حين التقيتها قلت: هذه من أنتظر، وهي التي ستحقق الأمن في مملكتي، وتضمن السلامة والهدوء لما تبقّى من الرحلة.
كان الاختيار صعباً، والبحث شاقاً، والوقت مليئاً بالأشواك والانفراغات؛ فأنا أخاف النساء، أخاف من عالمهن الغامض ليونةً أو قساوة، قبولاً أو امتناعاً. وأخاف أن أغرق في طمي العلاقة غير المحسوبة معهن؛ بالرغم من أني رجل يقر بالتكافؤ بين الجنسين، على أساس قبول الآخر كما هو لا كما يريد. ولكن بعد معرفة هذا الآخر، دون ترك ذلك رهناً للنصيب العجيب. هذا الذي جهدت للوصول إليه، ومضى الكثير من سنوات الرشد في ذلك، حتى خلت وسخر الكثيرون، وأكد الآخرون الذين (يريدون مصلحتي) أن معركة ولاية العهد لن تحدث في مملكتي التي إلى انقراض.. وكنت أقول محاولاً إخفاء الجدّية التي تسللت إلى كلماتي:
- على الأقل، سأنجو من شتيمة ولي العهد الذي لن يجد عهداً يولى.
كنت راضياً بقناعاتي، منشغلاً ببحثي، محاذراً في خطوي وقولي.
ورضيت عن لقيتي، ورضيت أكثر عن تعلقها بي..
***
ذات حديث مسائي لطيف، قالت سوسن:
- ستزورنا سعاد وزوجها..
وتابعت، بعد أن لاحظت عدم اهتمامي:
- أتعلم ماذا قالتْ يوم عرفت أننا اتفقنا على الزواج؟! قالت: أنا فرحة من أجلك يا سوسن، فحازم كخليل زوجي طيب و..
قلت وقد لاحظت توقفها المباغت: وماذا؟!
- لاشيء.. لاشيء، طيب ويحبك!
- إذاً خليل يحب زوجته؟!
ردت بعفوية:
- كثيراً، ولا يرد لها طلباً.
لم أعلق أو أهتم، حتى لو كان ذلك حقيقياً لا دعائياً، خطر لي أن أسألها كيف تعرفني، ولكن قبل أن أفعل قالت:
- حتى تعلم كم حدثتُها عنكَ!
وضحكتْ بمرح:
- كلهن يعرفنك ويهنئنني على نجاحي في الفوز بالعازب العنيد..
***
خلال تلك الزيارة وبعدها، كتمت شعوراً بعدم الراحة، وإحساساً بأن وراء هذه الدماثة واللباقة والأناقة ما وراءها. وقرأت خلف النظرات المواربة/ نظراتها بعداً برياً، وحول النظرات المترددة/ نظراته ملامح من فصيلة مدجنة. أما سوسن، فقد كانت في حال من النشوة والتوتر أضفت على اللقاء جوّاً من الحيوية، جعلني أحجم عن الإفصاح عن حقيقة ما استنتجته عند انتهاء الزيارة. أما ما جعلني أمتنع عنه في ما بعد، فهو رغبتني بعدم التشويش على علاقتنا التي لم تصبح رسمية إلا منذ وقت قصير،. وكي لا تبدأ المراهنات والحسابات على صدق حدسي منذ الآن؛ أنا الذي قضيت شطراً كبيراً من عمري أراقب، وأخبر، وأسأل، قبل أن أختار. وكان أن عرفت أنماطاً، وتعرفت على علاقات زوجية وغير زوجية وأدوار نسائية فيها كانت تبعدني أكثر فأكثر عن احتمال أن أقع على من أركن إليها. ولم يكن صعباً علي التكهن أن سعاد إحداهن، وهذا ما يحفز آليات الدفاع للعمل من جديد، تلك التي لم تصدأ بعد، وخاصة حين بدأت أحس مع مرور الوقت تغيراً في طريقة حديث سوسن، وزادت لهجتها حدة، وطلباتها إصراراً، وصارت تمر عبر حديثها عبارات أوسع مما يتطلبه المعنى، وكلمات أكبر من خبرتها.
