بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:48:48 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1490 0


    الصحراء

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وهيب سراي الدين | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    ألقى الليل جسده. وتكوّمت أكداس الظلام. لماذا هبط المسساء بسرعة، وامّحت آثار الضياء فجأة؟ أهكذا تتعامل السماء، مع أختها الأرض،" هنا"؟‏

    تساءل سلمان البصير، وتابع يتحدّث مع ذاته: لقد جازفت بنفسك، ياسلمان. أتمتطي سيارتك، في آخر نهارك، وتهاجم بها هذا المدى الذي لانهاية له؟ أف...‍ أين أنت الآن؟ وأية صوىً ترشدك إلى الطريق؟ وأي نجم تعرف، ليدلّك على الجهات؟ كان جدّ جدّك" صحّاراً، ويعرف نجوم سفر الليل كلها. أمّا أنت، فلا تعرف واحدة منها. بل تعرف تركب سيارة فحسب‏

    -ياإلهي ‍ أين الشرق؟ أين الغرب؟‏

    ثم لايدري سلمان البصير، كيف فرمل سيارته. لم يتأكد، في باديء الأمر أنها تسير على طريق غير معبدة بالأسفلت. بل الذي تأكدّ له أن العجلات، أخذت تسيخ فوق أرض لدنه رخوة، فتوقف. إنه الرمل!!‏

    أطفأ المحرّك. ونزل من السيارة. ولكن ظل ذلك الرمل، يلمع تحت عينيه، إلى وقت، كبصيص الحباحب.‏

    حتماً، هو يعللم أن الرمل، في هذا المكان بحر. بحر حقيقي، له عواطف تهيج. وله أمواج تسفّ وتتعالى. وله زوابع تغزل، وتنجدل كاللوالب، تذرو العيون، وتخنق الأنفاس، وتسدّ الفضاء.‏

    واصمد، ياسلمان البصير. لمَ تورطت، بسفرك هذا؟‏

    وأخذ سلمان البصير يؤنّب نفسه، لأنه ترك مدينة "الجهرة" الجاثمة على شاطئ" الخليج" اقتحم بسيارته الدوّ الخالي، لينفذ، من طريقه الوحيدة، إلى مدينته القابعة هناك، بعيداً، بين القمم والهضاب، حيت زوجته وأولاده.‏

    سلمان البصير عامل، في حرفة البناء. لم يتمكّن، من إعالة أفراد اسرته الستة، في مدينته تلك. فيّمم، منذ سنوات، شطر ذلك الشاطئ الأصفر. واستقرّ مقامه عليه، في" الجهرة".‏

    اليوم، بعد أن أنهى عمله عصراً. ضرب رأسه هاجس. بل تعبأه شيطان. قفز بين كتفيه، كالقرد. وهمس في أذنيه: سر الآن. ابنك مروان في خطر. يعاني من آلام جروحه.... شدخ في الرأس.... كسر في عظم الفخذ اليسرى... و...".‏

    وهكذا ظلّ يتمتم له. ثم حدّد له لون السيارة، التي دهست ابنه:‏

    "سوداء". ونوعها" مرسيدس".‏

    لم يعد يطيق اصطباراً، حتى الصباح اليوم التالي. انطلق في الحال.‏

    -انتبه... أين أنت ايها الهائم، في الفلاة، تحت اسجاف هذه العتمة المطبقة؟ هيّا تابع سيرك. تعرّف إلى طريقك. انقذ نفسك....‏

    ولكن سلمان البصير، على الرغم من هذه النخوة. لم يتمكَن من الاهتداء، إلى تلك الطريق، التي ضلّها. كيف غفل، وحاد عنها؟ أهو الظلام الذي غشيه، فأعمى بصره؟ أم أصابه دوّار عنيف، يقال له دوّار الصحراء؟‏

