بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:31:04 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1180 0


    الانفجار

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. ناديا خوست | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الانفجار ناديا خوست

    هل تردد، هي أيضاً: يهرب النهار قبل أن أنجز ما أريده؟ ويكون العمر هو تلك الأجزاء الصغيرة كالفسيفساء تضع إحداها إلى جانب الأخرى مسرعة في نهاية كل يوم، ويضيع بعضها أو يتكسر بعضها الآخر؟‏

    في الطريق إلى المدرسة، كانت وهي صبية، تلف كتبها بمحفظة خفيفة، وتحمل دواة حاضرة للرمي على من يغازلها. الحب؟ أكثر سعة من ذلك الغزل المسرع! والحب لا يأتي هكذا! كيف يأتي؟ لا تعرف بعد! لكنه سيجد أجنحته ويصل ذات يوم مستقلاً وحراً! تقول لها أمها: احملي القهوة وادخلي! فتجيب: ليبفرج علي أهل رجل لا أعرفه، ولم أوافق بعد عليه؟ ترد أمها: لن يأكلوا منك قطعة! وهل عندك سبل أخرى إلى الزواج؟ بماذا تجيب؟ تقول: الدراسة الآن تشغلني! عندك مانع يا أمي؟ من يستطيع أن ينكر ذلك السبب الوجيه! ليس أهلها، وليس زمنها من يزوج البنات صغيرات ويخرجهن من المدارس! لا تزال في الذاكرة كلمات قاسم أمين!‏

    في الطريق إلى المدرسة، كانت تمشي خفيفة، سريعة، هاوية. تنتبه إلى أشجار الزنزلخت المزهرة، تمر تحتها، تمتص عبقها، تشرب لونها الناعم البنفسجي. سعيدة؟ نعم، سعيدة! أمس نزل المطر غزيراً، مجنوناً، بلّل ثيابها، وصل إلى قميصها، عبرت بحيراته وجداوله. آه، بلّل حذاءها الوحيد! غسلت جواربها، وجففتها على المدفأة. مررت شريط رأسها على بوري المدفأة فكوته. ولكن كيف يجف حذاؤها قبل الصباح؟ هل كان يجب أن تبكي يومذاك؟ لا دمعة! كأن الحياة وعدتها بأنها ستكون كما أصبحت فيما بعد. أتى الصباح مشرقاً، وعبق الزهر والعشب الجديد فوق أكوام تراب منسية في الطرقات. لايزال لونه حتى اليوم نضراً في ذاكرتها. فتح طريق واسع فوق الحديقة التي كانت تجمع صقيع الصباح الأبيض هناك، وتغير المنظر كله، لكنها ثبتته بألوانه وخطوطه نفسها في ذاكرتها وقالت، عندي لن يموت!‏

    أين ذلك البستاني، وبيته الطين، وبقوله، أشتال البندورة والفليفلة والباذنجان التي كان يزرعها في بستانه على حافة طريق المدرسة؟ كانت تتفرج وهي تعبره على حبات الباذنجان اللماعة بين الأوراق، وتشم عبق ورق البندورة، وتلمح الساقية وعلى كتفها شجرة الجوز الكبيرة. وكانت الرطوبة تهب عليها من هناك. كأنها مشت في الحياة كما مشت يومذاك في طريق المدرسة، مستقيمة، تنظر إلى الأفق . يقول من يراها ثابتة، مثابرة، إنها تذهب إليه وقريباً، قريباً تصل!‏

    في طريق المدرسة تعترض إحدى رفيقاتها على مشيتها: تسرعين! ولم العجلة؟ سنصل إلى البيت، وسنكتب الوظائف الثقيلة! حقاً لم العجلة! في طريق المدرسة فتيان يحلمون بفتيات، ورجال يبحثون عن زوجة مناسبة، ومغامرون يبحثون عن صيد، والفتيات يمشين في هدوء، ويستمتعن بذلك وهن يظهرن أنهن لا يلاحظنه، ويحلمن بحب عظيم أو زواج سعيد، وربما بمغامرة صغيرة يتفرجن فيها على لوعة المحب. حقاً، لم السرعة؟‏

