بتـــــاريخ : 10/15/2008 9:15:26 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1070 0


    توثيق افتراق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. رياض الأسدي | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة توثيق افتراق

    ثم افترقنا.

     

    من شقّ طولي متعرّج حدث بفعل امطار السنين الغابرة في سور (ذاري) القديم ،خرج ، في عملية اعتيادية ليلية بعد أن راه عدد من المارة الذين لم يعيروه أهتماما فقد أعتادوا السير مسرعين في مثل تلك الليالي التي غاب فيها القمر والنجوم على حدّ سواء . لكني ـ وتلك واحدة من عاداتي السيئة ـ توقفت على حين غرة ، وراقبت خروجه الفريد من البداية حتى قيامه بنفض التراب العالق عن عمته وجلبابه الثلجي . ومن اجل الحقيقة وحدها ، فاني لم اجد في الوقت نفسه ، أيضا ، ثمة انبهار ما من رؤيته لاْول مرة ، إذ لم يترك لي الليل الاْسود الغريب ذاك أي مجال للتفكّر انذاك . وبدت الصحراء الممتدة قبالة السور منذ تلك اللحظة لانهاية لها.

    ـ هل يمكننا ان نتحادث؟

    ـولم؟

    ـ انا رأيتك!

    ـ من الصعب أن انسى .

    هدنقة ، كان أسمه . لم اكن قد سمعت بهذا الاْسم من قبل ، كما اني لم أجرؤ على سؤاله عن معناه ؟ وبدا ، وهو يلملم رداءه كمن خرج من جوف بئر ناضبة . كان يعرفني على نحو تفصيلي دقيق : ساْلني عن ابي وامي وأعمامي وعماتي وأخوالي وخالاتي وأصدقائي وزماني . ثم التفت نحو السور كمن يودعه الوداع الاْخير ، ثم أشاح بوجهه صوب منارة جؤجؤ السفينة ، وقال :

    ـ أراها تبحر وسط عاصفة غريبة .

    ـ في هذا الليل؟

    ـ في هذا الليل .تبعته مثل خادم ، ولم يلتفت الي مرة واحدة . سار كمن يعرف ما وراءه دائما" . ينقر بعصاه الاْرض الرملية في كل انعطافة . لم أر وجهه قط . كان صوته منذ الدقائق الاْولى للقائه هو الباقي ؛صوت أجش يأتي في أحلام الظهيرة غالبا" .

    ـ ها أنت تتبعني مرة أخرى

    ـ مرة أخرى؟!

    ـ اجل . وفي كل مرة تريد أن تتعلم مني .

    ـ لاأفهم .

    ـ دائما" ؛لاتفهم .

    ـ من أي زمان أتيت ؟ وأي أرض حملتنك الينا ؟

    ـ الم أقل لك …

    انما سميت بهذا الاْسم لاْنها تدنو من البحر وكثرة الاْشجار فيها ، ورأيت أيضا": أنها محض منخفض واسع يغص با لمياه مدّة طويلة من السنة ، فتهبط الاْرواح الآتية من اماكن نائية، مجهولة؛ أولم تر مثلي أن الماء كان كل شيْ منذ البداية ؟وكانت الزروع بعدها خضرا" متماوجة ومتداخلة كأنما الجنة؟ إما أمواج البحر فهادرة غاضبة. هل فهمت؟

    ـ لا .

    ـ ولد ابله!

    يا من تتبعونني في كل مكان اقمت فيه ؛في اروقة ورّاقي الحيرة، قلّة الصفا، هناك، أو في الوديان والواحات لجمع الروايات والأحاديث والاشعار ؛عملت كل ذلك في زمان واحد .تلال البيادر الذهبية المغرية، والجياع في المدن والربط والامصارؤ .سنابك الخيول النارية في ليالي حصى البوادي الساكنة. أما الأسواق؛ الفارسيات والروميات والبربريات والحبشيات .وما اقل درايتي وما اضعف حيلتي ، يا ولدي .اووووووه .

     

    ثم افترقنا .

     

    عندما خرجت من أجمات الجزر البعيدة في بحر العواصف ؛ هناك ، شيّعني قومي حتى اخر الساحل ، وقد صنعوا لي طوافا" وزودوني بالماء والطعام لمدّة . بكوني بدموع حرّى ، ونثروا حولي البخور الهندي وهم يرقّصون الصدور ويهزّون العجيزات السود ، عيونهم بيض وآذانهم ذهبية لماعة ؛ ولله في خلقه شوؤن . طبولهم جذوع النخيل الهندي وبيوتهم أعالي الشجر . ولااعرف حتى هذه الساعة لم لم يجعلوني طعامهم ،وما السرّ في اختياري ملكا" لهم ؟ عشت معهم سبعمائة عام بالتمام والكمال ، وكل ما أستطعت تعليمه لهم في كل تلك القرون: أن جعلتهم يدفنون موتاهم ولا يأكل بعضهم بعضا .. لغتهم الاْيماء وتحذيرهم صراخ القرود. لا اسم لهم. لكن كل ذلك هو ما كان من امرهم وما عرف من خبرهم ، وماكانوا عليه، وما كنت معهم، وطبّقت بيتا" على بيت وتر كتهم والسلام. قلت :

    ـ رحلة عجيبة .

