بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:41:40 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 882 0


    لن أشعل النار ثانية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ماري رشو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    لاح الجدّ في طرف الممشى الترابي.. خفق قلب مدى. أسرعت تركض نحوه مبتسمة.‏

    مسح رأسها محتفظاً بابتسامته. كانت فرحة ومتحفّزة في آن واحد. تذكّرت أفراد الأسرة الذين يحبّونه ويحتفظون أمامه بالجد. تذكّرت حديث أمها وخوفها على صحّته، وقرارها بزيارة القرية التي تبعد عن المدينة بضعة كيلو مترات والتي يقطنها الجدّان، ولا يغادرانها إلا في المناسبات.‏

    ردّدت بحب وبراءة قائلة:‏

    ـ ألست مريضاً يا جدّي؟‏

    ابتسم. مسح فوق رأسها بسعادة. أجاب:‏

    ـ قليلاً..‏

    ـ ألا تخاف البرد يا جدّي؟‏

    ضحك. رفع الشال الذي حاكته الجدّة ذات شتاء إلى كتفه. وقال:‏

    ـ هذا البرد يحمل إلي المداعبة.‏

    بدت منهمكة وهي تتابع مؤكّدة:‏

    ـ قالت أمي إن البرد يضرّ بكّ!..‏

    ضحك. تساءل بتحبب:‏

    ـ وماذا قالت أيضاً يا مدى؟‏

    ضحكت. ردّدت:‏

    ـ أنت لا تفكّر بالراحة. تعتقد أنك شاب.‏

    ضحك الجد أكثر. بينما مدى تراقب ثيابه الخاصة بالعمل، وتنهمك بإزالة بعض بقع الغبار عن أطراف سترته. ردّدت بطريقة تشبه اللوم قائلة:‏

    أمي غاضبة لأنك لا تتوقّف عن العمل.‏

    ردّد بثقة:‏

    حين أعمل أصبح شاباً، فأهزم المرض.‏

    أخذ بيدها وسارا. قطعا الطريق القصيرة على مهل. كانت مدى تراقب قدميه وهما تتحاشيان الطين. تعتلي الحجارة المرصوفة التي تتلقّى خطوات الجد بصداقة محببة، وعلاقة ودّ طويلة. اتجها نحو زاوية البستان، حيث أقام منشأة صغيرة لصنع حجر الخفّان.‏

    لم يمض وقت حتى كانا بين العمال. دبّ هرج قصير الزمن. بعض العمال يرحّب بهما. ابتسمت. إنهم أصدقاء جدّها. راحت تراقب عجينة الرمل والحصى وهي تخرج قوالب طريّة، وتنشر متباعدة ريثما تجف، وتفكّر. كيف ستمضي النهار؟ وتتسلّق الأشجار؟ حيث تنظم بين أغصانها المساكن، وتقيم مآدب التين الأخضر، شعرت فجأة بالفرح. تذكّرت مقام الشيخ (عبدالله).‏

    يمسح الجد رأس مدى، يجيبها على كل سؤال. قال:‏

    ـ كان الشيخ عبد الله رجلاً مميزاً.‏

    تتضخّم الصورة في رأسها الصغير. يسحبها الجد من الشرود قائلاً:‏

    ـ اختلف عن الآخرين بنهجه للحق والخير والصدق. كان يهتم بالجميع، ويحب الجميع، خاصّة الأطفال.‏

    أجمل الأيام تلك التي تقضيها مدى في القرية، تمنّي النفس بعطلة مميّزة، فتخضع مع أمها لحوار حول المدرسة والاجتهاد، وتفوّق يرتبط مع تحقيق الأحلام. تحزن أحياناً أو تغضب، غير أنها تقول دائماً:‏

    ـ سأنجح وأتفوّق وأذهب إلى القرية.‏

    يقع بيت الجد في أجمل مكان في القرية، أو هكذا تراه مدى تستلقي في ساعات القيلولة أمام فسحة الدار الواسعة، حيث تتدلّى دالية العنب بإغراء لافت، فيخطر لها قطف بعض الحبّات الحامضة، وتدرك أن الجدّة التي حفظت عدد العناقيد ومواقعها ستنهرها بشدة. تضحك من أعماقها وتسترسل في التفكير، أو ترسل بصرها عبر الفراغات، أجمل ماكان يروق لها في ساعات الهدوء تلك اللحظات الصامتة. تبحر عبر السماء الممتدّة. تعيش المواعيد الجميلة قرب غيمة أو أكثر، فتعبق النسمة من حولها بعطر الورد والياسمين، وتهبّ من الطرف الآخر للبستان رائحة بخور... تتذكّر ضريح الشيخ عبد الله. تنهض. تفكر بزيارة سريعة إلى هناك.‏

