بتـــــاريخ : 11/13/2008 8:15:25 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1093 0


    حـادثـة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مـحــسن يوســــف | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة حـادثـة مـحــسن يوســــف

    .. استمرّ الزحام على أشدّه. الأقدام تدفع الأقدام وكذلك المناكب. الوجوه بملامحها المشدودة والأيدي بأحمالها. لا شيء حدث. حتى الرجل الذي يتوسّط الشارع بزيّه الرسمي لم يأبه لما حدث. أغلق معبر المشاة وفتح صنبور الحديد، لتتدافع السيارات الكبيرة والصغيرة. الدراجات وعربات النجدة والإطفاء، وكانت الشمس تصبّ سيلاً من اللهب فوق كلّ شيء.‏

    منذ لحظات حمل همومه. الألم يقبض على أعضائه كأخطبوط، من قمّة الرأس إلى أسفل القدمين، جسده لم يعد كما كان ولا يمكن أن يعود كما كان. الزمن يفتت الصخور. يغتال الأيام، ولا يترك الجسد إلا رمّة تبحث عن مأوى. راقب حركة الشارع: رؤوس تنوس في الفراغ، مدى من الصفيح والزجاج والقار وسماء تنزّ ناراً.‏

    خلال ثوانٍ انتهى الزمن. حاول تلمّس رأسه. لم يعد يشعر بألم. غامت نظراته. انحنت ساقاه وجذعه واحتضنت وجهه حرارة الطريق.‏

    استمرّ الزحام شديداً. كثيرون تتعثّر أقدامهم. كثيرون يصابون بالإغماء وكثيرون يموتون جوعاً ومرضاً وقهراً كلّ يوم، وتستمرّ الأقدام والمناكب والرؤوس، والأيدي التي تحمل والأيدي الفارغة، ويتابع صنبور الحديد جريانه.‏

    أشرق وجه الطفل. الصبي. الفتى:‏

    - إنّه.. أبي.‏

    تقدّم خطوة فخطوة. يداه تسبقانه كجناحين واللهفة عصافير تغادر عينيه. حسب أنّ في مقدوره اجتياز المسافة التي تفصله عن أبيه، وعندما أصبح عند تخوم الخطِّ الفاصل بين الحياة والجانب الآخر، انتفض كعصفور أصابته طلقة.‏

    اختلّ توازنه وسقط. ربّما تخيّل أنّه يطير أو لعلّه يحلم، وكانت السيارة التي اصطادته تعبر صنبور الحديد، وتختفي في غيابة الزحام الذي ما زال شديداً، أمّا الرجل الذي ودّع المرأة منذ لحظات فقد انهار إلى جوار الصغير، وصوته يعلو بذكر الله الحي الباقي، بينما الشمس تتابع سيرها في الفضاء.....‏

    الــغـجــر‏

    .. يقف (الزعيم) على كتف رابية تغازل مويجات البحر. ترحل عيناه خلف النوارس اللاهية، وأسراب الأسماك العابثة تظهر. (روض) بوشاحها الملوّن كقوس قزح، وثوبها الذهبي الشفّاف. تملأ إطار اللوحة. تختال كعروس بحر مشتاقة إلى اللهو والشمس والأغاني..‏

    (روض) أحلى غجريات بلاد العرب، تودّع حامي المضارب. أيّة نكبة تحلّ بالقلب العاشق؟ تستمرّ (عروس البحر) في رقصها الساحر. الموج بساط من ريش أزرق، تلثمه قدمان بلوريتان، وترنّ أساور وأقراط. تبدو الفتاة سكرى مخمورة، وهي تحتضن النسمات بذراعيها الممدودتين كجناحي طائر، يتوق إلى الفضاء..‏

