بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:53:10 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 2024 0


    دفاعاً عن الوطن

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أبو العيد دودو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    عاد من عمله متعباً، وبعد أن اجتاز باب المدخل، لاحظ ورقة تبدو من الثُّقْبة المستطيلة في صندوق بريده، ففتحه وأخرج منه ظرفاً، بدا عليه أنه ذو طابع رسمي فتوجس خيفة منه. لقد كان دائماً يخشى ما تتضمنه مثل هذه الظروف سواء أكانت من مركزالبريد والهاتف أم من دائرة من الدوائر الرسمية، وذلك لما كانت تفاجئه به عادة من أمور لم تكن مما يريح باله ويطمئن خاطره..‏

    كما لو أن هناك طالعاً سيئاً يترصده دون هوادة كلما تعلق الأمر بما يرد إليه من رسائل. وفتح الظرف بسرعة، وإذا بمحتواه مطابق تماماً لما توجسته مشاعره الخائفة، لقد تضمن شيئاً لم يكن يتوقعه إطلاقاً: عليه أن يلتحق بخدمة العلم لصد عدوان دولة مجاورة تخطط لاجتياز حدود وطنه.‏

    وتحامل على نفسه، وصعد السلم على مهل، وقدماه لا تكادان تحملانه لفرط مااعتراه من هم وقلق، وسرحت به أفكاره بعيداً حتى اعتراه مايشبه الشرود، ولم يعد إلى نفسه إلا حين لاحظ أنه اجتاز الطابق الثالث الذي يسكنه. فرجع أدراجه، ودق الجرس، ففتح الباب واستقبلته زوجته وأطفاله بفرحة كبيرة، ولكنه لم يجلس معهم طويلاً، فاستأذنهم ليستريح قليلاً مما يشعر به من تعب، وكان يعاني فعلاً تعباً على تعب، وانسحب إلى مكتبه، وتمدد فوق الفراش، الذي ينام فوقه ابنه ليلاً، وأغمض عينيه لا لينام، فقد كان يعرف ذلك سابقاً، وإنما ليسرح وراء شريط أفكاره ماضياً وحاضراً.. ولا مندوحة عن التفكير في ظروفه وظروف أهله مستقبلاً أيضاً.‏

    كان حميد قد تزوج، أيام دراسته بأوروبا بأجنبية، وأقام معها في بلادها ما يقرب من عشر سنوات، ولكن فكره كان يعيش به دائماً في وطنه، لم يتخل عنه أبداً، حتى لم يكن في أيامه مايلهيه عن ذكره والحنين إليه لحظة واحدة، كان يعيش أحداث وطنه السياسية، وقضاياه الاجتماعية من خلال الصحف التي كان يرسلها إليه بعض أصدقائه فيه من حين لآخر رغم طول سنوات الغربة. ولذلك كان يقلق زوجته على الدوام بحديثه عن العودة إلى وطنه الذي ينتظر من شهادته العليا وكفايته الكثير في حقل الأدب والثقافة والمعرفة. وكانت زوجته ترفض مثل هذا الحديث، لأنها كانت تعرف أنه ينتمي إلى عالم وصف بالعالم الثالث تأدباً، إذ هو في الحقيقة يتجاوز هذا الرقم عند المقارنة- والمقارنة أساسها الفكر والعلم والاختراع- بدرجات أخرى على ماله من ثروات مادية. وكانت قد زارت معه وطنه ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت تزداد اقتناعاً بأن وطنه لا يزال خاضعاً للروح القبلية، متمسكاً بالتقاليد القديمة البالية المعادية للعلم والعمل والتقدم، سهل التقبل لكل ماهو أجنبي جاهز. وكل هذا جعله يرى أن الحياة في منطقه وعرفه لا تفضي به إلى أي غاية أبعد مراماً وأكثر نفعاً بالنسبة إليه في العصر الحديث بكل مكاسبه واختراعاته.‏

