الأطفال؛ وجهه أجرد لاخطوط فيه ولا ندوب، وبادرني قائلاً: وهو يتلفّت هنا وهناك:‏

    * "كدت أختنق، ما من أحد حولي.‏

    لا أدري أين يتوارى الناس"!!.‏

    همهمت، ومن باب المسايرة:‏

    * "في بيوتهم يا عم"!!‏

    ولم أقل أكثر من هذا، فانفرط الرجل مثل حبة رمان في بكاء صاخب، وراح يتنهد، ويتمتم دون أن أفهم كلمة. ورحت أواسيه، وأصبّره، وهو يدفن رأسه في صدري تماماً. راعني المشهد، وأخافني، وساورتني الظنون، فالدنيا مقبلة على الغروب، والمساء بارد، والمطر يُهمي بلطف شديد، وحالة الهدوء الشاسع تلفُّ كلَّ شيء، وما من أحد فعلاً، لكأن الناس غادروا المدينة، أو لكأن السيارات انقطعت عن المرور في الشارع العريض الموازي للحديقة تماماً. ولم يهدأ الرجل إلا بعد مرور وقت من الزمن، أحسبه كان طويلاً وعصبياً. فقد خفت أن تأتي فريال وتراني على هذا المشهد المأساوي فلا أقوى على إقناعها بأنني لا أعرف الرجل إلا منذ لحظات فقط؛ وأن المصادفة هي وحدها التي جمعتنا هنا. المهم أن الرجل هدأ، فهدأتُ. رفع رأسه ونظر إليَّ. كان وجهه طفلياً تماماً، فقد احمرَّ وتلامع كحبة خوخ. وودَّ أن يقول لي شيئاً، فلم يستطع، لذلك.. ارتمى في صدري ثانية وراح يبكي. ولم أتكلم. شعرت أنه بحاجة إلى البكاء، فليبكِ. وانشغلت عنه. كنت أمدّ بصري نحو مدخل الحديقة مترقباً قدوم فريال؛ والحديقة من حولي مستسلمة للمطر الحنون، والهدوء المطلق العميم، وبكاء الرجل الأجش. ورأيتُ في الركن البعيد من الحديقة عدة طيور فزعة تحوّم وقد بللها المطر، وهي تنتقي لها مأوى في ثقوب البناء الحجري الخرب. كان المطر ساحراً، وطرياً، له لمعة مضيئة مثل الكلام الحنون.‏

    وأخيراً، هدأ الرجل. أستل من جيب سرواله الأسود العريض منديلاً أبيض، وراح يمسح دموعه وندى أنفه، وجلس قبالتي، فبادرته قبل أن يعود إلى البكاء:‏

    * "مابك يا رجل.. تكلم"!!‏

    ولم يجب كان يلملم نفسه، ويضبط أنفاسه فقط. وحين نظر إليّ، قال:‏

    * "لي ثلاثة أيام لم أنم،‏

    اسمعني، أرجوك، لعلي أنام"!!‏

    نظرتُ إليه بدهشة، كأنني أراه للمرة الأولى، فقد كان رجلاً يبكي بكل أعضائه. خفق له قلبي وضجّ. أحسست بالأسى والحزن. وودّت لو آخذه إلى صدري في ضمّة لا ضفاف لها.‏

    فثيابه النظيفة جداً لا تدل على أنه متسول أو متشرد، ونظرته النافذة لا ذل فيها ولا مسكنة. وما كان أمامي سوى أن أهزَّ له رأسي، فقال:‏

    * "أنت لا تعرف بهيجة الحسون؛‏

    بهيجة أجمل بنت في الضيعة. بنت مثل حبة اللوز، طويلة وناعمة. بهيجة هي السبب في كل ما حدث.‏

    كنت قد انتهيت من خدمتي العسكرية. قلت لعمك أبو كنت قد انتهيت من خدمتي العسكرية. قلت لعمك أبو فوزي، والدي الله يرحمه، قلبي عند بهجية يا أبي وأهلها وافقوا. خذ.. هذا كل ما معي من أجلها. المهم موافقتك. فوافق دونما إبطاء. كنت أخدم عند ابن حلال. الدنيا في نظره لا تساوي الفرنك المصدي. كان يساعدني.‏