    ينتفض (الزعيم عزيز)، وغريمه ينقضّ ليحطم إطار اللوحة الزاهية. (سكران).. النار التي لا تبقى ولا تذر، تحملها رياح عاتية، يندفع في شوارع المدن. في السهول وعلى السواحل. مدن الجبال والواحات. طاقة من الشوق المتوثّب إلى المجهول. يمدّ نحو (روض) ذراعين. مئات منها، لتغرق الأنثى العاشقة في حميّا من الاستلاب الروحي، لا حد ولا نهاية لها..آه.. يا روض. طوّق (سكران) جيدها بالأطواق المشعّة، وسوّر معصميها بالأساور ذات الرنين. النساء يعشقن الذهب. نسيت (روض) كلّ شيء. كيف تنسى الروح جسدها؟ كيف ينسى القمر أحضان السماء؟. آه يا روض.. يبتعد ظلّ الغريم، وتنداح الفتاة كموجة لعوب. تملأ الريح ثوبها الذهبي. تتحوّل إلى فراشة. يمدّ (عزّو) ذراعيه، يتحوّل إلى ذراعين ""روض. روض" يردّد الشاطىء صدى الصوت الملهوف، والموجة اللعوب، تبتعد كهمسة خجول، بثوبها الزاهي ووشاحها يتطاير كجناحي فراشة..‏

    تغادر الخطوات الواهنة، حدود الساحل الساكن. تنسكب أشعة الشمس الغاربة حزناً على رؤوس الأوتاد، ومداخل المضارب. تعبر الوجوه النحاسية. تتوامض في العيون أسئلة حيرى. يحسّ (الزعيم) بألم عميق. يمتطي صهوة مهرته وينطلق نحو السهول. تتساقط نظراته فوق معدن سيارة (سكران). يخالها غازياً دخيلاً يدنّس تراب الوطن، وهو الفارس المقهور. تفتح البراري صدرها الواسع، للرجل المجروح، وصدره يحنو على الصهوة التي تحمل همومه وأشواقه. يتصاعد صوته في الفضاء الأثيري، يغني بإحساس طفل ظمآن.. خائف، فتمتلىء أفواه البراري بالأغاني. تكبر (روض) كزهرة بريّة.‏

    تخز أنامله أشواك الغابة. ينزع العوسج والدريس. النباتات الطفيلية، يقدّ وعورة التربة. مهاد زهرته. يجمع قناديل الليل لتضيء أحلامها. يروي تويجها وساقها وجذورها بندى الأيام الجميلة. يقطف لها نجوم السماء. يهتف للزهرة الفاتنة (أحبك).. تكبر (روض). العشق الذي لا يعرفه الغجر. تهرب قدماها من قسوة الدروب والترحال، لتمتطي صهوة مهرته: - أتذكرين؟.. يرى المهرة، كعاشقة، تثب حتى لتكاد تطير. يسمع صوت تنفسها: - آه لو تدركين.. اصطاد رجلاً امتدت نظراته ويداه إلى (روض)، ووارى بقاياه في الصحراء. صارع جميع الرجال وأخضع المضارب من أجل عيني (روض). خالف تعاليم الغجر، وأحبّ كما لم يحب غجري قال له أبوه قبل أن يموت:‏

    (( حياتنا، هي حياة الحرية التي يحلم بها الإنسان، منذ وجد الإنسان..‏

    والفرح.. الفرح النادر العظيم، هو إرث الغجر الأبدي......‏

    اترك كل ما يتعارض مع هاتين الثروتين.. الخالدتين....‏

    لا تحب كالأطفال، فتقيّد حريتك وحرية من تحبّ بغبائك، وتصادفك متاعب لا قدرة لك على مواجهتها، فلم يخلق الغجري للصراع..‏

    لا تستوطن أرضاً.. فستجد من يحاول اغتصاب ما تملك..‏

    ولا تنسّ.. أن العالم كلّه وطنك...))..‏

    لكن أباه لم يرّ (روض). لم يحبّ (روض). أحلى الغجريات في بلاد العرب.. تنسدل ستائر رمادية، وتغمر الظلال جنبات السهل، والمهرة الجموح تلتصق بصدره، دافئة الصهوة، عطرة الأنفاس، ونسيمات المساء تلامس الملامح الملتهبة. تبزغ أضواء متناثرة، ويتعالى نباح الكلاب، وأصوات الرعاة.. تقول له روض، وعيناها كنجمتين تومضان: - أنت لا تحبني.... خنجر غجري قديم، يعبر تجاويف صدره: - أي لغو هذا.. أيتها الغجرية؟ .. يتأود الجسد الفتي، في فضاء الخيمة الفسيحة: - لماذا يا زعيم تنسى أنّك غجري؟.. ذكّرتني بغباء الفجر. كيف يتنازل المرء عما يحبّ؟. كيف يسمح للآخرين باغتصاب ما يفرحه؟. أيتها الحبيبة الجانية، تعاليم الفجر، لا تستثني أحداً. أنت وأنا وسكران.. نحن الذين ننتشر فوق كلّ بقعة أرض، ولا نملك سوى جلودنا، وما يقال عن حريتنا وأفراحنا. أنا أتوق أيتها المرأة إلى منزل صغير جميل، وزوج دافئة، وأطفال كالعصافير، ولتذهب جميع الحرّيات والأفراح إلى جهنم:‏

