بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:19:53 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1512 0


    حلم الصيف

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الحميد بن هدوقة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    الزوجة عقدت العزم في هذه المرة على أن ترافقه أو تفارقه! كل النساء، نساء الحي من معارفها، سافرن إلى الخارج، منذ ألغيت رخصة السفر إلى الخارج، وهي، إلي متى تبقي هكذا قابعة بين أربعة جدران؟ الحياة تبدلت، مكوث المرأة في بيتها صار قصة تحكى للأطفال عن ماض بلا رجعة.‏

    جواز السفر جاهز، الأطفال الثلاثة توزّعهم على أخواتها الثلاث، لم يبق هناك مانع، لم تعد هناك حجة لدى الزوج، إلا ...‏

    - والدراهم ياامرأة؟ أتعتقدين أننا نستطيع أن نسافر إلى بلاد الناس بثلاثمائة دينار؟‏

    - نستطيع، كما استطاع الآخرون !‏

    - الآخرون ، الآخرون...‏

    - اعمل كما يعمل جارك ..‏

    الزوجة مصممة هذه المرة على السفر. على السفر إلى الخارج، لا إلى جهة من جهات الجزائر.‏

    كل الأعذار لا تستطيع أن تقف في وجهها..‏

    - السفر إلى الخارج يحتاج إلى إعداد مسبق، إننا في الجزائر...‏

    - والذين سافروا هل أعدوا سفرهم؟ فائزة سافرت في الليل هي وزوجها لم يسمع بهما أحد..‏

    - فائزة يستطيع أن يمدها أبوها بماتشاء من العملة الصعبة، لوكنت مديراً للبنك لـ..‏

    - العملة الصعبة، العملة الصعبة... صعبة عليك فقط... لماذا لا تعمل كالآخرين، تبدل لأحد المهاجرين مائة بمائتين؟‏

    - أنت تريدين أن نكون كالآخرين، وأنا لست كالآخرين !‏

    نظرت إليه بمقت وهي تقول في نفسها: " أمي قالت لا تتزوجيه..." وصرحت:‏

    - السفر لابد منه..‏

    صمتت لحظات ثم أضافت:‏

    - لم أطلب المستحيل. أريد أن أسافر إلى الخارج، ولو ليوم واحد! يمكن أن نقيم في أيّ بلد ثلاثة أيام بالستمائة دينار المسوح بهالنا.‏

    - لا تكفي حتى للمبيت!‏

    - ندفعها في الفندق،ونأخذ الأكل معنا..‏

    نظر إليها الزوج بإشفاق، يقينا إنها لا تعرف شيئاً عن الحياة في بلاد الناس! ثم لماذا نسافر إذا كان السفر من أجل المبيت في فندق؟ لا، إنها، إنها لا تعرف شيئاً هي وغيرها من هؤلاء النساء اللواتي جن جنونهن في هذه السنة من أجل السفر إلى الخارج.‏

    - الجزائر أجمل من كل البلدان التي تحلمين بها‍!‏

    - جميلة أو لا، السفر إلى الخارج لابد منه، لن أبقى ضحكة بين النساء عندما يعدن من أسفارهن..‏

    - هل نحيا للناس أو لأنفسنا؟‏

    تضحك بسخرية من زوجها، وتتأمله لحظات متسائلة في نفسها: هل هو غبي أو ساذج؟‏

    فضلت الصفة الأولى، وقالت بنفس الضحكة:‏

    - ماذا جرى لك يارجل؟ ألم تعرف بعد أن كل الناس يحيون للناس؟‏

    ليس هناك منطق أشد إقناعاً من هذا، الناس يحيون من أجل الناس منذ أن اكتشفوا أنهم ليسوا شيئاً في حقيقة أنفسهم. هم كسائر الكائنات الأخرى تأخذ قيّمهامما يجاورها أو يماثلها .‏

    هذه الأفكار التي أوجدها حديث الزوجة في نفسه جعلته يرضخ لتلبية رغبة زوجته ويعرب :‏

    - إذا كان لابد من السفرإلى الخارج فلنذهب إلى تونس، بلد شقيق مجاور، وأقل كلفة من بلد آخر، نسافر براً على مرحلة أو مرحلتين.‏