وعلى الرغم من الوساوس التي جعلتني أخمن أنني كنت مضللاً ومتسرعاً، وأن ما حصل من اقتناع وقبول كان من نتاج جهل الأربعين، كما ذرت بعض الأفواه، فقد آثرت التجاهل والسكوت والترقب والحذر.
لم تكن سوسن، كما أعرفه عنها، حادة الذكاء ولا قادرة على التحايل أو الاستمرار في تمثل الحالة؛ إذ سرعان ما ينسرب اسم تلك المرأة على لسانها، من دون سبب ظاهر، وقد يدور اسم خليل أيضاً؛ فتظهر الخلخلة في بنيان الحديث، الذي كان يزيده تغافلي، وصبري، وثقتي بقدرتي على إعادة الأمور إلى أساسها حين يجدُّ الجد.
***
كان زواجاً عاقلاً خلواً من مراهقة أو مصادفة أو قرابة أو صفقات. لم تكن سوسن صغيرة لأعلّمها، ولا مغرورة لأروضها، ولا بائسة لأخفف عنها، ولا منكوبة لأواسيها؛ ولم أكن- كما قالت مراراً- من النوع الذي يخشى من طيشه أو بطشه أو نزواته أو عقده؛ فسني ووظيفتي ورزانتي وسمعتي كفيلة- إضافة إلى اقتناعها بي- بأن تجعل السلام عنوان علاقتنا، والوئام شعارنا، والتفاهم سبيلنا إلى أسرة لا تشغل الناس كثيراً بسيرتها، وهو ما لا يرضون عنه، ولن يقعدوا إزاءه مستسلمين.
***
تركت الأمور تسيل بسهولة ويسر على الرغم من أن التغير تسرب إلى سلوكها، وصارت بعض تصرفاتها لا تتناسب مع ما عرفته عنها. وتركت زوجتي تتحدث، وتتصرف، وتتمادى، وأنا منشغل عنها بالتفكير بما وراء تلك اللعبة التي بدأت أحس أنها تدار عن بعد.
وإذ أتساءل الآن عن السبب الذي دفعني للتريث وضبط النفس والمراقبة، لا أجد جواباً أكيداً يريح؛ لقد تحقق فعل الزواج الذي كان الهمّ الأكبر، وإن لم أصرح بذلك، وحالي الوظيفية مستقرة، وحياتي رتيبة مبتعداً عن طواحين الحياة التي تدور محمومة على حلبات كثيرة
جارشةً الأوقات والأشخاص والحوادث والخلافات والوفاقات والأسر والعلاقات والصداقات..
ولست منشغلاً بمقاييس الربح والخسارة، مقتنعاً بما تيسر لي، وما يمكن أن يكفيني شرَّ الحاجة والغنى. فهل كان لثقتي بنفسي، وخبرتي، وعمري، وسمعتي، دور في متابعتي فصول لعبة أتتني إلى حيث لا أتعب في ذلك، واستساغتني اقتفاء آثار بدأت تظهر في الزيارات المتكررة؟!
صرت أراقب خليلاً، وأسأله، لتجيب نيابة عنه، شارحة مستفيضة مادحة طيبته وبراءته. فتنتشي سوسن، وتتابع أقوالها، مؤكدة أن هذا ينطبق عليّ، وأنهما الاثنتين قد احتضتا بليلة القدر! ولم تنس سعاد حين تضحك لهذا أن تسدد إليّ نظرات لا تغيب معانيها عن ملاحظتي، ولا يمنع هذا من تغافلي، أو يحد من متابعتي الوقوف على حافة النهر، محاذراً أن أمد إليه ساقي، لأن السباحة ليست من هواياتي، ولابأس من متابعة جريانه الذي يبدو هادئاً، لولا أطراف دوامات تلفّ أوراق الشجر التي تُسلَّم أقدارها إليه.
