بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:39:53 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1530 0


    البازيار الجميل

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ابراهيم الخليل | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    كان جميلاً كما تؤكد كل الروايات.‏

    ومجنوناً بتضرية الطيو، وتدريب الكلاب، يضع وراء أذنه اليسرى وردة خزامى، ويتدلى منها قرط فضي فيه خرزة زرقاء، تطل كعين في نقش فارسي على سجادة من تبريز، وكأنما وضع هذا القرط ليدلل على أصوله القرباطيه، إضافة إلى ما يضفيه عليه من سحر وجاذبيه .‏

    كان فيه كل صفات الرجل الذي اختاره القدر، ليلعب دوراً مجنوناً أو يبشر برسالة، لاهمَّ، فجلده الأخضر اللامع كالزيتون المغسول بندى الفجر يتفجر برائحة فاغمة، أشبه برائحة العشب الريان بعد ذوبان الثلوج عنه، في موسم الربيع، وسنه الذهبية تعطي لكلماته رصيداً من التأثير والاهتمام، وقد قيل يوم ولادته، إن السماء امتلأت بالطيور من كل نوع، طيور من كل نوع لا يعرفون من أين جاءت؟ حامت طويلاً حول الخيمة الرثة، وكأنها تقوم بطقس مقدس، ثم رحلت، ولم يبق سوى هدهد وحيد.‏

    ولم يألُ جهداً في تعلم مهنة الأجداد، فسكب المعادن الرخيصه، وصنع الغرابيل، ووشم بالشذر الأزرق، الوجوه والمعاصم والسيقان، ولكنه أنف أن يظل عمره يقرع الطبول في الأعراس، أو في البيطرة وتنعيل الخيل، لم يخلق لهذه الأمور التافهة، وحار الأهل، خافوا من العينين الواسعتين اللتين بلون الكستناء المحروقه، والضحكة الساخرة.. وقال:‏

    أريد أن أكون ملكاً أو سلطاناً .‏

    خافوا أن يكون به مس، ثم تابع.‏

    أريد مهنة للقلب لا للعيش، مهنة أعطيها كل دقيقة وثانية من حياتي وأنا مرتاح، مهنة لا تأكلني كالنار، ثم تتركني رماداً في موقد مهجور وبارد، تذروه الرياح.‏

    سألوه بسخرية:‏

    وهل لنا أن نعرف هذه المهنة التي تليق بقرباطي شاب ليس في رأسه سوى النمل.‏

    - كل شيء بأدانه.‏

    - ألم يئن هذا الأوان؟!‏

    - لا أعرف.‏

    - حين تعرف خبرنا.‏

    - سأفعل.‏

    وتركوه، غسلوا أيديهم منه، وانصرفوا إلى شؤون يومية وملحة لا تقبل الانتظار أو التأجيل، وهم على يقين بأن الأغصان لا يمكن أن تنمو بعيداً من الساق، ألا يجري في دمه ذلك الإرث البعيد للقرباط ؟ إرث العشق الدائم للرحيل، والرقص في السهول، والانتظار في قمم الجبال، وسكب المعادن والنقر على الدفوف والطبول.‏

    وتركهم ذاهلاً، يمم مكاناً قصياً، وفي ظل أحد الرجوم تمدّد، تلمس الأرض بأصابعه، والحصى، ثم أصغى إلى صوت غامض وبعيد، يأتيه من أغوار مجهولة، مخترقاً يباس الرأس وشغاف القلب، واستلقى على ظهره، أغمض أهدابه الطويلة أمام ضوء الشمس الغامر ثم فتحهما على سعتيهما، كانت السماء زرقاء صافية، تزرعها رفوف الطير، فتبدو كبحر واسع من الضوء والكريستال البوهيمي.‏

    وعاوده الصوت من جديد، وكأنه نبوءة:‏

    - كل شبر على الأرض عليه حارس، وله مالك، فالخيل، والقصور للأغنياء، والمزارع والأشجار للأغوات، والدكاكين والمخازن للتجار، حتى دور المتعة والبغايا لها: قوادون يحرسونها.‏

    فردّ عليه بعتاب:‏

    - هل تريد أن تغلق أمامي السبيل؟!‏

    - لا.‏

    - إذن ماذا تركت لي؟!‏

    - تركت لك السماء، ستكون سلطاناً على الطير، وسيداً للكلاب الضواري، فلا تيأس، لا تيأس.‏