    كان الصيف حاراً،وأشعة الشمس محرقة، شعرت بسعادة وهي تتفيأ في ظل شجرة، فقد حملت لها تلك الوقفة مزيداً من الأفكار، إذ اكتشفت وعلى مساحات متفرّقة مزيداً من النباتات والأعشاب اليابسة، متجمّعة حول الضريح وبين الأشجار، وخلال وقفة صغيرة حمّلت نفسها، مسؤولية جلب البهجة إلى المكان. لم يطل الوقت حتى راحت تلبّي أهم قرار أملاه تفكيرها، مندفعة إلى قلع مايحيط بالضريح من عشب ونباتات، تمنع عنه‏

    الجمال والتميز.‏

    باءت محاولاتها بالفشل. لم يمنعها ذلك من التمادي، ازدادت صلابة أمام تصلّب الأعشاب، معتقدة أن الدفاع عن جمال الضريح، جزء لا يتجزّأ من إيمانها بعظمته، وما تلك المقاومة، سوى نوع من تجربة، تنتهي باختبار هام، يحقق صدق مشاعرها. كان لابدّ من التفكير، فتمهيد الأرض وتنظيفها أهم أمر. سخّرت عقلها وذهنها، إلى أن تحقّقت الفكرة، فأشعلت عود ثقاب في أقرب يباس حول الضريح.‏

    لم يطل الانتظار، تعالت صيحات النار تعلن عن نهم وجوع شديدين. شعرت برعب، المكان ينذر بالغضب، بالعقاب، نار تبتلع الجذوع والأغصان، صدى وأصوات، ركض ورجال، الجد، العمال. الأطفال. النساء.، وكلهم يهرعون لإخماد النار، تصاعد خوفها. هربت. سقطت في فراشها، وكأنها تغطّ في نوم عميق.‏

    نادها الجد حين عودته، بدا مجهداً، منهكاً، اقتربت مطرقة الرأس. قال:‏

    ـ أخمدنا الحريق. خفنا من امتداد النار!‏

    لم ترفع رأسها. تابع:‏

    ـ كان عملاً ضرورياً!‏

    لم تحرّك ساكناً. غير أنها تساءلت بعد برهة:‏

    ـ أي عمل يا جديّ؟‏

    ردّد واثقاً:‏

    ـ نزع الأعشاب اليابسة.‏

    تابع:‏

    ـ إنهم يبحثون عمّن أشعل النار. إنه حتماً من الجوار.‏

    لم تجب. تابع قائلاً:‏

    ـ إنه الطمع.‏

    لم تجب أيضاً. تابع:‏

    ـ يحرقون الغابة بغية توسيع أراضيهم!‏

    توسّعت مقلتاها.. نظرت نحوه بدهشة.. ردّدت بعفوية؛‏

    ـ لا ياجدي!‏

    ـ قال:‏

    ـ هذا ما أعتقده!‏

    صمت. كانت تستمد الجرأة. تساءلت بصوت خافت مشوب بالخوف متسائلة:‏

    ـ ماذا سيحدث للفاعل يا جدّي؟‏

    بدا جاداً. ردّد:‏

    ـ يعود ذلك لدوافعه.‏

    تجزّأت. قالت:‏

    ـ كان يقصد خيراً.‏

    ردّد بطريقة أقرب إلى المزاح:‏

    ـ تبدين على معرفة به!‏

    قالت بخوف:‏

    ـ لا.‏

    غادرها قائلاً:‏

    ـ انتهت مشكلة الحريق. نحن ننتظر اعتراف الفاعل.‏

    لم تلحق جدّها كعادتها، جلست تنتظر المساء. تستعيد زياراتها للقرية الجميلة. حبّها للأرض الممتدّة. لساعات اللعب. حواراتها مع جدّها. ذكرياتها قرب الضريح. فكّرت بالحريق.تراءت الصور. الناس. الجد. العمال. النار. الخوف. الهروب. طمع الجوار. قفزت ذكرى الشيخ عبد الله. كان يحب الأطفال. يحب الصدق. إنهم ينتظرون الاعتراف. كانت تقصد خيراً، وكان في أعماقها شيء يشبه القرار، يكبر وينتظر.‏

    ذلك المساء. عانقها الجد بعد حوار طويل بينهما، وبعد أن نقل لها كل فكرة راودته خلال أحداث النهار. كان موقناً من أنها التي سبّبت الحريق، وواثقاً من اعترافها، غير أنه أراد امتحان مقدرتها على الصدق أولاً، ثم نفي الرعب من عينيها، وهو يستمع إلى صوتها جريئاً، قوياً، وبلا خوف.‏

    كانت هادئة، بينما ترن في سمعها، آخر الكلمات، وهي تردّد بصدق:‏

    ـ لن أشعل النار ثانية.. أبداً يا جدّي

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()