كانت أصداء تلك اللقاءات تتتابع في البيت: إذ يدور كلام سوسن في المنحى ذاته، وبالطريقة نفسها، وبدا في حديثها ما يشد إلى متابعته، حتى أن ملامح جديدة صارت ترتسم على وجهها، وهي تتكلم، وتتضاحك، وتتباهى بمواهب تُكْتَشَفُ، وقدرات تتنامى، وكنت أنصت إليها مع طيف ابتسامة تغيرت معانيها، بعد أن كانت ابتسامة فخر ومباهاة وسرور باكتشاف اللعبة، والسخرية من عقل سوسن والنساء وأفكارهن. فقد صرت أحس إشراقات متعة تدغدغني، بين ثنايا حديثها، وفي منعطفات حركاتها، وصرت أحس اللذة في ابتكاراتها، أو إبداعاتي، بعد أن كانت البرودة والآلية والواجب والرغبة في الإنجاب وراء مقارباتنا التي تلت أيام العسل الفاترة. وهذا ما زاد من رضى زوجتي ورضاي الذي- كما أشارت مرات- يظهر على ملامحي وحركاتي.
حين تأتيني بأكلة جديدة، أو رغبة بإلباسي ثوباً مميزاً يناسبني، أو تقترح مشاريع رحلات وتحسينات في الأثاث، كنت أ قرأ رسائلها تلك، وأنتظرها باهتمام، وأستقبل هداياها المبطّنة بمتعة انعكست على علاقتنا الزوجية، فازدادت حميمية، وهذا ما زاد من سعادة زوجتي وحيويتها.
صارت معي في البيت إلى درجة أنه لم يكن من الضروري لقاؤها أو زيارتها، لولا إلحاح سوسن التي تشهد دائماً أنها تحبنا، وتتمنى لنا كل الخير، وكان هذا كلامها هذا، وتأكيدها، يسري بعفوية وطيبة، أكدتها سعاد في إحدى الزيارات حين قالت موجهة الحديث إليّ:
- أنت لديك كنز، كما أنا، إن سوسن طيبة وبريئة كخليل تماماً.
وفي حين احمر وجه خليل، وأخفض رأسه خجلاً، وهز ركبتيه، حدث لسوسن ما لم يكن بالحسبان، فقد انتفضت، وغادرت الغرفة، ولم تعد إليها رغم إصراري، فاعتذرتُ للضيفين غير الغريبين وعكةً مفاجئة أصابتها.
بعدها توقفت عن الكلام، صمتت، وصمت كل شيء لديها، وأصاب الاصفرار وجهها، وانقبضت ملامحها، وتلاشى كل ما كان من حياة فيها. ظننتها مريضة، أو أن بها حالة من حالات اضطرابات الأنثى، لعله الحمل الذي ننتظره، لكن الأمر كان غير ذلك، ولم تنفع محاولتي التخفيف عنها، أو الاستفسار عن السبب الذي أورثها هذه الحالة.
وحين زارتنا سعاد مستفسرة عن غياب سوسن زميلتها في العمل وصديقتها المزمنة، لم تنظر في وجهها، ولم ترحب بها، وبدا الضيق قارساً على ملامحها، ورأيتها تلاحق خليلاً المنكبّ يراقب حذاءه وأقدامنا، وتسترجع النظر إليها وإليّ منكمشة منقبضة.
حاولت تجاوز الموقف، وبدأت أشرح للزائرة أن الأمر عارض طبيعي يزول، راجياً أن تساعدني في إقناعها بمراجعة طبيب بما لها من دالَّة عليها، لطول العشرة والإلفة.
قالت لها: أنت لا تستاهلين المرض، ولن نتركك له، أنت مهمة بالنسبة لنا، أنت لا تقدرين بثمن، كخليل تماماً.
قامت من رقدتها كأن مساً أصابها، انفجرت في وجهها، قالت في حقَّها كلاماً فاجأني وأذهلها، وطردتها، ثم ارتمت على أرض الغرفة فاقدة الوعي.
انسحبت سعاد وتابعها، وتركاني أنا الحذر العصيّ الخبير، عاجزاً عن التفكير أوالتصرّف.