    تنظر هي إلى البساتين الباقية على طرف الطريق، وتجمع البرودة التي هبت من المزروعات هناك. ستحب مثلهن ذات يوم. لكن ذلك الحب سيكون واسعاً، أخضر مثل البساتين، يرافقها مثل هذا الطريق إلى الأفق. كيف سيأتي؟ من سيسعى إليه؟ لا تعرف بعد، لكنها مؤمنة بأنه سيكون في وقته لا قبل ذلك ولا بعد . سيأتي كما يأتي زمن المشمش، وستنتبه إليه من بدايته حتى نهايته. لا، ماذا تقول؟ لن ينتهي أبداً!‏

    مشى مرة إلى جانبها في ذلك الطريق نفسه، الشاب الذي تعرفت إليه في الملعب. يبدو أنه أحبها. عبر عن ألمه لأنها تمشي دون أن تنظر إليه. يريد أن يكون هو مكان الأفق الذي يواجهها وهي تسير؟ لا! قالت له الوداع . وعبرت الطريق إلى المدرسة .خلف المدرسة رأت الأفق.‏

    كيف تخلصت من دروس العروض ؟ اف! لم تحبها أبداً . جثمت على السنة كلها! سألت المعلمة: هل كان الشعراء العرب يعرفونه؟ يا للسؤال السخيف! بالسليقة أنشدوا الشعر. لم يعرفوا النحو . ندرسكم ذلك لأنكم دون سليقة!‏

    ماذا تقول هي اليوم في طلابها وطالباتها الذي لا يكتبون بلغة سليمة؟ تقول لهم: تخطئون في اللغة فيجيبون: لكن معادلاتنا صحيحة. ما شأن العلوم باللغة! هل تلومهم أكثر مما تلوم بنتها التي كتبت لها مرة رسالة ركيكة؟ صغيرة؟ ليس ذلك عذراً! يا ربي، ما العمل؟ تناولت حملاً إضافياً، تناقضاً جديداً بينها وبين الجيل الجديد الذي لا يتذوق لغته لأنه لا يعرفها ولا يريد أن يعرفها.‏

    هل قفز العمر بمثل تلك السرعة من الطريق المحفوف بالبساتين الذي مشت فيه إلى المدرسة، إلى هذا الطريق الذي تحف به البنايات وتقود فيه سيارتها الآن إلى الجامعة وهي تلبس طقماً متوهجاً، مرتبة الشعر، جميلة؟ كانت يومذاك تلبس ملابس المدرسة، وجوارب قصيرة. نادتها المديرة: جوارب قصيرة؟ في مدرستي لا أقبلها! " مدرستها؟" . ولكن من يجسر أن يقول للمديرة هذه ليست مدرستك بل مدرستنا؟!‏

    لا تذكر اليوم كيف وجدت تلك الجوارب الطويلة ووضعتها في محفظتها، وصارت تلبسها عند باب المدرسة . تقول لها رفيقتها: عناد! لا يستحق الأمر هذا العناء! ترد: بل طريقة في الحياة، الدفاع عن الرأي يستحق العناء. لتكن للمديرة فقط باحة " مدرستها " حيث اضطر إلى المرور أمامها!‏

