بتـــــاريخ : 11/12/2008 5:21:51 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1377 0


    سلطان النهر

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سحر سليمان | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    حين رحل عنها، وقفت تودعه.‏

     

    كانت تحس بالوحدة، والبرودة، والرغبة في البكاء . وفقدان الترابط مع كل ما يحيط بها . تعلقت به فتناول أصابعها الرشيقة الباردة في كفه ثم قال لها وهو منكس الرأس بصوت غائم بالمطر والعبق والظلال القاتمة :‏

     

    - جوانه ..‏

     

    وتوقف ثم تابع النظر إلى أصابعها وكأنه يتلو صلاة سرية، وأردف بالصوت الغائم والخافت نفسه:‏

     

    - قد أغيب طويلاً لكنك تظلين في قلبي، فتشجعي وكوني قوية كما أعرفك، سأعود، صدقيني سأعود ... وس..... وغص الصوت، اختنق . وتوتر كوتر القوس، وظلت أصابعها في كفه تعروها البرودة .‏

     

    - سأنتظرك كما تنتظر شجرة وحيدة غيمه لتورق وتتكلل بالزهر والثمر والأوراق . سأنتظرك .‏

     

    قالت تؤكد له والعالم من حولها يفقد ترابطه والأشكال التي يكونها .‏

     

    حين رحل عنها، ظلت تنتظره، وتجلس في ذلك الركن الهاديء من مرتفع يشرف على الفرات، والفصول تمر بها الربيع والخريف والصيف والشتاء، والطيور تمر بها، والفرات يمضي عجوزاً متوانيا بعد أن حاصرته السدود القاتله.‏

     

    حين رحل عنها ظلت مسكونه بكلماته الغائمه، وصوته الأجش المخنوق، ورائحته المميزة، وظل طعم كفه الدافيء على أصابعها الباردة الرشيقة، كانت تراه على الكرسي الذي طالما جلس عليه يقرأ صحيفته، يشرب قهوته. تراه في زاوية الشارع، وعلى شاطيء الفرات يلعب بالحصى والطين، يبني بيوتاً ويصنع بشرا، ويصطاد سمك الشبوط الذي يحبه مع العرق وسلطة خاصة تعلمها من صديق أرمني يحرص على تناولها دائماً.‏

     

    وكانت تردد كل ليلة :‏

     

    - آه يا جوانة . يالهذا الهذيان الفاضح يتدفق من قلبك، عودي إلى فراشك الذي اشتاقك فالليلة باردة والساعة قاربت الثالثة بعد منتصف الليل وعيون الظلمة تشرب عمرك، تمتص أيامك .. عودي.‏

     

    وفي النهار تغرق نفسها في أعمال طائشة وصغيرة، تغسل الأرض والجدران بالماء، فتحس بالألق والبريق، تحس به يطل من كل مكان، من النافذة والجدران ومرآة الحائط، وأصص الزهور، يطل باسماً يحمل بين كفيه ثوباً أبيض وزهرة حمراء.‏

     

    كان في كل مكان . رائحة وصوتاً ودفئاً ونبضاً يسري في كل شيء.‏

     

    - آه يا جوانة وتظلين هكذا شجرة وحيدة هجرتها أوراقها وعصافيرها تنتظر وتنتظر غيمها العاشق... الماء يجري، والوقت يجري والانتظار يرمد روحك، ويخنقها مثل كومة من الهباء في أغوار عميقة، وعتمة كاتمة، آه يا جوانتي العزيزة، الصابرة، المكابرة، العنيدة، وماذا بعد...؟...‍‏

     

    قالت لنفسها، قامت إلى المطبخ، أعدت قهوتهاالسوداء. وجلست في الظلمة، تدثرت بظلالها وبدأت تشرب فنجانها. ورائحة الهال تسكرها. وتعيد لها الإحساس بالحياة. فتطرد حرارة القهوة رماد الوقت وصدأ المكان . إنها تغتسل تحت مطر سري وريح عاصفة وقمر بلون الحليب، عارية في صحراء وحشية وقاسية تتحرك كثبانها كالأشباح.‏

     