    - نأخذ معنا كل مانحتاج إليه، حتى البنزين، نشتري مايكفينا.‏

    رد عليها ضاحكاً، محاولاً أن يسترد شيئاً من هيبته وفضله عليها:‏

    - أنت واهمة. كم تعتقدين أننا نستطيع أن نحمل معنا من بنزين؟‏

    - نملأ خزّان السيارة، ثم صفيحتي البلاستيك اللتين نستعملهما لحفظ الماء.‏

    - ذلك ممكن، لكن مع ذلك لا يكفي، ولاسيما إذا انتقلنا كثيراً لزيارة بعض المدن التاريخية الهامة .هذا ،على فرض أن الجمارك التونسية تسمح لنا بأخذ البنزين معنا....‏

    - لماذا لا؟ هل سرقناه؟ أما التنقل إلى المدن " التاريخية" - كما تقول - فذلك لا يهمني. اشتر لي إذن البيض والدقيق واللوز لأعد بعض الحلويات نأخذها معنا.‏

    نظر إليها وتنهد!‏

    - لماذا تتنهد؟ أنت الذي قلت : إن الدراهم لا تكفينا...‏

    - وهل إذا كانت الدراهم لا تكفينا، تكفينا الحلواء غذاء؟‏

    وأضاف في نفسه : " ماري آنطوانيت " موجودة في كل امرأة !‏

    - أنا أستطيع أن أتغدى وأتعشى بالحلواء..‏

    - ماشاء الله، ماشاء الله..!‏

    - أنت لا تحب الحلواء لأنك مريض، وتظن أن الناس كلهم مرضى، أقصد: لايحبون الحلواء..‏

    - تقصدين!‏

    فكر الزوج أن الستمائة دينار التي يسمح القانون بتبديلها بالعملة الأجنبية من المستحيل أن تكفي لنفقاتهما، مهما قصرت الإقامة، ومهما قتّرا على نفسهيما، وبما أن السفر صار أمراً واقعاً، لامحالة، وإلا انجز عن عدمة نسف حياتهما الزوجية من الأساس، رأى أن يبحث لدى معارفه، عساه أن يجد من يبذل له فرنكات فرنسية بديناره الجزائري فالمهربون وتجار السوق السوداء يشكلون دولة اقتصادية موازية، تنخر جيوب النزهاء أمثاله من المواطنين.‏

    كما قرر في نفس الوقت أن يكاتب قريباً له يعمل بفرنسالعله يرسل إليه مبلغاً من المال، إذا اضطر إلى ذلك، عندما يصل إلى تونس، ويعطيه كعنوان قباضة البريد المركزي، يحفظ فيه باسمه. نجحت المحاولة الأولى في الحصول على الفرنكات الفرنسية. وتألم لذلك البخس والإهانة التي يلاقيها الدينار الجزائري من تجار الكرامة. لكن ماذا يفعل؟ زوجته لا تتفهم كل هذه الأشياء، وهو لا يستطيع تعريض حياته الزوجية للإنهيار، كما فكر أن زوجته لهاجانب من الحق، فهي ترى جاراتها يسافرن ويتشدقن بمارأين ومالم يرين... إن إقامة الزوجة في البيت باستمرار مقرف بالنسبة إليها، الجزائر المستقلة تطورت، وتطورت معها حاجيات الناس، بل وحتى أخلاقهم وقيم حياتهم، وفرة المأكل والملبس لم تعد شيئاً رئيسياً في حياة الناسن فالنمو الذي تشهده البلاد سنة بعد سنة، وارتفاع القدرة الشرائية ،وتدعيم المواد الغذائية وغيرها من طرف الدولة جعل الكماليات في أعين الكثير تصير شيئاً فشيئاً من الضروريات!‏

    عاد الزوج في المساء فرحاً بما حوّله من عملة، لكنه في أعماقه كان حزيناً، إنه أقدم على التبذير متعمداً وأقدم على مخالفة القانون وتشجيع المهربين والمخربين، فهو بذلك يشارك في إجرامهم ضد الوطن، ولكن مالعمل؟ أييتّم أبناءه، أم يسافر بستمائة دينار؟ أي بتسعمائة فرنك فرنسي! لا، غير معقول، السفر يقتضي الحيطة وتوقع مالا يتوقع، وتساءل: " هل أنا أجرمت حقاً ضد الاقتصاد الوطني؟ لو سلكت الدولة طريقاً اقتصادياً آخر، وجعلت الناس يعتمدون على أنفسهم، ويعرفون حقيقة السوق العالمية، وتكاليف المواد التي يستهلكونها استهلاكاً عشوائياً، وماتكلفه لخزينة الدولة من مبالغ، لما وصلنا إلى هذا الجنون اللذي يجعل من كل ماهو أجنبي مفضلاً .."‏