    فيما بعد عرفت أن تلك المديرة خرجت في أول مظاهرة نسائية نزعت الحجاب علناً في ساحة المدينة وتحدّت ماء الفضة. تساءلت يوم عرفت ذلك: كيف أصبحت تلك الشابة الجميلة في الصورة بشعة وقاسية كما تبدو الآن وهي مديرة؟! فهل تستطيع أن تتساءل اليوم التساؤل نفسه وهي ترى الناس رجالاً ونساء ينقلبون أمامها من الجمال إلى البشاعة؟ كان يخيل إليها أن الانهيار قرار صعب أو قدر مستحيل. لكنها في هذه الأيام استنتجت حقيقة جديدة: أن الانهيار إغراء سهل، لا هزيمة فقط، وأن الانسان يجب أن يدافع حتى عن ظهره المستقيم . ودافعت عنه! ظلت تحضر دروسها في عناية ، ظلت تصحح أوراق طلابها في انتباه، ظل تراجع المستوى العلمي يقلقها، ظلت تناقش في حرارة المشاكل التي نوقشت مرات. وبقيت تهوى الزهر الذي يعبق في الصباح، وتلبس ألواناً مفرحة، وتوزع نباتاتها في الشرفة الصغيرة، وتزين جدرانها بصور لوحات، وتخيط للستائر حافة من الدانتيل. ظلت تحب البسط الملونة، وشغل الإبرة، وإطارات الصور القديمة.‏

    " هل أمسك بكل تلك الأشياء، وأمسك حتى بأصوات العصافير في ساعة معينة من المساء والصباح، كي أثبت في الريح التي حملت أصحابي بعيداً عن المكان الذي التقيت بهم فيه؟ غير جيرانها وأصحابها ملابسهم. من كانت تصافحه أمس يسحب يده اليوم كيلا تلمسه . يخشى الدنس! هي دنس؟! من كانت تزوره لا يرحب بها اليوم. حاول هدايتها، وعندما نظرت إليه دهشة، ابتعد . عمل واجبه، يئس وانصرف! عمل واجبه في هدايتها، هي التي ابتعدت عن مدينتها وأهلها لتدرس، " اطلبوا العلم ولو في الصين"، ومشت هناك أيضاً ثابتة الخطوة في الريح والثلج، وعبرت الممر بين عصر وعصر، وانتزعت شهادة بالذكاء والتفوق لعالم أتت منه، هي تحتاج أن تهديها امرأة جاهلة؟ أين بقي طريقها الذي تمشي فيه مثابرة مسرعة؟ من جانب سراويل ضيقة، ومن جانب آخر ثياب قاتمة حتى الأرض وبراقع قاتمة. حروب وجرائم . انقلابات وتوبة. ماض يحترق وحاضر يرتجف. كأن ريحاً عاتية جرت الناس إلى الندم على حياتهم الماضية كلها، فنفضوها كما ينفض الغبار عن السجاد. لم يتركوا ثنية يخبئون فيها نزهة أو حباً أو ذكرى . كأن تلك الأفراح كانت إثماً .‏

    عادت هي إلى طريق المدرسة، ومشته كله. خلعت مرة أخرى جواربها الطويلة عند باب المدرسة، ولبست القصيرة وهي تخرج من المدرسة. حمت رأيها! جففت مرة أخرى حذاءها الوحيد المبتل. ماذا تفعلن في الصيف يا بنات؟ لنتبادل الكتب! هكذا بدأ النادي الذي جمع بنات صفها . لنذهب ماشيات إلى الضواحي! لنتعلم كرة السلة! لنتعلم الرسم! لنتفرج على درس القمح! الدراجة؟ السباحة؟ كيف؟ أين؟ بكم؟ أنا التي كنت أسرع في طريق المدرسة، أم السريعة تلك السنوات السعيدة! متى المسابقة يا بنات وما هي الأسئلة المتوقعة؟ حضروا القهوة كي نستطيع السهر حتى الفجر! لكن هل سننجح ؟ تضحك: إذا الشعب يوماً أراد الحياة... قصيدة الشابي التي تعلمناها. نسيناها؟‏

    ثم نادتها رفيقاتها: هنا اسمك على لوحة الإعلانات! الاختصاص؟ إذن كان بينها وبين الحياة حقاً وعد! اتفقنا معاً! بقي الحب؟ فيما بعد سيأتي . هل سيأتي بنفسه؟ ابحثي أنت أيضاً عنه! بين طيات الدراسة وجدته. ناعماً، رقيقاً، دون مواكب، ودون قصائد شعر، دون سهر تحت نافذة المحبوبة، أو ملاحقتها في الطريق. ولم يكن فيه رسل أو بحث عن الخواتم والأساور. استعارت من صديقتها ورداً أبيض للرأس، وكان عندها صدفة ثوب أبيض. وأي عرس جميل! تجولت في المدينة، في الليل كله يومذاك!‏