    يقول لي: دبر حالك يا فوزي. اشتغل، وعبِّ كيسك. ومحسوبك فوزي ابن تعب، روحي معلقة بالتعب. شرّقت في المدينة وغرّبت. جمعت الكثير. صار عندي مال يحسب بالآلاف. وضعته عند معلمتي. كانت هي أيضاً بنت حلال. كنت خدوماً لها. صحيح أنها كانت تحبّ واحداً غير معلمي؛ لكن ما خصني؛ فمعاملتها لي ممتازة. كانت تعطيني مكاتيب وهدايا لحبيبها، فأوصلها دون أن أقول حرفاً. كنت دائماً أحسب نفسي في مهمة سرية؛ وقد عاهدت ربي ألا أنقل كلمة تغضب معلمي أو معلمتي. كنت أرى بعيني وأغصُّ؛ فمعلمي ما كان خالي الطرف أيضاً. كانت تتردد عليه بنت مثل فلقة التفاح. كنت آراه وهو يعطيها الكثير.كنت أقول، افتح عينيك يافوزي على قدك ، واترك الناس في حالهم. وهذا ما كان فعلاً، المهم، بعد أن وافق الوالد، أخذت بهيجة. وصار لي ولها عرس لم تحلم به الضيعة من قبل. كان لبهيجة فم يأكل ولا يحكي. بنت بلا طلبات بلا شروط. فقد قالت لي: خذني إلى المدينة، يا فوزي، فوافقتها دون مواربة. حاولتُ في البداية أن أحببها بالضيعة فحكيت لها عن بشاعة المدينة، لكنها لم تقتنع، قالت لي أنت على قدِّ حالك يا فوزي، وابن المختار عينه عليَّ؛ إذا ما بقينا في الضيعة سيأخذني غصباً عنك وعني. المدينة كبيرة وواسعة، وإذا ما طلبني ابن المختار لن تعثر عليَّ. خذني قبل أن أخسرك وتخسرني. وفكرت بالأمر كثيراً، فعلاً ابن المختار جمال، وطول، ومال، وقدرة. قلت: امش يا ولد، يا فوزي، خذ بهيجة ومعلمك في المدينة يدبر حالك. وذهبنا. كان مشهد وداع أمي مؤلماً. بكت المخلوقة كأنها تودّع الدنيا. وأوجعتني بقولها (يا ريت ما تزوجت)، ورأيت دموعها تسحّ!!‏

    وصلنا إلى المدينة، وأخذنا غرفة صغيرة وعشت مع بهيجة أياماً حلوة. اشتغلتُ من أجل سعادتها، عرّفتُها بأمكنة كثيرة، وجعلتها ترى ما كانت تحلم به، ففرحت كثيراً لكأن المدينة هي سعادة الدنيا كلّها؛ وما مضت سنة حتى رزقنا بدلال، بنت حلوة مثل ليرة الفضة. صارت سلوتنا ولعبتنا في الليل والنهار. بهيجة طار عقلها بها، فشعرتُ بأن الحياة راقت لها وزهت؛ لكن بهيجة أخذت تتغير. صارت تنفر مني وتبتعد. تدقق في كلِّ شيء. تسأل أسئلة كاوية؛ ما كنتُ أسمعها من قبل. تسألني لماذا أتمطق كثيراً حين آكل، ولماذا لا أمشط شعري، وأقص أظفاري، وكيف لا أفرشي أسناني بعد كل طعام ، ولا أحلق ذقني يومياً، وراحت تحرمني من أكل البصل والثوم والمكدوس.. وأشياء كثيرة أيضاً. صارت نكدة وصعبة. تعبس في النهار، وتهجر في الليل. صرتُ أطلبها وأتودّد إليها بالرجاء، فلا تستجيب لي، لكأنها ليست بهيجة التي كانت تحسبني مخلوقاً هبط عليها من السماء. ومضتْ في دلالها وصدودها، ومضيتُ في صبري عليها وانكساري لها. فقد هجرت أهلي من أجلها. لكن ظنوني اتسعت بعدما وجدت، في أثناء غيابها، صورة لشاب حلو تحت مخدتها، ففار دمي، وهاجت روحي. وحرت بأمري، ورحت أفكر. كل شيء.. إلا هذا يا بهيجة!! ووصلت إلى نتيجة بأن بهيجة لا تحبُّ آخر وأنا موجود. كنتُ واثقاً منها ومطمئناً إليها على الرغم من قسوتها معي. أقنعت نفسي بأن الصورة لمطرب أو فنان. وعلى مهل نسيت الأمر فعلاً. لكن بهيجة صارت تلبس وتتحلى أكثر من قبل، وتخرج كثيراً دون علمي وتتأخر، فأقول لنفسي: حقها. قعدة البيت تخنق. كنت أبعد نفسي عن الشك بها، لكن بهيجة غابت فجأة ولم تعد. طق عقلي، ولم أصدق. انتظرت عودتها وقتاً طويلاً، لكن دون جدوى. صرت وحيداً مع دلال الصغيرة، فمضيت أسأل عنها كل معارفي ومعارفها، وما من نتيجة. ظلت بهيجة موغلة في الغياب. وظلت البنت دلال تبكي فأبكي معها؛ تبكي طويلاً دون أن تقبل مني أي طعام أو شراب، وحين يهدّها البكاء تنام. مرت أيام عديدة وأنا أنتظر بهيجة، لكنها لم تعد. شعرت بأن بهيجة هي الدنيا، فغيابها غيابٌ للدنيا. صرت مثل المجنون بعدما حيّرتني البنت الصغيرة التي تطلب أمَّها؛ وأمُّها بعيدة نفور كطير الشوك أو البلان وراحت البنت تذبل وتضعف بين يديَّ. قلت يا فوزي خذها لأم عباس، جارتنا، لعل وعسى، لكن أمَّ عباس رفضتها بلطف ولين؛ معها حق؛ عندها ثمانية أولاد، وحالتها من ويل إلى ويل. وشاورت معلمي ومعلمتي، ولم أجد عندهما نتيجة؛ بل وجدت ما صفعني، لقد أخبرتني معلمتي بأن بهيجة لن تعود أبداً فقد أخبرتها بأنها رحلت مع آخر . لذلك ضيّق اليأس علي الفرص ، فأخذتُ البنت إلى ملجأ الأيتام. ضربت الجرس، ودخلت. قلتُ لهم، أرجوكم، هذه البنت لي، اسمها دلال، أمها ماتت، ربّوها قبل أن تموت هي أيضاً، فأخذوها ومضيتُ، عفواً قبّلتُ البنت، ومضيت!!‏