    - بكم بدلوا لك هذه الألف الفرنسية؟‏

    - بألفين ومائتي دينار.تلك هي قيمتها، هناك بدل الألف بألفين وخمسمائة.‏

    - أتعتقدين حقاً أنها قيمتها؟‏

    - عزت عليك الدرهم من أجلي، لا لأنها عزيزة في نفسها عليك، أعرفك وأعرف مشاعرك ..‏

    - نعود إلى الخصام من جديد!‏

    - كم عندك من العملة الفرنسية؟‏

    - ألف وستمائة وأربعون فرنكاً..‏

    - نصرف الألف ونشتري بالستمائة " كوكوت مينوت" ( قدر سريع الغليان ) وأزر، وإذا فضل لنا شيء نشتري به ملاءة لي وكاسات حمام..‏

    نظر إليها الزوج متعجباً، لكنه لم يقل شيئاً، لأن كل كلمة تصدر عنه تنتهي بهما إلى الخصام. إنها زوجة لدّاء..‏

    لم تكن الليلة عادية، كسائر الليالي، إنها ليلة السفر إلى تونس بالنسبة للزوجة، لقد كانت تحس كأنها مقدمة على حياة جديدة. لم يسبق لها أن أخرجت من الجزائر إلى بلد أجنبي. لم يسبق لها أيضاً أن امتلكت جواز سفر مستقلاً. فكرت وهي تتصفحه أنه لم ينقصها عن امتلاك حريتها كاملة إلا الدراهم، لعن الله الدراهم ومن اخترع الدراهم، وعقّد بها حياة الناس وغلّ حريتهم.‏

    كان الهدوء يسود البيت. الأطفال ناموا لدى خالاتهم، الزوجان وحيدان الليلة، كليلة الزفاف، ولكن بدون متعة. الزوج يلعن في قلبه نساء الحي اللائي سافرن إلى الخارج في هذه السنة، ألف لعنة، لم يكن أحد في مستواه قبل سنوات قليلة، يفكر في السفر مع زوجته من أجل السفر! الحياة تبدلت. منذ سنين فقط كان الخروج من الجزائر للرجل يستلزم إذناً صريحاً من الولاية أوالدائرة، ماإن ارتفع القيد حتى هب الناس لمغادرة الجزائر ولو لوقت.كمالو أنهم كانوا بها مسجونين! ونسوا أو تناسوا، لوقت، إمكانياتهم المادية، وظروفهم المختلفة، كما لو أنهم بالسفر يثبتون لأنفسهم حقيقة زوال المانع من السفر. اقتصاد العائلات وتقتيرها يذهب في سبيل الحصول علىعملة أجنبية لانفاقها في لاشي. الجزائر يسيل ادّخارها كالنزيف من أجل العملة الأجنبية، كما لو أنها لا تملك عملة! الدينار صارأصفر، لا كالذهب، ولكن كالورقة الذابلة، ويعيد الزوج في نفسه أفكاره مشكلة في حروفها : " الألف بألفين ومائتين"! لعن الله السفر بلا ضرورة، لعن الله التقليد، لعن الله زوجتي هذه التي تنام إلى جانبي والتي أسافر معها غداً إلى تونس. لعنني الله أنا أيضاً!".‏

    وتقول الزوجة وكأنها تكلم نفسها :‏

    - لو كنت أنا التي تتصرف لأنفقنا في إقامتنا الستمائة فرنك واشترينا بالباقي ماينقصنا من حاجيات!‏

    الزوج لا يرد عليها، ولكنه يعلق في نفسه : " تحلم، تظن أن هواء تونس يغني عن الخبز والماء والمبيت، سوف ترى أيّ شيء هي الحياة في بلاد الناس، لو كنت أنا رئيس الحكومة لأجبرت الجزائريين على السفر إلى الخارج، ولو لأسبوع، ليعرفوا حياة الآخرين! وخطر بباله تفتيش الجمارك فاختلج قلبه:‏

    - أخشى أن يعثر رجال الجمارك على الألف فرنك!‏

    - وإذا عثروا عليها ماذا يترتب عن ذلك؟‏

    - يترتب عن ذلك أنهم يأخذونها ويمنعوننا من الخروج ويفرضوا علينا غرامة مالية، أو ربما السجن!‏