    - أنا أحبك.. يا روض..‏

    - لاتكن أنانياً يا رجل..‏

    يضطرب البحر وتعلو أمواجه. يفصل النوء بين ساحلين. تغسل الشمس ساحل (روض)، وتتراكم أخشاب الزوارق المحطمة ، وبقايا البحر على ساحل عزو . ضحك (سكران). دعاه إلى نزهة في السيارة. هاجمته رغبة في اقتناصه، وتحطيم وجهه النحاسي اللامع، لكن صوت الغريم المسالم، أعاد إليه هدوءه:‏

    - اصعد يا زعيم..‏

    جلسا متجاورين. (سكران) خلف المقود، وهو قرب النافذة. أحسّ بحنين إلى صهوة المهرة، ونسيمات السهول تلامس جسده المتوتّر، وتلفح جلدة الوجه الحار، وتختلط بأنفاسه. سمع (سكران) يخاطبه:‏

    - لم أعتقد أبداً أنك ستتأذى.. بسبب امرأة..‏

    اتجه بوجهه نحوه. ماذا يقول هذا الغجري المتمدّن؟...‏

    - اتأذى... وهل تظن أن (روض) امرأة؟.‏

    تلك الزهرة التي نمت بين أصابعه. في دفء أحلامه. بين خفقات قلبه وفي مدى عينيه. بين الشهيق والزفير. في الواقع والخيال. أهي امرأة حقاً؟. ما أعجزنا عندما نبحث عن تسمية؟.. ناوله سكران لفافة معطرة:‏

    - دخّن.. في مضاربنا عشرات رهن إشارتك، لكنّي لا أملك واحدة.. فتيات المدن ينبذن الغجر..‏

    ماذا تحاول يا غجري؟ اتستدر عطفي فيما لا أملك فيه أمراً؟. ثم.. لماذا روض بالذات؟ خذ كل الثدييات في خيم القوم، أما روض، ملكة غجريات بلاد العرب....‏

    - الغجري.. غجري في كلّ مكان، مهما امتلك ومهما أصبح ومهما كان . لقد جمعت كثيراً من النقود. ابتعت هذه السيارة.. اشتريت منزلاً جميلاً تحيط به حديقة رائعة، ورحت أبحث عن امرأة، في جميع المدن التي عبرت بها وهي كثيرة، فلم أجد واحدة تقبل بي. تصوّر.. أنا أملك الآن كل شيء، ومع ذلك لا أجد امرأة. بحثت في الأرياف، وتجمّعات البدو، قالوا لي: (الغجري يأخذ غجرية) لهذا عدت يا زعيم، وروض هي الأنثى الوحيدة التي تناسبني..‏

    (سكران).. يا نار الغجر المحرقة.. أيّها الدمار الذي تهتز له الأوتاد، وتضيق برياحه المضارب:‏

    - سأدفع كل ما تريد، ولن أسيء إلى أحد. لن أفعل كما يفعل الغجر وأخطف (روض). سأكون كريماً..‏

    راحا يدخنان بسكينة، والسيارة تعبر الأرض البور، وتلغي المسافة بين الغجريين، ولم يفعل (عزو) شيئاً، ولم يقل شيئاً، لتكن (روض) هي الحكم: _ لا تكن أنانياً يا رجل... تندفع المهرة المتعبة في رحلة العودة، وعلى ظهرها يحسّ (الزعيم) بالتعب، لكنه مع ذلك، لم يستسلم. لن يقبل هزيمة من رجل. ما زالت غجريته تنبض في أعماقه، وفي التعاليم التي يخترقها كلما وقفت أمام إنسانيته، أو مايلبي طموحاته ورغباته. يشحنه صوت أبيه العتيق بالقوة، وهو ينساب في الظلمة الخفيفة (( لا تستوطن أرضاً، فستجد من يحاول اغتصاب ما تملك ولا تنس أن العالم كلّه وطنك.)) فليكن. سيعود إلى جذوره، وما يهمه الآن، أن يمتثل لهذا الأمر التاريخي، ففيه الخلاص من عذاب لا يرى له نهاية، وفيه وسيلة الانقاذ التي لا تضارعها وسيلة..‏