    فلا تيأس، لا تيأس.‏

    لم يفهم، أغمض عينيه، ونام نوماً كاليقظة، وهو يغالب شيئاً حاراً يدق صدره كالسعال الجاف، فلم يهتم، كوّر قبضته الفتية، ودق بها الصخر فلم يشعر بالألم.‏

    ...‏

    زانه الرجل العجوز بعيني خبير.‏

    راقب صدره العريض، ويديه، وعينيه، ورشاقته التي لا تخفى، وكانت أصوات الكلاب والطير ورائحة المكان تملأ كيانه بخوف غامض، وسطوة مشرعه كساطور القصاب، وترقب قلق، يدبّ كالحذر في أطرافه.‏

    - وتريد أن تكون بازياراً؟‏

    - نعم.‏

    - وتقول نعم، هكذا بكل بساطة وكأنك تريد أن تشتري حفتة من التمر أو الزبيب من السوق.‏

    - عفوك يا معلمي‏

    - لم اصبح معلمك بعد.‏

    ونكس راسه بإجلال.. فتابع الرجل العجوز بصوت خافت لكنه ساخر كلامه:‏

    وهل تعرف شيئاً عن البيزرة: هل تفرق بين الباز والغراب؟ قل لي هل تعرف شيئاً عن سلالات الكلاب.‏

    - جئت أتعلمّ من كبير المعلمين.‏

    - تتعلم..ها.‏

    - نعم، فالإنسان لا يولد وفي رأسه كل شيء.‏

    - كلام جميل كبداية.‏

    قال ثم قاده إلى كوخ صغير ملحق بغرفته الواسعة، وتركه هناك وحيداً ثم انصرف إلى شؤونه اليومية، وهو اشبه بغائب عن الوعي أومسحور ومن عينيه الماكرتين كان ضوء خافت يتدفق بحذر وهدوء.‏

    وفي المساء جلسا متقابلين، على صحفة من الطعام المتواضع، وعاود العجوز من جديد ما انقطع من حواره السابق، وكأنما أجله لغاية في نفسه، أو لأمر خاص به... وقال:‏

    - اسمع يا ولدي، عليك أن تترك كل شيء وراءك وتنتبه إلى كل ما أقوله أو أفعله أمامك بقلبك لا بأذنيك.‏

    - سأفعل أن شاء الله.‏

    - إذن .. هل تركت كل شيء.‏

    - كل شيء.‏

    - قولاً وفعلاً.‏

    - قولاً وفعلاً‏

    - هل في قلبك امرأة ؟!‏

    - لا..‏

    - هذا أول النجاح‏

    - ألك أهل وأصدقاء تحبهم؟‏

    - نعم.‏

    - اطردهم من قلبك. فمن انصرف في البيزرة قلبه إلى غير طيوره وكلابه خاب مسعاه وفسد عيشه، وباء بالخسران.‏

    - طردتهم من هذه الساعة.‏

    - وكل ساعة .‏

    - قد فعلت يا معلمي‏

    - جميل .. هذا جميل.‏

    قال راضياً.. ثم تابع:‏

    - البازيار الحقيقي يا ولدي سلطان الطير، وسيّد الكلاب الآمر الذي لا تردّ له كلمة، ولا يعصى له أمر عند رعاياه، لكنه يبقى في النهاية خادم الأمير، فعليه أن يوازن بين سلطان وخادم في نفس واحدة، وأن يحبّ بقلبين، قلب لطيوره وضورايه، وقلب لولي نعمته وسيد مصيره، أن يعرف متى يقول لا ؟ ومتى يقول نعم؟ وإن لم يفعل ذلك ضاع واندثر.‏

    - لا اريد جاهاً بين الناس.‏

    - كلام جميل آخر.‏

    - هذه المهنة يا ولدي من يفهم فيها فهو محتقر، ومن يتسلى لا يكون إلاّ سيداً أو أميراً، وأنت اخترت العلم، وهو أول درجاتها إلى صومعة العشق الخالص.‏

    - ستكون كل كلمة يقولها معلمي مقدسة.‏

    - والان.. كلْ، فقد حزت القبول.‏

    وامتدت يده إلى الطعام الذي اصبح بارداً.‏

    ...‏

    قال العجوز في أول درس من دروسه اليومية وهو يتطلع بعينيه الماكرتين إلى السماء الزرقاء وكأنه يرصد حدثاً او معجزة على وشك الاجتراح دون أن يترك للإنفعال أن يؤثر في نبراته:‏

    - أول درجات هذه المهنة: العلم، فالإطعام، فالحراسة، فالتأديب، ثم تضرية الطير. أفهمت يا ولدي؟‏