    - لماذا كل هذا، هل سرقناها؟‏

    - لأن تبديل الدراهم في السوق السوداء ممنوع.‏

    - هل تركنا سوقاً بيضاء مختارين ورحنا نبحث عن سوق سوداء؟ هم الذين أرادوا ذلك.‏

    - هذا كلام لا معنى له... المهم أين نخفيها؟‏

    - أضعها في حقيبتي.‏

    - حقيبتك، هل يصعب تفتيشها؟‏

    - أيفتشون حقيبة امرأة؟‏

    - ولم لا؟‏

    - إن ألف فرنك لا تستلزم مكاناً كبيراً، إخفاؤها سهل.‏

    - تعتقدين أن رجال الجمارك أغبياء! إنهم يعرفون كل المخابئ والحيل.‏

    استمر الحوار وتبادل الرأي بين الزوجين حول الموضوع فترة من الليل، استعرضا كل المخابئ التي يمكن أن تتسع لألفهما الفرنسية التي حصّلا عليها بصفة غير مشروعة. وانتهيا إلى أن أحسن مكان هو وضعها في كيس من النايلون داخل قطعة خبز! وكانت الزوجة هي التي اهتدت للفكرة، بعد ماعددت بضعة أماكن من جسمها لم تلاق موافقة الزوج.‏

    ***‏

    عند الساعة الحادية عشرة كانت الطريق قد ابتعدت عن قسنطينة والتوت مع مرتفعات لم تتخذ إلا التراب كساء لها، قبل أن تنحدر في اتجاه سكيكدة وعنابة. كان الزوج يرسل سيارته فتخطف الأرض خطفاً، ويمسكها فتتئد، ويقل أزيزها، فتتمكن الزوجة من الإفصاح عن بعض الكلمات أو الملاحظات، ويستمر بهما الأمر كذلك إلى أن تنفصل طريق عنابة عن طريق سكيكدة، وتمتد أمام العين هذه الطريق واسعة صافية مستقيمة، فيتحفز الزوج في مكانه بصفة آلية، ويضغط على دواسة البنزين، فتشخر السيارة وتفتح أحشاءها ملتهمة ماتستطيع من السائل المحترق، لكي تزداد به احتراقاً، وتشق بعنف ذلك الجدار الهوائي المقاوم الذي أحدثته سرعتها، وتنفسح الأرض على جانبي الطريق كزرابي مترامية الأطراف، جميلة سهلة، تمتع النظر وتملأ النفس كبرياء، تقول الزوجة التي ترى هذه الجهة لأول مرة في حياتها، معربة عن اغتباطها:‏

    - كم هي جميلة هذه الأرض!‏

    لا يجيبها الزوج وإنما يعلق في نفسه: " لذلك لم يخرج الاستعمار منها إلا بسبع سنوات ونصف من الحرب الطاحنة".‏

    وكلما تقدمت الطريق ازدادت الأرض جمالاً وثراء حتى الحدود الجزائرية التونسية.‏

    لم تكن للزوجين في ذلك اليوم شهية للأكل، كانت شهيتهما مركزة على الطريق تلتهمها التهاماً.‏

    توقفا مرتين منذ أن خرجا من الجزائر، وقفتين قصيرتين، الأولى بعين السمار، قبيل قسنطينة والثانية بعد الخروج مباشرة من " القالة". لم تطل أكثر من نصف ساعة. عندما وصلا للحدود عن طريق " أم الطبول" حيث الجمارك الجزائرية، كانت الساعة الرابعة والنصف، وهناك كان عليهما أن ينتظرا ثلاث ساعات كاملات، كانت السيارة تتقدم بهما سنتيمتراً بعد آخر، لكثرة السيارت التي تتقدمهما، منتظرة دورها للاجراءات الجمركية والأمنية بالحدود الجزائرية. علقت الزوجة:‏

    - الجزائر كلها ذاهبة إلى تونس!‏

    لم يرد الزوج على الملاحظة، كان موكب السيارات فعلاً مذهلاً، وفكر أنه في السنوات المقبلة ستصير هذه الحدود في فترة الصيف أشد اكتظاظاً مما هي عليه، ولاسيما إذا استمرت الأمور على صورتها الراهنة.‏

    خرجا من الحدود الجزائرية دون أن يسألهما أحد هل كان معهما شيء، حتى العون الجمركي لم يطلب منهم سوى فتح الصندوق الخلفي للسيارة، ليس إلا.‏