    ترك المهرة لتنال قسطاً من الراحة، وأوقد المصابيح في الساحة الكبيرة، ليتوهّج الحي الذي كان يستعدّ لسكينة الليل، ثم جاء الطبالون هبور وحسينو وفليفل، وتوسّطت الراقصة (عنودا) تساؤلات الجميع، وصوت (عزو) يتعالى:‏

    - ياغجر.. لنودّع الأرض الساحلية.. لنرقص ونغنِ ونفرح حتى الفجر، ثم نرحل لنستقبل الصيف على قمم الجبال..‏

    خرجت الفتيات وتشابكت أيديهن بأيدي الرجال، وانفجرت الساحة ومضارب فليفل وهبور وحسينو تنهال على وجوه الجلود المشدودة، ورنّت خلاخل عنودا، وجسدها يهتزّ ويرتفع، وأضواء المصابيح تهطل ألواناً فوقها وحولها فتبدو كأنها تشتعل...‏

    ابتعد الليل نحو السهول، والأرض الساحلية تسفر عن وجهها، وتلقي بنظراتها الناعسة، خلف الركب الذي انتزع مضاربه وحمل راياته، وقد تناثر أفراده، كقطيع يسوقه عشرات الرعاة....‏

    ***‏

    يعود (سكران) المغامر الغجري.. عربته مهرة جموح، تمتطي صهوة تضاريس المدن البعيدة، وروض بعيدة. أبعد من جميع المدن، تنسدل ضفائرها لتحجب آفاق العالم عن العينين الغائصتين في تربة الأرض الساحلية، والرابية التي تغازل مويجات البحر، تمدّ ذراعيها لسكران.. ترحل العينان خلف النوارس اللاهية، وأسراب الأسماك العابثة. تملأ روض إطار المشهد. تمدّ ذراعيها نحو الرجل الوحيد. تبدو حزينة وحيدة هي الأخرى. يرى (سكران) الذراعين كجناحي طائر أنهكه الطيران.. ينتفض وغريمه يصطاد الطائر الوحيد المتعب. أيّها الغجري القذر.. كيف تنسى الروح جسدها؟. كيف ينسى القمر أحضان السماء؟ يتحوّل (سكران) إلى ذراعين، وأشعة الشمس الغاربة، تنسكب حزناً فوق التضاريس. يدير محرك سيارته وينطلق نحو السهول.. تتساقط نظراته بوهن فوق المرئيات والأماكن، والبراري تنصت بشغف، إلى الصوت الحزين. تمتلىء أفواه البراري بالأغاني. تنسدل ستائر رمادية، وتغمر الظلال ملامح السهل. يسمع صوت روض:‏

    - سأذهب معك.. إلى آخر العالم...‏

    يتحوّل حلمه عبر الأيام، إلى حقائق تزرع السعادة في جبين الأيام. هوذا البيت الصغير الجميل، وروض الحبيبة الغالية، وسيأتي الأطفال العصافير، وليذهب الغجر وسكان المدن إلى جهنم، تضطرب المرئيات، وتصطدم أمواج البحر بأطراف الجبال، ويغرق السهل الفسيح في الظلام. ليكن أيّها الغجري.. سنعيد الحكاية القديمة. لتكن روض، الأنثى التي اقتتل بسببها قابيل وهابيل، وليذهب كلّ شيء إلى جهنّم..‏

    تسكن العربة، وبداخلها يغفو (سكران)، لكنه لم يكن متعباً، ولم يكن ليعترف بالهزيمة، فمثله لا يهزم..‏

    أغفت (روض) وهي تنتظر الغائب. هو سيأتي دون شك، ولن تكون لرجل غيره. قبل ذلك نبتت في جسد (عنودا) عشرات الأفاعي اللامعة، وغرقت وجوه حسينو وفليفل وهبور في مستنقع من النار، على الرغم من النسيم الجبلي الذي احتل ساحة المضارب..‏