    - آه ياجوانة، لقد حلمت به أمس . رأيته رأي العين يقرب منك حتى لا مست أنفاسه شحمة أذنك . ضمك إليه ثم دفن رأسه بين العنق والكتف، وتنهد طويلاً ثم مضى بشفتيه من شحمة الأذن إلى مرمر العنق، كانت شفتاه جمراً، وقلبه يخفق جامحاً كمهر فتي يدق بحوافره الأرض، وحين صحوت لم تجدي سوى الخواء يعوي من حولك، فنذرت لسلطان النهر أن تطوفي له شموعاً لتري إن كان يقبلها منك. استعدي ياجوانتي الآن للوفاء بنذرك قالت تخاطب نفسها... ثم استعدت لتقوم بشعائر نذرها المقدس للخضر أبي العباس، سلطان الفرات الحارس .‏

     

    - أوقفي عويل قلبك الطويل‏

     

    سمعت صوتاً من داخلها وهي تستعد للرحيل إلى الفرات في هجرة قصيرة . فأوقفت كل شيء وتحركت تحمل [ طوفاً] صغيراً وشموعاً، واتجهت في موكب من الألفة والخشوع الصامت والأطياف إلى النهر.‏

     

    كانت الظلمة تلف كل شيء وضوء المصابيح الكهربائية يفرد أجنحته ويفرش الطرقات الخالية إلا من الكلاب الضالة والقطط الشاردة والخفافيش، والحركات الغامضة للكائنات الخفية التي لا تمارس حياتها إلا في غفلة من الناس. الطرقات خالية وقلب جوانة توقف عن العويل. وأصابعها الرشيقة الباردة تقبض بقوة وإصرار على شموعها وطوفها الصغير، ولم يعد شيء فيها يبكي . انفتح قلبها لأول مرة على الهواء والبرودة السليلة . وعرفت عيناها طعم الظلمة والأشباح والأشجار التي تصلي كما يبدو صلاتها الخاصة، و بعيداً عن صخب النهار، صلاة خاشعة وجليلة في ذلك الجو الاحتفالي.‏

     

    الطريق إلى النهر يمتد أمام قدميها، ينهض وكأنه يريد أن يقودها إلى السماء لا إلى النهر، وقد تراءى لها الظلام يبتسم كاشفاً عن قلب من ذهب، تراءى لها المكان يتنفس . ويزفر روائح من بخور وزعتر . والطريق يمتد. وخطواتها تتلاحق والمدينة تخلفها وراءها .طفلة تغرق في النوم والأحلام‏

     

    - لا تطلقي عويل قلبك الحزين يا جوانة‏

     

    جاءها الصوت آمراً، حاسماً، كحد سكين . ووقفت على الشاطئ، حيث القمر بلون الحليب، والجسر يمتد مثل كائن خرافي من الحديد والإسمنت المسلح . وبيدين مرتجفتين أخرجت جوانة الطوف، غرست فيه الشموع ثم أشعلتها، فضاء المكان من حولها، فرتلت صلاة قصيرة، ومع اندفاعة الطوف بالشموع ودت لو تصرخ، لو تصيح تدعو سلطان النهر، فجائها الصوت آمراً:‏

     

    - لا تطلقي عويل قلبك المجنون يا جوانة .‏

     

    ومضى الطوف بالشموع . أخذه التيار معه فرفرف قلبها فرحاً وهي ترى السلطان يقبل تقدمتها، فطفرت الدموع من عينيها، واهتاجت أعصابها، فتحول الماء والليل والأصوات والوقت إلى خيمة واسعة، فواجهت القمر بعينين دامعتين وشهقت فتسلل الشعور بالأمل إلى أعماقها .‏

     

    ومن بعيد رأته يظهر، عجوزاً طويلاً كالنخلة السموق نصفه الأسفل في الماء ونصفه الأعلى على السطح وقد تدلت لحيته البيضاء على صدره فلامست أطرافها النهر، أشار لها ثم غاب كالومض، فغص صدرها بالخوف، ولم تشعر إلا وكفه الدافئة تتناول بحرص شديد أصابعها الباردة، وأنفاسه الحارة تحرق رقبتها بينما كانت شفتاه تنزلقان من شحمة الأذن إلى مرمر العنق، فاستدارت بسرعة، كان أمامها يقف في الظلمة وقد بأت طلائع الفجر تورد المكان .‏

     

    - جوانة.‏

     

    همس برقة، وأطلقت عويل قلبها المجنون .‏

     

    - جوانة .‏

     

    كركر الهمس مرة أخرى ثم تابع :‏

     

    - لا توقفي عويل قلبك المجنون :‏

     

    وكان الطوف الصغير مازال يندفع مع مياه النهر إلى الشرق‏

     

    حيث البحر الكبير.‏

    (1) - طقس تمارسه المرأة في الجزيرة الفراتية نذر، والمقصود بسلطان النهر [ الخضر].‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()