    أما في الحدود التونسية فقد شهدا حادثتين تأثرا لهما تأثراً كبيراً، الأولى عندما رأيا رجال أمن الحدود التونسية منعا عائلة تتركب من زوجين وابنيهما من الدخول إلى تونس، بحجة أن مامعهم من مال لايكفي لإقامتهم، وقد حاولا عبثاً إقناعهم بأن هناك أحد أقاربهم بفرنسا اتفقوا معه على أن يرسل إليهم حوالة إلى تونس، والحادثة الثانية، عندما شاهدا رجال الجمرك التونسية يمنعان مسافراً جزائرياً من إدخال صفيحتين من البنزين، إلى تونس، فأشاروا عليه أما أن يعود إلى الحدود الجزائرية ويترك بنزينه هناك، إلى أن يعود، أو يريقه. لم يقبلوا منه ذريعة ولا توسلاً، فاضطر لإراقة الصفيحتين على مرأى من المسافرين!‏

    أما هما فلم يلاقيا صعوبة تذكر، فبعد ما انتهت الاجراءات الجمركية العادية سألهما عون الجمارك : هل معهما قهوة أوشاي أو حناء أو سكاير، فأجابا بالنفي، وسألهما عما بصندوق السيارة فأجاب الزوج إنه فارغ، فسمح لهما بمواصلة الطريق.‏

    فرح الزوج بكذبه فرحاً كبيراً، إن بنزينه نجا من الإراقة، وشكرته زوجته لأول مرة على كذبه ومسكه لأعصابه أمام العين، ولاسيما أنه شاهد ماوقع لصاحب البنزين قبله، قالت له:‏

    - لو لم أكن على علم بالبنزين لاقتنعت أنا بجوابك. كنت رائعاً!‏

    - الضرورة هي التي فرضت عليّ الموقف.‏

    لم تجد الزوجة تونس كما كانت تتصورها مطلقاً، كانت تعتقد أنها منذ أن تجتاز الحدود ستسير تحت ظلال غابة كثيفة الأشجار، ممتدة الأطراف، وتجد مدينة تونس غارقة في خضرة الأشجار والأزهار! لطالما سمعت وصف تونس بالخضراء... شعرت بنوع من الخيبة، لعدم تطابق الصورة الخيالية بالصورة الحسية. وأدركت أن مدينة الجزائر أشد اخضراراً وازدهاراً ألف مرة، وأكبر بكثير من مدينة تونس، ولعل ذلك ما خيّب ظنها أكثر. لكنها لاحظت مع ذلك مسحة من الجمال الغريب في هذه المدينة التي تشبه مدن الجزائر الجنوبية. مسحة من جمال يصعب تحديده، أو إرجاعه إلى عامل معين، إنه جمال يرتسم على وجوه المارة، على الشوارع العصرية والقديمة، على الأسواق العربية التقليدية، على الفن المعماري، على الحياة الهادئة الوادعة الرقيقة. ويرتسم بالخصوص على واجهات المغازات العامرة بمنتوجات الحضارة الغربية!‏

    كم وقفت منذهلة إعجاباً أمام أدوات المنزل من مكينات لصنع الجبن والياوورث، وقدور سريعة فولاذية، ومعدات لصنع الحلواء، ومكينات لنسج الصوف والخياطة من طرازات مختلفة... والأواني.... آه، ما أجملها وما أكثر أنواعها! إنها تصنع الأطعمة وحدها أو تكاد!‏

    والفواكه.....‏

    والمعاجين والمربيات والمصبرات المصنوعة في أوربا...‏

    يا إلهي، تونس فيها كل هذه الخيرات، وهي أفقر من الجزائر !....‏

    وتتملكها حالة من الحزن العابر وهي تفكر في كل ذلك، طبعاً، تسأل زوجها أحياناً: لماذا هنا تتوفر كل الخيرات، وفي الجزائر تمضي حياة ا لناس في الطوابير على أتفه الأشياء؟ لكن جواب زوجها لا يقنعها ولا يروقها: يقول لها مرة: إن القدرة الشرائية في الجزائر مرتفعة أكثر مما هي عليه في تونس، وأن الجزائر تحاول أن تصنع بنفسها مستهلكاتها، ولها صناعات ثقيلة وخفيفة مختلفة. لابد من حمايتها والتضييق على المستوردات الأجنبية، وأن الجزائر بلد اشتراكي....‏

    عندئذ تجيبه: قل لي كذلك! الجزائر بلد اشتراكي! هل الاشتراكية هي الخصاصة ونقص المواد؟ إذن ما قيمتها؟ يحاول افهامها أن الخروج من التخلف يقتضي كثيراً من التضحيات وكثيراً من الحكمة...لكن كلام زوجها لا يعجبها بطبيعته. تجيبه باستخفاف : إذا كان الخروج من التخلف يعني البقاء في التخلف مدى الحياة، فماذا أفعل بـ " التقدم" بعد ماأموت؟ لالا! الحقيقة هي غير ذلك....‏