    -هاهي ذي الصحراء، ياسلمان البصير! أنت رجل سميت بـ" البصير". ابصر في أمدائها السحيقة. قاوم بعينيك ظلامها.‏

    والتفت حواليه. الليل جدار هائل مستدير. المكان كروي مطلق، لاجهات فيه، ولامنافذ. لماذا هذه القسوة أيّتها الصحراء؟‏

    وقشعريرة سرت في مفاصل جسم سلمان البصير. أحسّ أن شعره صار يقفّ. وجلده يتقرقف. طبعاً، ليس ذلك من شدة البرد. فلا صقيع هنا، ولا ثلج. بل من الخوف. أجل إنه الخوف!‏

    وراحت تمور، في هلام عينيه الضباع، والفهود، والنمور، و...‏

    حيوانات الصحراء، تستنشق رائحة صيدها، عن بعد عدة كيلو مترات. وأشهر الصيد، عندها الإنسان. هذا العدو اللدود، الذي لم يترك وسيلة خبيثة، إلا ونصبها شركاً لها.‏

    - أنت مسافر أعزل، ياسلمان البصير. كيف ستردّ عنك هذه الضواري، التي تريد أن تنهشك، لتفري جسدك قطعة قطعة، وعظمة عظمة؟‏

    وأغلق عليه، كلمة " قفْ" لم يستطع أن ينطقها ضد الشبح القادم نحوه. بل حين اضطربت شفتاه. لم يسمع صوته. أراد أن يتساءل مع ذاته عن هذا الرجفان، الذي جعله مثل شكوة مخيض!‏

    -أيها الخوف. ماذا فعلت بي؟ ولكن اصمد، واصبر، يا سلمان البصير...‏

    وأي صمود؟ وأي صبر؟ والليل، والمدى، والوحوش، و... كلها تحيط به، من كل جانب. وتراه، قد فتّش عن جسمه، عدة مرات، بعد أن تخاطفته، إنه مازال حيّاً، للآن! إذن فلينتظر بعقله المشوّش تبديد الظلام المركوس، فوقه، إلى ما لانهاية، فاين أنت أيتها الشمس؟ لمَ تركته على عجل؟‏

    على كل حال. لم ينفعه هذا الانتظار. بل ظلّ نهباً مقسماً لجحافل ليله، وأخاييل ظلامه.فارتعدت فرائضه. وانكمشت أطرافه أكثر، حتى كادت تزهق روحه، وتخرج من أوصاله. وعانى ما عانى، من آلية جسمه هذا الذي كان يتحرّك كماكينة‍!‏

    ولكن إلامَ يبقى متخبطاً، في هذه الحالة؟‏

    -ماوراءك، أيها الخوف؟ هل وصلت السقف عندي؟‏

    وركن لما سيستقبله من العذاب الأشد الكامن في "ماورء الخوف". ولايدري كيف رفع يديه إلى فوق. تلمّس كتلة مكوّرة. تتوضع بين كتفيه. فطن:" آه..! لمن هذه الرأس"؟‏

    -"رأسي... رأسي... افزع بي ".‏

    وراح سلمان البصير يستعجل رأسه، يردّ عنه أهوال الخوف وغوائله. وحتى غوائل وأهوال" ماوراء الخوف".‏

    وبالفعل. فكر. فوجد أن الهلاك يقبع، في هذا الأخير "ما وراء الخوف".‏

    -إذن مت واسترح، ياسلمان البصير.‏

    وأصرّ رأسه على طلب الموت له، ضد الخوف، و" ماوراءه"، المستبدّين. ولايدري كيف راوده هذا الإحساس، كغبطة، بل شعر في الوقت نفسه أن الشجاعة أخذت تدبّ فيه، من جديد.‏