    عدتُ إلى غرفتي مثل الطير الجريح. غرقت في البكاء واللطم ساعات ثم نمت؛ وما إن استيقظت حتى جمعت كلَّ أثر لبهيجة وحرقته، ثم جمعتُ ثياب البنت دلال، ووضعتها في كيس، وأخذتها إلى الملجأ. أعطيتُ الكيس للحارس، وخرجت. خفت أن تبرد البنت في الليل. وعدت. ضاقت الدنيا عليَّ؛ صارت خطّاً مستقيماً ما بين الملجأ والمقهى. كنت وكلما فكرت بحالي لا أجد نفسي إلا في المقهى بين الناس. ضجيج المقهى، وصياح الناس، وأصوات المنادين على البضائع.كلُّها تبدد وحدتي وأفكاري، فأواري همومي للحظات.‏

    ولم أطق الحياة. كل الشوارع والدروب، والأمكنة التي أجول فيها.. تذكّرني ببهيجة، وبهيجة سادرة في الغياب. وكل الأطفال يذكرونني بدلال. تمنيت لو أنني أنتهي، فأرتاح من كل هذا العذاب. فكرتُ بأن أذهب إلى أمي، وأسألها عن حلّ. خفتُ شماتتها بي، فقولتها (يا ريت ما تزوجت) تخزّ صدري كالمسمار، وقررتُ السفر بعيداً. أردتُ أن أبتعد عن الهواء الذي أشمُّ فيه رائحة بهيجة، وعن البيوت التي تسمعني بكاء دلال. وحزمت أمري فعلاً. ودّعت البنت دلال، وتركت لها قرشين عندى مديرة الملجأ، ومضيت إلى بيت معلمتي، وضعتُ كل أثاث غرفتي تحت الدرج، وسيّجت عليه بسلك معدني كما أشارت عليَّ. ولم أدر كم مرة ضبطت نفسي وأنا أمام مرآة الخزانة التي كانت بهيجة تمشط شعرها قبالتها.. أُلمّسُ عليها كأنني أُلمَسُ على روحي. ومضيتُ. تعثرتُ كثيراً في سفري. ونفرت من أشغال كثير. ومرت السنوات بطيئة حارقة، والشوق يلذعني. شعرت بأنني أذوب رويداً رويداً، حتى صرتُ مخلوقاً آخر تماماً بعدما زادت أحزاني وتكاثرت عليَّ. حاولت وكلما لاح طيف بهيجة لي أن أعطبها بخمس ست سيكارات، ولم أفلح، ظلّ طيفها رفيقاً لي كأنفاسي. ومع ذلك جمعت من المال الكثير. كنت أرسل قسماً منه إلى الملجأ من أجل دلال. كما أرسل إليها صوري لتظل على معرفة بي. حتى إذا ما رأتني ترتمي في صدري منادية أبي.. أبي. كتبت لها الكثير، وصبّرتها على الحياة، وقلت لها إنني قادم لكي أسعدها، وأعوضها عن سنوات الحرمان بكل ما تحب وتشتهي. لكنني تأخرت عنها كثيراً. كنت، وكلما هممتُ بالعودة، تحدث لي مشكلة تحول دون عودتي. وهكذا مرت السنوات، وكبرت دلال. وحين عدت، جلبت لها المال الوفير، والهدايا الكثيرة، حتى مديرة الملجأ، ومعلمتي لم أنسهما من الهدايا. كنت أُمني النفس أن يكرمني الله بعودة بهيجة لتعود الحياة وتجمعنا مرة ثانية، سأنسى كلَّ ما فعلته، سأقنع نفسي بأنها لم تغب لحظة واحدة، لكن ما حدث كان مؤلماً حقاً!! فما أن وصلت حتى ذهبتُ إلى الملجأ. ضربت الجرس، ودخلت. سألت عن دلال فقالوا لي: خرجت منذ حوالي سنة، ولم تعد!! كانوا حزانى فعلاً، ولم أسمع منهم غير هذا، لأنني غبت عن الوعي ساعة أو أكثر، يوماً أو أكثر، الله أعلم. وعرفت فيما بعد أن إدارة الملجأ بحثت عنها طويلاً، ولكن دون جدوى. وهكذا صار مصير البنت كمصير أمها، وكأنه كان ينقصني أن أفقد دلال أيضاً. وهمتُ على وجهي. فقد فقدت آخر ما تبقى.. وأخذت صورها الجماعية مع رفيقاتها، ورحت أبحث عنها في شوارع المدينة وحاراتها.‏