    في الواقع لو استطاعت لما فكرت: ماذا تشتري، وإنما تشتري كل شيء، تملأ القطارت والطائرات والشاحنات، وكل وسائل النقل، حتى حقيبتها اليدوية! تشتري كل شيء وتعود إلى الجزائر، ويراها الجيران وغير الجيران، ويسألونها عن مشترياتها وأسعارها، وكيف وجدت كل تلك الأنواع من البضائع... وتخبرهم بما رأت وشاهدت في الأسواق والمحلات التجارية.وتحدثهم كيف ساومت وهاودت وحصلت على الأشياء الثمينة بالثمن البخس في تونس!وتحدثهم أيضاً كيف قتّرت وفضلت أن تملأ يديها على بطنها. وتذكر لهم إن لزم الأمر الفكرة التي استنبطتها هي وزوجها للحصول على المال...‏

    إن ذلك حديث شيق حقاً، يمتع المتحدثة والسامعة معاً، وتذكرت وهي تستعرض كل ذلك في نفسها، أنها عندما تتحدث عن التقتير لابد أن تستثني الموز، وتعترف بأنها أكلت منه أكثر مما يتصور العقل! وبحثت عن صورة تقدمها لمستمعاتها عما أكلته من موز، ليكون الحديث أبلغ والاعتراف أدل، وسألت زوجها:‏

    - كم طول حبة " البنان"؟‏

    - قلت لك كم من مرة بالعربية يسمى " الموز"!‏

    لم ترد عليه امتعاضاً من " ركاكته " هي تسأل عن طول حبة الموز وهو يسأل عن " عرضها"! لم يفهم أن لذتها وهي باسم الموز لا ترتفع إلى مستوى لذتها وهي باسم البنان!‏

    ثم تذكرت أن لفظة "بنان" بالعربية تعني أطراف الأصابع أو الأصابع كلها، إذا كسرت الباء، وأن صورة الأصابع أقرب إلى صورة الموز من كلمة "الموز" التي لا تصير شيئاً!‏

    - والبنان، أليس اسماً عربياً؟‏

    - ليس اسماً عربياً.‏

    - أصلاً؟‏

    - أصلاً..‏

    - والأصابع، أليست بنانات صغيرة؟‏

    صورة الأصابع لاءمت ماكان يعتمل في نفسه على زوجته:‏

    - أما أنها أصابع فهي أصابع... وقوية! لم تترك لنا مليماً؟‏

    - تعيّرني بذلك، هل أكلت وحدي؟‏

    عاد به فكره إلى سؤالها: " كم طول حبة الموز" فقال:‏

    - ما أكلناه من موز، لو وضعناه موزة أمام أخرى لساوى في الطول شارع الحبيب بورقيبة!‏

    - أنت تبالغ، كعادتك..‏

    - الموز الذي اشترينا منه هذه الأيام، طول الواحدة لايقل عن عشرين سنتيمتراً!‏

    - كم طول شارع الحبيب بورقيبة؟‏

    - لا أدري، خمسمائة متر أو أكثر..‏

    كانا يمشيان بشارع الحبيب بورقيبة أثناء هذا الحوار العابث، وقد وصلا إلى مقهى فندق "المريديان" الذي يسمى " افريقيا" وشعر الزوج بالحاجة إلى تناول قهوة:‏

    - نأخذ هنا قدراً من الراحة، إذا وجدنا مكاناً شاغراً.‏

    - قل تريد أن تشرب قهوة، مائتين وخمسين مليماً كالمرة الفارطة!‏

    - فعلاً اريد قهوة. في هذا المقهى للقهوة نفس مذاق قهوة الجزائر، أما بالمقاهي الأخرى...‏

    فكرت أن تمانع لكن موضوع الموز مازال الحديث عنه لم ينقطع،والرغبة فيه مستمرة، فلوعارضته في تناول القهوة في هذا المقهى، لعارضها فيما بعد عند شراء الموز، قالت وهي ترى المقهى مكتظاً بزبائنه:‏

    - إذا وجدنا بقعة شاغرة، إن المقاهي هنا مكتظة في كل وقت، كأن الناس لاعمل لهم!‏

    لفت نظرها إلى أن الحديث في مثل هذه الأمور غير ملائم.‏

    - ولماذا غير ملائم؟‏

    - لأننا في الطريق وفي بلاد الناس، لسنا في الجزائر.‏

    واثناء ذلك لاحظا شخصاً كان جالساً قد استعد لمغادرة مكانه، فاسرعا إلى الطاولة قبل أن يسبقهما إليها الآخرون...‏