    جاء الزعيم بلباس العرس، وحملتها الفتيات المعطرات. تخيّلت (سكران) وهي تعد شراب الليلة الأخيرة للعذراء. كان يمكن أن تملأ الوعاء الزجاجي بالحبّ. بعطور لا تتقن صناعتها غجرية أخرى. كان يمكن أن تجمع قطرات الندى من فجوات الصخور النظيفة، وتعتصر رحيق أزهار التلال ذات الأريج المسكر والمذاق اللذيذ، لكن (عزو) هو حامي المضارب. رأس الغجر، إليه يرجعون، يطيعون ، يفعلون ما يأمر به، لكنّه ليس رجلها الذي ستبادله الحب. إنّه رمز غجريتها. قوتها. الرجل الذي يتبعه الغجر، والحبّ إحساس. انعتاق من كل شيء.. الغاء لكل القيود.. (الزعيم) هو الغجر.. (عزّو) ليس الحبّ..‏

    أخرجت قارورة صغيرة... سكبت قطرات منها في الشراب الملّوّن، وجاء الزعيم بلباس العرس. رأته مهيباً.. شامخاً كأوتاد الخيام، قوياً كيوم الصحراء، عندما قتل رجلاً انفرد بها بعيداً عن المضارب. اقتربت منه، وأخذت يده. قبلتها، ومرّغت وجهها بدفئها، كما تفعل الغجريات، وقدّمت له شراب العرس..‏

    بعد أن اطمأنت إلى سكونه، غادرت المخدع إلى العراء.. تسنمت ذروة تطلّ على السهول. راحت تحلم بعينين مضيئتين كقمرين، يخترقان ظلمة السهول والجبل كشهابين، يبحثان عنها، وكانت على ما يشبه اليقين، من أن الحب لا يغلب، وليس كالحبّ في حياة الغجرية.. إنّه السعادة الوحيدة، التي تنالها الأنثى، بحريّة البراري، ولهذا تحتمل كل شيء، في سبيل الجنة الموعودة.....‏

    انتضت (عنودا) خنجرها الفضي.. جاء دورها الآن، لتكون ملكة الغجريات في بلاد العرب. التمع الخنجر لحظة. سطعت أضواء مجهولة فتوهّج النصل وهو يهوي باتجاه الصدر المشرع لنسيمات الليل، وماتت روض.. وكان (سكران) ما يزال نائماً. بكارة السهول الغافية، شراع محمّل بحرارة جسده الغارق في السكون. تجمّع حوله قراصنة الغجر. أخذته أنياب ومخالب قبل أن تشرق الشمس وتتساقط أشعتها فوق بقاياه التي تناثرت بين الأرض الساحلية والجبال العالية..‏

    تلبس (عنودا) أطواق وأساور روض، وتتوسّط الساحة الكبيرة. يتطاير ثوبها الذهبي الشفّاف. تختال وجسدها يهتز ويرتفع في الهواء. تبدو كأنها تطير. ينبت الجسد المتثني عشرات الأفاعي، تطوّق عنق (فليفل) وهو ينتصب على خطوة منها:‏

    - يا غــــــ... يا غجر.. جهّزوا أنفسكم لرحيل طويل....‏

    (عنودا) تلتصق بفليفل. تقرع الأرض كمهرة جموح. تمدّ ذراعيها كجناحين:‏

    - انظر... يا زعيم..‏

    يمتطي (هبور وحسينو) سيارة سكران، ويفكّران بالزعيم والراقصة الجميلة. يتدفّق نسيم شرقي، ويمتليء ثوب (عنودا) الشفّاف.. يطير شراعاً في الفضاء. تفكّر بعاشق جديد، وروض أخرى. يبتسم فليفل:‏

    - ياغجر.. آن أوان الرحيل..‏

    ترحل الأوتاد والمضارب. سيارة سكران، ومهرة عزو، ويتردّد في المكان، صوت غجري قديم:‏

    (( اترك كلّ ما يتعارض مع الفرح والحريّة... لا تحبّ كالأطفال، فتصادفك متاعب لا قدرة لك على مواجهتها.... لا تستوطن مكاناً واحداً.. هناك دائماً من يفكّر باغتصاب ما تملك، ولا تنس.. إن وطنك هو العالم)).‏

    يرمي الجبل بنظراته الحائرة، نحو الركب المهاجر، وقد نزع أوتاده وحمل راياته وتناثر أفراده، كصخور السفوح عندما تدفع بها السيول والعاصفة......‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة حـادثـة مـحــسن يوســــف

    تعليقات الزوار ()