    على أن هذا كله لم يكن ليحول بينه وبين العودة إلى وطنه، فقد كان يتصور أن كيانه كله بما قد يحتوي عليه من ذخائر علمية أو أدبية أو فكرية أو غيرها ملك لوطنه وحده. وهذا ينطبق أيضاً على ممتلكاته الأخرى ومنها زوجته وأطفاله، فقد كان له منها ثلاثة أطفال، كان يحس فيهم رائحة الوطن مع أنهم ولدوا كلهم في الخارج. وكانت زوجته تحبه أبعد الحب. وكانت تريد أن تحتفظ به وبأبنائها، ولذلك قررت أن تسافر معه أو تلتحق به إن هو أصر على العودة إلى وطنه بشكل نهائي، فما كانت لتريد أطفالاً بلا أب على الرغم من حبها لوطنها ورغبتها الكبيرة في العيش فيه، لا لأنها كانت هي نفسها تريد أن تحيا حياة سعيدة، فلا سعادة لها من غير زوجها، وإنما كانت تريد أن تضمن لأبنائها مستقبلاً زاهراً هادئاً في كل الظروف والأحوال.. وذلك ما لا يستطيع العالم الثالث أن يضمنه لأحد. فأبرز سمات هذا العالم الانقلاب والثورة والأحلام والموت.‏

    وجاء اليوم الذي عاد فيه فعلاً إلى وطنه بما يملك، ولم يكن يملك غير كتبه الأجنبية - وبعض الكتب العربية- وآماله ورغبته الصادقة في العمل والبناء على قدر ماتسمح له بذلك إمكانياته الذاتية. وتبعته، هي زوجته، مع أطفاله بعد شهر، وعاش مع أسرته في وطنه، فعرف الجوع والتشرد والألم والعذاب والقهر والهوان، واحتملت كل ذلك معه سنوات، أنجبت له في إحداها طفلاً، أراده أن يرى الدنيا فوق تراب وطنه، ويشرب ماءه، ويستنشق هواءه وتغمره أشعة شمسه الرائعة، وكان يريده ذكراً أيضاً، ولكن المولود كان صبية ذات عينين تشبهان زنبقتين مائيتين، وكانت هاتان العينان تشبهان من ناحية أخرى عيني أبيه، الذي مات وهو لما يزل طفلاً صغيراً، بناء على ماحدثته به والدته.‏

    ولم يكن ذلك يعني أن حياته قد تغيرت، فقد استمرت على الوتيرة نفسها ، فيها الألم والفرح، والسعادة والشقاء، والحياة كثيراً ماتحلو بعد فترة من فترات الشقاء حتى إن هي لم تدم طويلاً، فقد ترقى خلال ذلك في منصبه الجامعي واستقرت وظيفته، وأصبح عضواً في منظمة وطنية، لأن ثقافته كانت مما يسمح له بذلك في ظروف معينة شبه إلزامية.. يقبل بها المرء خوفاً من الضدية وتهرباً من كل ماقد يترتب عنها من مشاكل هو في غنى عنها، وماله على أية حال طاقة بها لا مادية ولا معنوية،' وكانت العضوية فيها شرفية على الإطلاق.. شبه إضاعة لكل وقت ثمين، وقد كان هو ممن يحرصون على أن يخصص الوقت لمايفيد إفادة حقيقية، تتجاوز اللقاء المحض والاجتماع الفارغ.‏

    وقبل أن تبلغ ابنته العامين، حدثت مشكلة مع دولة مجاورة، ووقع في القضية الكثير من الأخذ والرد، ولم تُفْض المفاوضات والتدخلات إلى نتيجة مقبولة، ولاح في الأفق السياسي أن الحرب واقعة لا محالة، وهاهو اليوم يدعى إلى التجنيد للدفاع عن حدود الوطن، فكيف يخبر زوجته بذلك؟ هل يقول لها ببساطة.. إنه سيذهب إلى الحرب ويتركها في وطنه مع الأطفال؟ تُرى ماذا ستفعل بدونه.. وهي غريبة في وطنه لا معين ولا قريب لها فيه باستثناء عدد قليل من أفراد أسرته، وهم أعجز من أن تجد لديهم حلاً لأي مشكل كان.. ولكم هي كثيرة مشاكل عالم متخلف..؟ كيف يجبهها بذلك بعد حين؟ وهل يترك الأمر إلى وقت آخر؟ لا يزال لديه شيء من الوقت، فعليه الالتحاق بالثُّكْنة خلال خمسة أيام.‏