    ***‏

    السيارة أوصلتهما إلى سوسة والمنستير وعادت بهما في نفس اليوم إلى تونس، وأوصلتهما أيضاً إلى الحمامات ونابل وعادت بهما في نفس اليوم إلى تونس، وأوصلتهما العديد من المرات إلى قرى الاصطياف بالشاطئ على خط المرسى، وخلال تلك الأيام كلها لم تستطع الزوجة أن تنقطع عن المدينة وأسواقها ومحلاتها التجارية. التمتع بالنظر إلى البضائع المستوردة والتي فقدتها سوق الجزائر كان سبباً في ذلك، لكن هناك سبب أكبر: غلاء أماكن الاصطياف والسياحة.‏

    خلال إقامتهما بتونس لم يتصفحا جريدة، ولا استمعا إلى إذاعة ولا شاهدا تليفزيوناً.‏

    ذات يوم وهما بشارع بورقيبة، لاحظا مايشبه مظاهرة، يحمل منظموها أعلاماً جزائرية وتونسية وعربية مختلفة، وهم يهتفون : تحيا الوحدة المغربية! تحيا الوحدة العربية! علامات السرور بادية على الوجوه. بعض جلاس المقاهي يصفقون للمتظاهرين، صور رؤساء الأقطار العربية، ولاسيما تونس والجزائر كثيرة في أيدي المتظاهرين، كما لوأن الحديث يهم هذين البلدين بالدرجة الأولى، الجو في المدينة جو عيد، السيارت تطلق أبواقها معلنة الفرح هي أيضاً!.‏

    فكر الزوجان أن ذلك ربما وقع بمناسبة، مقابلة رياضية، أو زيارة لرئيس أحد القطرين للآخر.‏

    باختصار، لم يعلقا أهمية على الأمر، بل لم يكونا في حالة تسمح لهما بالتفكير فيما يجري بتونس. كانا يعدان صباحاً ومساء ماتبقى لديهما من مليمات تونسية وفرنكات فرنسية، ويحصيان ما اقتنيا من أدوات وملبوسات ومعدات، وفي الجملة كانا مسرورين بسفرهما وبتقتيرهما، مسرورين بما اشتريا. لم يكن ينغص ذلك السرور سوى تذكر صراط الجمارك، يوم الرجوع إلى الجزائر! إن مااشتريا لا تتسع لاخفائه قطعة خبز، ولا أعقاب أحذية، كما هو الشأن بالنسبة للدراهم، لقد اشترت الزوجة قدرين فولاذيين سريعين، صغيراً لكل يوم، وكبيراً للمناسبات، اشترت كذلك مكينة جبنة وأخرى للياورت، اشترت أيضاً أزراً وتحفاً فخارية، اشترت قففاً نابلية طالما تمنت الحصول على مثلها، منذ أن شاهدت قفة لدى جارتها، اشترت كذلك قلالا ودرابك، اشترت أشياء كثيرة يصعب عدها!‏

    واشترى الزوج صنابر وأقفالاً، اشترى أدوات حلاقة فرنسية الصنع، اشترى ملابس داخلية، اشترى قمراية (جبة صيفية تونسية) اشترى بعض قطع غيار للسيارة، كما اشترى تسجيلات موسيقية للشيخ العفريت وراول جورنو (مغنيان يهوديان بالعربية توفيا) وتسجيلات لعلي الرياحي، إذن المرور بالجمارك لن يكون على فرس ولكن على شفرة سكين!‏

    في الليالي الأخيرة لاقامتهما بتونس لم يعد حديثهما يتسع لأكثر من الرجوع إلى الجزائر، ومسألة الجمارك. لوكان بإيديهما أمر الوحدة بين القطرين لأمضياها بسهولة وبلا تحفظ ولا إبداء سؤال، ولو وجدا كثيراً من التجار يمضونها معهما! ولكن الوحدة بيد من ليس في حاجة إلى شراء بضائع!‏

    استعرض الزوجان كل الحيل والمبررات وانتهيا إلى أن الحل الوحيد هو أن يصرحا تصريحاً غامضاً، عندما يسألان السؤال المعروف: هل عندكما شيء تصرحان به؟ كأن يقولا مثلاً: بعض الأشياء العادية والذكريات..." فإن حالفهما الحظ فسوف يقتنع عون الجمارك ويدعهما يجتازان نقطة العبور بدون مشاكل.‏