    - فهمت يا معلمي.‏

    والطير أربعة: الغطراف، فالأرقوان، فالكافي، فالزِّنج، وهو أردأ الأنواع جميعاً، لأنهم جاؤوا به بعد أن اسفد وباض وفرخ وتقرنص، فلا يصلح لكل ما يريده البازيار منه.‏

    وسكت العجوز طويلاً، ثم قاده من يده، مرّ بالطير في أماكنها، وتفقد الكلاب في حظائرها، وكأنه يتفقد أولاده، ثم تابع كلامه وهو يتفحص كل شيء بعين المراقب العارف بكل صغيرة مهما دقت.‏

    - تيقظ دائماً، فمداراة الطيور علم دقيق لا يفهمه إلاّ الذكي اليقظ، ومن فاته شيء، فلن ينجح، وعليك أن تتعلم كيف تشدّ السيور؟وتلبس الجارح الكمة؟ وكيف تعمل آلاته؟ وكيفية الإرسال والإجابة ؟ وإذا جيء لك بطير، تفقد أعضاءه، وريشه، وعينيه ومخلبه وأجنحته، فإن وجدت فيه عيباً، فدعك منه، فلا نفع فيه، وهكذا ترى الكمال شرطاً في الطير وبازياره، والخطأ غير مغفور، فكل طير ثروة من مال وحب وجمال.‏

    ومضى العجوز في جولاته اليومية ودروسه التي يلقيها وهو يتفقد كالعادة رعاياه.‏

    - احفظ طيرك من الدخان والغبار ووهج النار، ومن الحرّ الشديدوالبرد والندى والاحتكاك بالغرباء، ولا تدخله من باب ضيق، أشقّ أو أجمة كثيرة الدغل، واصبر عليه في وثوبه ورده واضطرابه ولا تنهره أو تتفل في وجهه، ولا تدخل عليه سكران أو جنباً ولا ضيقّ الصدر، ولا سخيفاً أو أبخر، فإن فعلت ذلك رميت في قلبه الوحشة، فالبازي أرق المخلوقات طبعاً، وأقلها احتمالاً للأذى، فإنه حين يقع في شباك الصيادين ينحني فيمزق صدره وينتحر، إذا لم ينتبهوا إليه، فاعقد الألفة بينك وبينه، لأنّ ذلك يزيده فراهة ومحبة لك، ومتى انعقدت المحبة رأيت منه العجب.‏

    وسكت قليلاً .. ثم تابع..‏

    - لا تشبع الجارح إذا أساءلك، ولا تحرمه إذا أحسن وأطاع وإلاّ رميت في قلبه الوحشة.. أفهمت يا ولدي؟!‏

    - فهمت يا معلمي.‏

    - إذن . بقي علينا أن نشرب كأساً من الشاي الخدران .‏

    - تكرم يا معلّم.‏

    ويمضي الشاب إلى المطبخ لإعداد الشاي اليومي لمعلمه، وهو فرحان القلب لا يعرف التعب.‏

    ..‏

    ويوماً سأل الشاب معلمه العجوز.‏

    - أحب أن اسألك سؤالاً، ولكنني خائف.‏

    - اسأل ولا تخف..‏

    - لمَ لم تتزوج حتى الان يا معلمي؟!‏

    وصفن العجوز طويلاً، ثم استدرك نفسه.. فقال:‏

    - يا ولدي للبازيار - كما قلت- قلبان، واحد للطير والضواري، وآخر لأميره، ولا مكان للمرأة في حياته.‏

    والاولاد ؟!‏

    أولاد البازيار طيوره وضواريه. وإلا ضاع. هكذا خلقه كما يخلق الراهب في ديره.‏

    ...‏

    وأخلص الشاب للمعلّم أكثر من ابن.‏

    ولم يخب أمله، ولقد زكاه قبل موته للأمير، وأدخله في خدمته، وكان الأمير مفتوناً بطيوره وضواريه، حتى زهد بالأكل والشراب، وانصرف إلى الصيد والقنص.‏

    - ريشة يفقدها طير، أو ظفر لكلب، وتفقد رأسك.‏

    هذا شرط الأمير منذ البداية، والأمير مجنون إلى درجة أن السماء والأرض من حوله كادت أن تقفر من الحبارى والقطا والأرانب والغزلان وحتى الثعالب.‏