    هناك وقت كاف لإبلاغها هذا الأمر، وليعيش مع أسرته الأيام الأربعة القادمة، وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق، يعيشها أياماً تكون له ذكرى عزيزة غالية على نفسه ووجدانه. ولكن لم لا يحسم القضية فوراً، فيخبرها اليوم ويلتحق غداً.. ويمضي كالمتطوع بأيام ثلاثة من أجل الوطن أيضاً؟ ألم يكن التطوع أمله في فترة مضت من حياته؟ إذن لم التأخير والتأجيل والعذاب أياماً أخرى؟‏

    وبينما كانت هذه الأفكار والأسئلة وغيرها تتوالى على ذهنه، دخلت عليه زوجته، وجلست على حافة السرير، ووضعت يدها فوق صدره وقالت وهي تنظر في وجهه:‏

    - أرى أنك لم تنم رغم تعبك.‏

    فأجاب وهو يضع يده خلف ظهرها ويتكلف الابتسام:‏

    - حقاً ، إني لمتعب تعباً منعني النوم.‏

    فحركت رأسها حركة مَنْ لم يقتنع بما سمع، وقالت:‏

    - لا أظن أن التعب هو السبب وحده.‏

    حاول أن يطمئنها:‏

    - كلا. ليس هناك من سبب آخر.‏

    لكنها أصرت:‏

    - بلى. فهذا اليوم ليس من الأيام التي تتعب فيها في عملك.‏

    وعاد يحاول التهرب:‏

    - مامن اجتماع إلا وهو متعب.‏

    فاعترضت:‏

    - لم تخبرني أمس ولا في هذا الصباح أن لديك اليوم اجتماعاً.‏

    فقال متنهداً:‏

    - تعرفين أن الحضور وحده قد يكون مدعاة لعقد اجتماع طارئ.‏

    وابتسم دونما رغبة حقيقية وأضاف:‏

    - كل شيء عندنا طارئ... حتى حياتنا على نحو ما..‏

    ونظرت بعيداً وكأنها تستطلع شيئاً ما:‏

    - لدي إحساس يؤكد لي أن في الأمر ماتريد إخفاءه عني.‏

    ونظرت إليه، ثم استمرت تقول:‏

    - وملامحك تؤكد لي هذا أيضاً. وما أنت بمن يخفي عني أمراً. لم أعرفك على هذه الصورة، وإني لأعرفك -فيما أظن- بما فيه الكفاية، فاصدُقْني القول ولا تحاول مغالطتي.‏

    ولما لاحظت عليه شيئاً من التردد، قالت:‏

    - أظنك دُعيت إلى الالتحاق بالجبهة. أليس كذلك؟‏

    ففزَّ واسْتَوى قاعداً في الفراش، وسألها:‏

    - كيف عرفت ذلك؟‏

    فأجابت، وقد بدا عليها شيء من الحزن:‏

    - مقارنة سلوكك اليوم بما يتحدث به الناس، فلا حديث لهم سوى هذه الحرب الوشيكة الوقوع، فلا داعي للإنكار إذن.‏

    ولم يجد بداً من أن يؤكد لها ما توصلت إليه بنفسها، وقد خيل إليه أنها ستبكي وتندب حظها، وتعاتبه على المجيء بها إلى بلد كل شيء في موقعه متوقع، وكل شيء في محيطه مشروع.. يخضع لقوانين ومواصفات أخرى محلية قد لا يتسع ذهن متحضر لفهمها وإدراك خفاياها وبواعثها، غير أنها لم تلتجئ إلى شيء من ذلك، وإنما أطرقت قليلاً، وراحت تفكر ونظرها ملصق بأرضية الغرفة، ثم قالت:‏

    - على كل إنسان أن يؤدي واجبه نحو وطنه.. وإلا فما معنى أن يكون للإنسان وطن لا يدافع عنه؟‏