    - وإذا لم يقتنع، ماذا نفعل؟‏

    - ماذا نفعل.؟ سنرى، لن يقطعوا رأسي على كل حال، لم أسرق، ولم أجرم، لايهمني مايقع!‏

    حل الأجل الموعود، رجعا إلىالجزائر على نفس الطريق الذي سلكاه في المرة السابقة، توقعا أن يجدا اكتظاظاً كبيراً في الحدود، لقد كانت سيارات جزائرية كثيرة عائدة إلى الجزائر، وصلا إلى نقطة المراقبة بالحدود التونسية، فلم يجدا سيارة واحدة! تعجبا، أوقف الزوج السيارة، وأراد أن ينزل فأشار له حارس هناك أمام المكتب أن يواصل طريقه، تعجب! لفتت نظره الزوجة إلى أن مكاتب الجمارك والشرطة مغلقة! فكر أن يسأل الحارس لكنه عدل عن ذلك.‏

    - غريب! لماذا المكاتب مغلقة؟‏

    - لعلهم في عطلة. كان ذلك رد الزوجة، توهمت أن العطلة تشمل أيضاً مراقبة الحدود.‏

    ثم واصلا طريقهما إلى أن انتهيا إلى نقطة المراقبة بالحدود الجزائرية، فلم يريا هناك أحداً بالمرة!‏

    - ماذا وقع؟‏

    - ترك الزوج السيارة تسير بمهل، وهو يلتفت يميناً وشمالاً لعل أحداً يوقفه. لم يوقفه أحد!‏

    ولما مرا بالقرية القريبة من الحدود لاحظا علائم الفرح والاستبشار مرتسمة على الوجوه والشارع، والناس في ملابس الأعياد والمناسبات السارة! إن كل مايشاهدان يزيدهما عجباً واستغراباً!‏

    ماذا وقع؟ إنه أمر غريب، الحدود بلا جمارك، بلا شرطة، بلا طوابير السيارات! ماذا وقع؟ لم يجرؤ على التوقف وسؤال أحد المارة، خشيا أن يقف في وجهيهما أحد أعوان الجمارك،ويسألهما : "مامعكما تصرحان به؟" لا، لا ينبغي سؤال أحد، الأفضل مواصلة الطريق والابتعاد بأكبر سرعة ممكنة عن الحدود.‏

    لم يكونا يصدقان بهذه السعادة المفاجئة : حدود بلا حدود!‏

    بمدينة القالة سأل الزوج أحد المارة، فأجابه ضاحكاً:‏

    - ألم تعلم بعد؟‏

    - ماذا وقع؟ قل لي يرحمك الله!‏

    - لقد أعلنت الوحدة بين الجزائر وتونس.‏

    - غير معقول !‏

    - لماذا غير معقول؟ لقد تقرر زيادة على ذلك قيام الوحدة في الأيام المقبلة بين كافة أقطار المغرب العربي، ثم في مستقبل غير بعيد قيام الوحدة العربية.‏

    - مستحيل! كيف قامت الوحدة بين الجزائر وتونس؟ مستحيل.‏

    حرك الرجل رأسه عجباً، من عدم تصديق الرجل له، انصرف وبقي الزوجان فترة من الوقت متوقفين ذاهلين! كان الزوج لايدري ماذا يفعل، وكانت تتردد على شفتيه : " مستحيل، غير معقول، مستحيل"‏

    - لماذا مستحيل.؟ لعلهما اتفقا على ذلك، وإلا كيف يمكن أن تبقى الحدود بلا حراس؟‏

    - مستحيل، من يستطيع التنازل عن سلطانه ورئاسته؟ مستحيل !‏

    - ماذا تنتظر الآن؟ ألست مسروراً بالوحدة التي أراحتنا من الجمارك؟‏

    إنني أحلم، إنه حلم، حلم صيف، ليس حقيقة!‏

    - لو كان حلماً لفتشونا في الحدود..‏

    - لم أكن أدري أبداً أن تقوم الوحدة بهذه السهولة، ويتنازل حكامنا عن كراسيهم! كأنه....‏

    - كأنه ماذا؟‏

    - لاشيء.‏

    - أقلعت السيارة. الزوجة فرحة بنجاحها ومشترياتها وسفرها عموماً، الزوج غارق في مشاعره، مشاعر امتزج فيها السرور بالدهشة، بالحيرة اللذيذة، بالحلم المقيم، بالأيام السوداء الطويلة، أيام الفرقة والحدود والجمارك واللعنات.‏

    إنه ليس حلماً، ولكنه حلم .. حلم قد تحقق!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()