    -لاتمتنّا علي. سأتحداكما بموتي، في هذا البلقع الخالي...‏

    وفرز له رأسه أيضاً:‏

    -من لايملك شيئاً، يصبح أول لكريم. ومن أنتهى عمره، يصبح أول شجاع في العالم!‏

    وهكذا اعتبر نفسه، من الأموات. وكل دقيقة يعيشها، فهي "زيادة". وهمز، كأنه كلب يعوي قبالته:‏

    -هلمّي إليّ ايتها الوحوش، والغيلان، والعفاريت، و... لنتصارع.‏

    لاشك أنك. أنت، تريدين الحياة. وأنا أريد الموت. أنا أعيش، في فضلة عمر. شكراً لك، يارأسي. جميل جداً أن يستعمل الإنسان رأسه. ولاسيما، في ساعات الضيق.‏

    بل كاد يشكر الخوف نفسه. بعد أن تحدّى كائناته. فهو المحرّض على اكتسابه هذه الشجاعة الفائقة!‏

    وظلّ يدمدم:‏

    -سأقهر كل وحوشك، أيتها الصحراء...‏

    ولايعرف كيف غابت عنه الأ شباح المتهشلة عليه. وتنجّرت روائها الكريهة. ثم شعّ الرمل بالضياء. لم يعد هناك ظلام متلبّد. وعطف عليه رأسه أكثر. فحينما دار حول السيارة.‏

    وجلس على سطحها. شعر أنه يعوم في مركب. أو تحوّل إلى صبّة رمل، أو نجمة....‏

    -ياه....! ما أجمل هذا الليل! وما ألطف نسيج الصحراء!‏

    وانهال يستاف الهواء .ويتملّى السماء، بعنا قيدها. أحس أنه انقلب إلى نشوة خالصة:‏

    -ياللعذوبة! ياللبهاء! العالم كله هنا. العالم سحر ليل. هسهسة رمال. وشوشة نسائم.....‏

    وتماهى كليّةً في حميمية المكان.‏

    - أواه....! ماذا أجدني أرى؟ أجل. أجل.، كنتم صحبة في غابر الأزمان، أيتها الصحراء.‏

    وبانت له مضارب الأجداد، من بيوت الشعر المغصوبة، فوق الرمال. تحفّ بها الواحات، ورسوم الأطلال. ويتعالى غبار الطراد، ويتسابق الفرسان على صهوات جيادهم. وينطلق صوت جهوري:‏

    "مكر مفر مقبل مدبر معاً.....".‏

    ويتلوه صوت آخر:‏

    "الخيل والليل والبيداء تعرفني....".‏

    ما هذه الجلسة الصيفية البديعة، في هذه الصحراء، يارأسي؟‏

    وانجرف سلمان البصير، بطوفانه الروحي هذا أكثر فحين ضاعت عيناه في صحن السماء. وتشابكت في داخلهما خيوط الرؤية. صاح:‏

    -" أنا اصعد..... أنا أصعد....".‏

    شعر أنه أصبح مثل روّاد الفضاء. وصار يعلو فوق صحراءه، شيئاً فشيئاً. دون بساط ريح... دون "كبسولة". أو قمر اصطناعي:‏

    -" أنا وصلت إلى سدرة الفضاء. وأغوص في رمال السماء. كل كروم النجوم، في متناول يدي. أين الجوزاء؟ أين الفرقدان؟‏

    بل أين العنقاء ذاتها، التي هربت من أجدادي.....".‏

    وظلّ يهمهم، وهو سابح في معراج رحابه. إلى أن بزغ نور أشقر، كالبرتقال. لبث هنيهة في عينيه. ثم أخذ يصطبغ بالبياض، كخيط من الحليب.‏

    هاهو ذا الفجر!‏

    ثم،‏

    هاهي ذي الشمس، تظهر على شفة الأفق جمرة متّقدة! إذن،‏

    هاهو ذا "الشرق"!‏

    وعلى سطوع نور الشرق. عاد سلمان البصير، واهتدى إلى طريقه. فأدار محرّك سيارته وتابع سيره.‏

     

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()