    فكبرت في عينه، وسألها وهو يحضنها بكلتا يديه:‏

    - ألست نادمة على مجيئك معي إلى وطني؟‏

    فالتمعت عيناها، وقد خالطهما حزن حاولت أن تخفيه عنه بالنظر بعيداً عنه، وقالت:‏

    - لقد توقعت كل شيء، عندما اتخذت قراري بالمجيء معك إلى وطنك وربطت مصيري بمصيرك وبمصير أولادنا، ومثل هذا الربط لا انفصام له في نظري على الأقل. إن في حياتي نوعاً من الخضوع لقدري.‏

    وهمَّ بأنَّ يقول لها شيئاً ما، ولكنها أسرعت تقول:‏

    - لاتحاول أن تقنعني بضرورة ذلك. فهذا الوطن، الذي ستذهب للدفاع عنه، إنما هو وطني أنا أيضاً، ولا أقول وطني الثاني. وطني الأول والأخير هو وطن أطفالي وزوجي، هذا هو الحب في أعرافه الصحيحة. ويليه في الدرجة حبي لجمال وطني وشمسه وبحره وجباله وصحرائه وفضائه الرائع... المثل الحي لما للطبيعة من جلال وجمال.‏

    وقام يعانقها... يعانق وطنه في وطنه، وقضى آخر ليلة له مع أسرته، ستعيش معه طويلاً إلى أن يتم اللقاء من جديد في أول عطلة له. وودعها في صبيحة اليوم الثاني، ولم يتمالك أي منهما دموعه.. حتى بكى الأطفال معهما، فقد تصوروا أنَّ في الأمر شيئاً يستحق البكاء، عندما رأوا الأبوين يتعانقان بيد ويضمانهم بيد أخرى. لقد كان دائماً من الصعب عليه أن يعيش مثل هذا الوداع، وتذكر اليوم الذي ودعها فيه مع الأطفال على لقاء حين عاد إلى وطنه، وابتعد وقد امتلأت عيناه بالدموع حين تصوّر أن أولاده أصبحوا يتامى، ثم مسح دموعه وراح يطرد من رأسه هذه الفكرة، فالمهم أن يكون لهم وطن، تحترم حدوده، وتصان قداسته، وتسلم حرمته، فماهم إلا جزء من هذا الوطن النعيم، الذي عاش في الخارج له وبه.‏

    وانتقل إلى الحدود بعد فترة تدريبية، وكان يكتب إليها رسائله أسبوعياً، يحدثها عن حياته بين رفاقه في السلاح، وعن اختراق الحدود من هذه الجهة أو تلك في غفلة من أصحابها، استعداداً للحرب، ثم العودة بسرعة إلى ماخلف الحدود. وكانت تكتب إليه هي الأخرى، وتحدثه عن أطفاله الصغار، ولاسيما عن الصغرى ذات العينين الزرقاوين... عيني أبيه وفيهما أجمل وطن، وتتمنى له السلامة والعودة إليهم بسرعة.. وكانت تختم رسالتها في كل مرة بعبارة: واسلم لنا، فنحن في انتظارك بشغف.‏

    وذات يوم أخبرها أنه قادم، فقد تمت تسوية مشكلة الحدود، من غير لجوء إلى القوة، فأكد لها بذلك ماكانت قد سمعته في وسائل الإعلام، فبدأت تهيء الجو وتعد العدة لاستقباله. من الضروري أن يكون يوم مجيئه شبيهاً بيوم التحاقها به في وطنه من حيث السعادة والفرحة والبهجة، مع فارق واحد وهو أن عددهم صار أكبر والانتظار أكثر حرارة واتقاداً. وزينت الأطفال ليوم وصول أبيهم وحضر بعض أقاربه لاستقباله، ولم يصل في الموعد الذي حدده لها، فأخذ القلق يساورها، ويحز في صدرها فشيئاً فشيئاً، وفي المساء سمعت اسمه في نشرة الأخبار، فتجمدت أوصالها، ومدت يديها نحو أطفالها دون أن تشعر: لقد انفجر فيه لغم الجار وهو يتقدم في طريق جانبي نحو الطريق الرئيس لامتطاء الحافلة.‏

    الجزائر.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()