    ويوم استطاع البازيار الجميل تحقيق معجزته الكبرى، التي لم يستطع من قبله أن يحققها أمهر البازيارات، دخل قلب الأمير، فما عاديردّ له طلباً مهما كان، فلقد استطاع أن يدرّب غراباً، ونجح في تضريته حتى باتت له ضراوة البازي، وسطوة الباشق، وسرعة الشاهين، فقرر الزواج متناسياً كلمة الملعم الكبير ووصاياه.‏

    تزوج البازيار الجميل من فتاة دخلت قلبه، فتمكنت منه، ولم تتغير معاملته لكلابه وطيوره، رغم رائحة العطر الجديد التي فاحت منه، وجاء الابن الأول، ثم البنت الثانية، ولم يبدل من عاداته واهتماماته حتى خلط بين جوارحه وأولاده.‏

    وشاخ البازيار، هاجمه الضعف ووهن العزيمة، وبدأ يدرّب ابنه الأكبر والابن كان مفتوناً بالربابة والأعراس، لذا لم يتشرب أصول المهنه كما تقتضي أصولها، ولم تنعقد الألفة بينه وبين الجوارح، وكذا الابن الأصغر الذي انصرف إلى سكب المعادن الرخيصة وصناعة الغرابيل ووشم الأجساد على عادة الأسلاف. فهز رأسه وقال:‏

    - اللهم اسالك حسن الختام.‏

    ثم سكت حزيناً ويائساً من فعل شيء.‏

    ...‏

    - الكلاب تنبح على غير العادة.‏

    - لتنبح، هذه عادتها.‏

    ردّ الشاب على والده، فلم يعبجه الكلام.. فقال:‏

    - لكنه نباح غضب وقهر.‏

    - بدأت أذناك تخونك يا سيد البازاريه.‏

    - أين أخوتك؟‏

    - لا أدري.‏

    قال الشاب دون اهتمام، ثم انسل خفيفاً رشيقاً، فامتلأ قلب الشيخ حباً حتى فاض، فانحجبت عنه الأصوات، ونسي جوارحه وضورايه وفاء إلى هدوء محايد بالسلام.‏

    ويوماً، كان فيه الأمير غائباً، والهدوء يبسط أجنحته، سمع البازيار صخباً ضارياًوعواء مجنوناً، وصوت أجنحة تصطفق، نادى أحد أولاده فلم يجبه أحد، فقام يتوكّأ على عصاه، نظر من الباب فارتعدت فرائصه، وزاغ بصره، كانت الدنيا مقلوبة، أولاده وكلابه وطيوره في مجابهة هائلة، وقد حوصر في الوسط ابنه الشاب، اندفع بجنون وشق الصفوف فجمد كل حيّ، وخرست الأصوات، أشار لأولاده فانسحبوا وحين أحصى الخسائر، طاش صوابه، وهاجمه خوف مريع هزّه من الداخل.. فصاح:‏

    الرحيل، الرحيل قبل أن يعود الأمير وتكون الكارثه.‏

    بعد ساعة اتجهت العربة نحو المجهول، وخلّف البازيار وراءه مجداً ممزقاً وطيوراً جريحه. وكلاباً مهتاجة، لقد تقوضت أركان مملكته وحلّ الدمار بكل شيء.‏

    وحين سأله ابن الشاب.‏

    - إلى اين يا أبي؟‏

    ردّ بهدوء وحكمة.. وقد استسلم لمصيره:‏

    - أرض الله واسعة، وليس لقرباطي مكان محدّد.‏

    وتابعت العربة طريقها، وقد بدأ النعاس يداعب عيون الجميع بينما ظل الرجل العجوز صاحياً يحدق في السماء الزرقاء الخالية، ورنت في أذنيه كلمات معلمه العجوز.‏

    - يا ولدي للبازيار قلبان...‏

    وضاع باقي الحديث، فانصاع إلى ذلك الهدوء الذي يكلل تلك البراري بتيجان من البهاء والقنوت، أشبه بتيجان القندريس البري المستديرة بلونها البنفسجي وأشواكها الذهبية، فهزّ رأسه الأشيب، وتابع تأملاته، وهو يمضي وسط الحماد نحو الهاوية، بخطو فيه ثقة وتصميم، وهو يدرك أن خيل الأمير لا بد أن تدركه.‏

    وفجأة بدأ يغني، نعم يغني بصوت واهن، ومتحشرج وكأنما هو على وشك الاحتضار، وكان ثمة برد بدأ يهاجمه، يتسلل إلى عظامه، والطريق يمتدّ إلى مالا نهاية

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()