    ولم ألتق بها وبتُّ أسمع بأذني الناس وهم يقولون عني: مجنون! ولم أحفل بهذا، فقد كان أملي كبيراً بأنني سأعثر على دلال، فهي لاشك ستعرفني من أول مواجهة، وأنني سأعرفها أيضاً. سأشمُّ رائحتها من بعيد فقد أحتاج إلى أن ألتقيها في شارع واحد، أو حارة واحدة حتى أعرفها، ولكن دون نتيجة، انبرت قدماي، ونحل جسدي، وانحنت قامتي، وشحَّ نظري. صرتُ شبحاً أو أكاد، ولم تعد لا بهيجة ولا دلال. ولم أيأس. ذهبت إلى أمانة السجل المدني. وبحثتُ عن اسمها، فلعلها تزوجت وذكرت عنوانها. بحثت طويلاً وبمساعدة أولاد الحلال، ومن دون فائدة، كنت وكلما رأيت اسم دلال يلهف قلبي ويتراجف ثم يغصّ. وسألت عنها في المخافر، والمشافي، وسجن النساء، وما من شيء. طوّفت في الكراجات، وعيادات الأطباء، ومكاتب المحامين، مررت بالمعامل الصغيرة والكبيرة، ولم أجدها. صغرت الدنيا في عيني فحزنت، وكبرت عليها فضاعتْ. عدت إلى الملجأ وسألت المديرة إن كانت البنت قد انتقلت إلى ملجأ آخر فنفت.. لأن المعلومات مشتركة ما بين الملاجىء، وأنها شخصياً، سألت رفيقاتها عنها، ولم تصل إلى نتيجة، فقد كانت علاقات دلال بهن غامضة بعدما كبرت ونهد صدرها فجأة وقبل الأوان!! ولم يبق لي سوى صور دلال، وصورة من صور بهيجة.. هاهي".‏

    .. ونثرها أمامي، وصمت منطفئاً فوق المقعد الخشبي الطويل كقنفذ. هززته فما عبأ بي. خفتُ أن يكون قد أسلم الروح، فهمد.. لذلك هززته مرة ثانية، ولم يستجب لي. فحرت بأمري، وجلت بنظري فيما حولي، ففوجئت بصديقتي فريال تجلس إلى جواري متواريةً في العتمة الفضية التي لفّت الحديقة. لابدّ أنها قد دخلت ولم أشعر بها، فراحت تستمع إلى حديث الرجل الحزين، ناديتها بصوتٍ عالٍ، وقد رأيتها باكية ترتعش وتتنهد متأثرة بما قال فنظرت إليَّ. لحظتئذٍ، انتبه الرجل. رفع رأسه، ونظر إلينا. ودونما توقع ابتسم ابتسامة صغيرة، فلمع وجهه وأضاء. نهض، فنهضنا.. وخطا وهو يدفن صور ابنته وزوجته في صدره، ثم أمرنا بحزم وقسوة أن نذهب، فالدنيا برد بلا أمان. فاستجبنا له ببطءٍ شديدٍ، وحين ابتعد، استدرنا بعدما رمينا له نظرة وتلويحة يدين، ومضينا تحت مطر رهيف خدر، راح يشتدُّ بوقع‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة لَوَبَان حسن حميد

    تعليقات الزوار ()