بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:28:11 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1104 0


    غرفة رقم 13

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حـنـان درويـــش | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كان يحدجها بشكل مريب.. نظراته غير محبّبة، وكذلك ابتسامته ذات اللون الفاقع، وطريقة شربه للشاي ووضع اللفافة بين شفتيه الغليظتين، والنكات السمجة المرافقة لقهقهاته، وقهقهات الشلّة من حوله، والكلمات المقصودة التي يرميها بها بين الحين والحين.‏

    حملت ندى أشياءها ونهضت دون أن تلتفت إليه.انتحت جانباً آخر من البهو الكبير. جلست تتصفّح جريدة كانت بحوزتها....‏

    الكلُّ من حولها يصخبون، يشوّشون.. أقدامهم تروح وتجيء، تغادر وتدخل.. تصعد أدراجاً، تهبط أدراجاً.. وحديث مبعثر عن هموم الأدب بشكل عام.‏

    هذا اليوم للتعارف فقط، ومنذ الغد يبدأ برنامج المهرجان الذي أعلنت عن إقامته جريدة السؤدد الفكريّة تشجيعاً للمواهب والإبداعات.‏

    الرجل ذو الابتسامة الفاقعة، لم يدع ندى وشأنها، ترك شلّته ونكاته، ولحق بها منضمّاً إلى شلّة أخرى قريبة منها. رفع صوته بالحديث كي يشدّ الانتباه ... واجهته بعدم الاكتراث كحالة لاتعنيها.بعد قليل جاءت صديقتها سمر، وكانت قد غادرتها لبعض الوقت. ألقت التحيّة وجلست.نُبّهت بصوت خفيض إلى ثقيل الظلّ الذي يجاورهما.‏

    - لاتنظري إليه، ولا تعيريه أيّ اهتمام.. فهو يلاحقني منذ أتيت.‏

    ضحكت سمر ضحكة ساخنة، ولم تعلّق بشيء.‏

    تابع" سلطان"- وهذا هو اسم حبيب الغفلة الذي لايملك من اسمه أيّ نصيب - تابع استعراضه وفضوله، وحركاته البهلوانية، ومضايقاته التي لا تنتهي.. فأينما يّممت ندى وجهها كانت تراه قبالتها، ينشر ضمن مناخها ذرّات الدبق والاشمئزاز، ويحيط دائرتها بكابوس مقيت، ظانّاً أنّه خفيف الوقع على الآخرين، وهو بالتأكيد.. من أكثر المخلوقات التي ولدتها الأمّهات فظاظة... وعند تذكّر الأمّهات تواردت لذهنها صورة والدته، فرثت لحالها، مستغربة كيف استطاعت هذه المرأة أن تلد مثل ذلك الطبل المتحرّك.‏

    - غداً سأقرأ قصّة لم تسمع بمثلها.. لابدّ أنّها ستعجبك وتعجب الآنسة.‏

    أعرضت بوجهها عنه، وهو ما يزال يقترب منها، بينما يخاطب زميلاً له. زكمت أنفها رائحة تبغه الممتزجة برائحة عطر كريه. هربت على الفور إلى الحيّز الذي يعلّقون فيه مفاتيح الفندق. ناولها الموظّف مفتاح غرفتها التي طالما ناورت كي تمكث فيها وحدها.‏

    خطواتها السريعة على الدرج تعقّبتها خطوات لها وهج المباغتة والاقتناص.‏

    كانت الغرفة مرتّبة جميلة... وأجمل ما فيها أنّها تطلُّ على البحر مباشرة. تنفّست الصعداء.... بينما عيناها تقبّلان الليل المسفوح أمامها بحبّ ورغبة..يعانق البحر أعماقها، يمحو قرفها وقزازة نفسها....تشعر بالأمان... البحر عظيم قوي، وهي لاتحبُّ سوى الأقوياء. ترفع هامتها، تتطاول قامتها، طرق خفيف على الباب.‏

    - من..؟.‏

    وظنّتها سمر جاءت تشاركها قهوتها برفقة البحر..‏

    لكنّ القادم لايجيب، يتدثرّ صوته بشوك الصمت.‏

    توالت الطرقات، وتوالى تهدّج الدهشة، وسيطر على الجوّ تحفّز من نوع خاص... وفوراً تنبّهت، توثّبت مثل لبوة.. تذكّرت الخطوات الطائشة التي تعقّبتها على الدرج.‏

    -" لابدّ أنه سلطان.. ترى، ما الذي يبغيه هذا الأهوج؟".‏

    استلقت فوق السرير. أسلمت نظراتها إلى تشاغل متعمّد توزّع بين الأثاث البسيط، والستائر الزرقاء، وحدقتي الليل المتسّعتين‏

    ماذا ستفعل ؟ وكيف تواجه ذلك المتسلق جدار أوهامه؟... هل تفتح الباب؟.. أم تنتظر أن يملّ ويمضي لحاله؟.. وإذا لم يفعل.. هل تتشبّث بالصراخ؟.. ومن يسمعها سوى فضاء الغرف الخاوية؟.‏

    أطبقت جفنيها على قلق وحيرة. نازعتها أفكار مرعبة، وهموم شديدة العصف كنوء غادر.‏

    " ربّما لم يكن سلطاناً.. ربّما كانوا آخرين على شاكلته.."‏

    تقاطرت الأشباح البشعة إلى مخيّلتها، تواردت متقاربة متباعدة، متآلفة متنافرة، جاءتها من عطفة العمر، فأصبح الوقت بلون الرماد.. هي الهاربة ابداً...الباحثة عن حضن أمان.. عن صدر تسفح على مساحته غصاتها، وتلقي بين ضلوعه بقايا وجع.‏