    ـ الأعجب امرنا ؛ لكن لكل صحراء عجوب .

    ـ وما العجوب ؟

    ـ ألم اقل لك انك كثير الاسئلة ،قليل الاجوبة ،سريع التعجّب ، قليل الحكمة .

    ـ وماذا أفعل ياجداه ؟

    ـ لاتنادني بهذه الكلمة قط .

    ـ وبم أناديك اذا" ؟

    ـ هدنقة ؟

    ـ أريد ان أسمع منك نهاية رحلتك وما حدث لك في البحر ؟

    ـ وأريد منك ان تعلم باني لم أغادر هذه المدينة في حياتي .

     

    ثم افترقنا.

     

    تحت بساط عرب أحمر قبعنا ، وقصف الرعد لاينقطع . كان طرفا البساط متاكلين مما اضطرنا الى ان نلتصق ببعضنا حتى بدونا وكأننا جسد واحد .تعود ملكية البساط اليه ، فقد اشتراه في يوم مغبر من " سوق الشيوخ " لكي يأوي فيه في الليالي الماطرة الحزينة وسط عراء الصحراء ، وهو ، على أية حال صمّم على مقاسه . وعندما أصبحت تابعا" له كانت اطرافنا عرضة للريح والمطر والبرد . وفي ليلة باردة بالقرب من بحيرة " أم قداحة " أعلنت انتسابي اليه وسط ألسنة المواد الفسفورية المتطايرة التي تقدح عن بعد وفي مرمى النظر . كنت لما ازل في السابعة من عمري ، وهو ، رجل يصعب عليّ تحديد عمره ، لكنه ، وكما خيّل لي انذاك قد جاز مائة عام .

    ـ شاب مزعج !

    ـ وماذا يمكنني ان افعل ؟

    ـ بأمكنك ان تلحق بمن تشاء من الناس .

    ـ لاأعرف غيرك .

    ـ ما أنا الا عجوز طحنته السنون .

    ـ أعرف .

    ـ ولاأملك الا بساطا" متهرئا".

    يحدث البرق النازل على المياه الهائجة ثورة من الاْعمدة الملونة المتطايرة ، مثل عيد ، والريح قوية ، مبهمة أحيانا" ؛ لكنها تخبر هدنقة بأشياء محددة مما كان ،ولم أسأله عنها ؛ لكني سمعته يتهدج بكلمات لغة قديمة ـربما كان يدعو أن تكفّ العاصفة عن تحدياتها أو يصلي بطريقته ؛ كنت أرتجف تحت أبطه كطير مبلّل ومريض .

     

    ثم أفترقنا

     

    ـ تركتني وحدي.

    ـ لكي تتعلم ، ولكي ترى .

    ـ أي جدّ غريب أنت ؟!

     

    ثم أفترقنا .

     

    ابار نفط ناضبة .أبراج حفر متوحّدة ومهملة وسط كثبان رملية كثيفة .مدينة مهجورة : الاْبواب مفتوحة والشبابيك مشرعة ، ولاشيْ في البيوت غير الرمل والريح .. عادت العقارب والحيات والسحالي الى مواطنها . هدنقة يقف في جزرة وسطية مليئة بالعاقول ونباتات الصبار . يسير حافي القدمين كما رأيته لاول مرة ، ينفخ الهواء الحار جلبابه حتى يكاد أن يرفعه من الاْرض . لم ّتكن مجرد ريح ؛ الريح أعرفها ؛ كانت قبّة صفراء ، ما ، من غبار اصفر مميت ، اتّسعت على نحو مبهم في الفضاء القريب وبدأت تزحف نحونا . لم ار ولم أسجل مثل هذا الشيْ في كلّ رحلاتي الكاذبة والصادقة . ولم أعد أسمع صوت هدنقة وانا احاول اللحاق به . أركض أركض . نار حمراء في السماء ، نار صفراء في السماء . وما نفع الركض بعد ذلك ؟ كلانا هوينا في بئر مياه قديمة .

    ـ هل تسمعني ؟

    ـ أسمعك .

    ـ أين انت ؟

    ـ لاادري.

    ـ ما

    كلمات مفتاحية  :
    قصة توثيق افتراق

    تعليقات الزوار ()