    - دق.. دق.. دق.. دق‏

    لم تعد ندى تجيب. ابتلعت الكلام ومعالجة الحروف.‏

    غيّبت معالمها ونهايات أطرافها. تغلغلت بين الغطاء والفراش. انزلقت إلى أسفل.. بينما صفير الفراغ، وصرير الأبواب، وأنين الرهبة يتسّرب إليها مع الطرق اللحوح. ينفذ إلى خلايا تفكيرها، يخترق حرمة أعماقها. يرسم أشكالاً هيكليّة لأشخاص حاربوا صباها، وحاصروا بواكير تألّقها، وأجمعوا مع القبيلة على وأد بزوغ فجرها .... فيوم نمت في قلبها فكرة الخروج من المستنقع قالوا:‏

    " يجب أن تبقى هناك برفقة الجنادب وضفادع المياه الآسنة"...‏

    ويوم عرفوا دبيب الإنسان في دمها، دعوا لاجتماع عاجل أسفر عن قرارات معيّنة.‏

    حين تذكّرت شخوصها تلك، تذكّرت قتلة ومجرمين وسارقين وسفّاكي دماء.. وقرأت شيئاً مهمّاً في سفر تاريخهم.. فهم من الذين لايتباهى الزمان بهم، ولا تعترف بأمثالهم سوى الغابات، وحفلات التنكّر، والزيف والأقنعة.‏

    " لابدّ أنّهم وراء هذا الحاضر، يحملون خناجرهم وسكاكينهم...سيمزّقونني إرباً، ويقذفون بي إلى حيتان البحر.... ايّها البحر، إغسل أحزاني وأدرانهم، فأدرانهم مرض عضال مستحيل الشفاء.".‏

    شعور الاختناق يخاتل أنفاسها، وحالة الاستعداد للمواجهة بدأت تتسلّل إلى أوصالها.... فالساكن خلف حدود الصمت لم يصمت.. ما زالت يداه تضربان رأسها مثل مطارق متوحّشة، ما زال يؤكد لها بإصرار مطلق على ثباته، وعدم تراجعه.‏

    حملت أشلاء قامتها.. نهضت.. مشت على رؤوس اصابعها.. تلمّست طريقها المصبوغ بالخوف، لم تصدر أيّة إشارات توحي باتجاهها إليه. ألصقت عينها بالعين السحريّة المثبّتة بقامة الباب على مستوى النظر...رأته.. أجل رأته.. كان وجهه أكثر بشاعة ممّا توقّعت، تتجاذبه الجهات الأربع، فيبدو مستطيلاً، ثمّ مستديراً، ثمّ مربّعاً، ثمّ يتلاشى رويداً رويداً حتىّ يمحي تماماً.‏

    ناوشتها مشاعر جديدة مستعصية على الفهم.‏

    استنجدت بالبحر، مدّت إليه إحدى يديها، بينما أصابع كفّها الأخرى تحاول معالجة المفتاح على عجل.‏

    في تلك اللحظة، وبشكل غير متوقّع.. هبطت إليها من علٍ سلة فيها انفراجة مفاجئة دعّمت موقفها.. فقد وافاها الواقع بأنباء تشير إلى أن الجميع قد بدأوا بالتوافد إلى غرفهم بعد أن داعب الوسن الجفون....‏

    " تصبحون على خير"‏

    " تصبحون على خير"‏

    عانقت وجهها ابتسامة يتيمة، وهي تنصت إلى تبادل عبارات الوداع قبل النوم. تشجّعت من جديد. اندفعت إلى الأمام بكلّ هياجها وما بين لحظة ولحظة، كانت ندى قد وجدت نفسها أمام الرجل.. الشرر يتطاير من إهابها، والنار تنبعث من أصابعها الجائعة للالتهام.‏

    " سأنشب أظافري في وجهك.. في عينيك.. في قلبك.. في.. في.. في.. ".‏

    ويا للمفاجأة التي جمدّتها، ولملمت شظايا جنونها..‏

    فلم يكن بالباب سوى شاب رقيق العود، خافض الرأس، مغضّ الطرف، يحمل حقيبة سفر سوداء، ويضع على عينيه نظارة طبيّة ذات عدستين سميكتين، بينما غبرة السفر تغطّي مساحة وجهه النحيل.‏

    تفرّست معانيه الباهته. مسحته بنظرة شاقوليّة جيئة وذهاباً.. العرق يتفصّد من جبهتها، والفتور ينال من أطرافها.‏

    - عفواً آنسة.. هذه الغرفة غرفتي‏

    - ومن أنت؟..‏

    - أنا شاعر، وقد وصلت لتوّي من محافظتي البعيدة.‏

    صمتت برهة خالتها دهراً.‏

    - وما هو رقم غرفتك؟..‏

    رفرفرف برموشه.. قال متلعثماً، والحروف تكاد تسّاقط من بين شفتيه.‏

    -31..‏

    - لكن هذه الغرفة رقمها 13........ انظر‏

    رفعت يدها مشيرة إلى اللوحة النحاسيّة المسمّرة على الباب. قرّب الشاب ذو العدستين السميكتين وجهه من اللوحة.. ألصق عينيه بالرقم تماماً....‏

    ابتسم، ثم مضى ببرود يفتّش عن غرفته

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()