    قالت لطلابها مرة: كان جيلنا محظوظاً! وتذكرت كيف وجدا بيتاً وكيف حملا إليه طاولة الطعام مع أصدقائهما في الطريق! نعم، في الطريق! وحمل بعضنا الكراسي. وكيف مشينا؟ لم الخجل؟ كان الطريق لنا، لازحمة فيه. وتذكرت كيف ناما في البداية على فراش على الأرض في بيت واسع أغلقا غرفه الفارغة كلها. وهناك استقبلا أصدقاءهما . تذكرت أنها نامت على ذراعه سنوات. تذكرت أن المدينة كانت صغيرة، وجميلة، وخضراء، والأرصفة تسع الناس. قال لها طالب: جيلكم حمل لنا هذه الأيام! حشدتم في أيامكم ما سميتموه نهضة وتحررا وحشدتم أقصى الوهم والعنف! ارتعشت . هل تلومه؟ شاب، والأفق في الطريق إلى الجامعة تحجبه بنايات مرتفعة. أشفقت عليه. أيمكن ألا تملك إلا الشفقة عليه؟ وهل تستطيع أن تنجد حتى بنتها؟ في برهة شعرت أن الريح عصفت وحركتها من مكانها الذي ثبتت فيه حتى اليوم على طريق المدرسة وطرقات الغربة، وطريق العمل، وثبتت فيه حتى بين حرائق الحرب المجاورة . هل أراد الشاب أن يقول لها انهار كلامكم، انتهى زمنكم! في برهة شعرت بأنها تهرب راجعة لتحتمي ببيتها.‏

    قالت لها زميلتها: المرأة التي تشتغل زادت همومها بيدها. أضفنا إلى هم البيت العمل خارجه! كلت يدي من تصحيح أوراق الامتحانات. ولا شيء يستحق التصحيح! هل كنا على حق يوم اخترنا العلم والشغل؟ وكيف توهمنا أننا أنداد لزملائنا وحالنا هكذا؟ هل تندم هي أيضاً على ما اختارته وتخبىء في صندوق مظلم سري الأمس الذي عاشته؟ سألت زميلتها: كنت إذن عند الحلاق! كيف عرفت؟ عرفت أيضاً أنك صادفت عنده نساء يرتبن شعرهن خلف الستارة، لأنهن ذاهبات إلى حفلة. وفكرت أننا لا نستمتع بمثل تلك الحفلات ولا وقت لها لدينا؟ ورأيت هناك أيضاً بنات دون السادسة عشرة يرتبن ويصبغن لحفلة العرس، والعريس في الخمسين من العمر! كيف عرفت ؟ كيف؟‏

    في ذلك الصباح كانت قد رتبت هي الفطور، وغسلت هي الفناجين والصحون بعد الطعام، وخرجت مسرعة من البيت . لن تصل إلا في موعد المحاضرة لا قبله. منذ زمن طويل لم تعد تنام على زند المحب. ولم تعد عيناه معبأتين بالشوق. تخشى أن تعترف: هو أيضاً كالمهزومين، انطفأت فيه النضارة سيبقى ذلك السر بينها وبين الليل، حتى تخضر الدالية في الربيع.بنتها أيضاً تعود إلى البيت مطفأة العينين. قالت لها:أنت التي تتعلمين وتقرئين، تسبّعين يديك بالتراب، وتخافين أن تعلقي من شعرك في جهنم! ردت: ذلك أفضل من لبس البنطال أو التنورة القصيرة وقلة الدين.‏

    تذكرت مديرتها القديمة. " في بيتي نفسه!" أسرعت في الطريق إلى المحاضرة . كانت تلبس طقماً متوهجاً، وكان شعرها مرتباً، وكان وجهها جميلاً، وما يزال قوامها رشيقاً. كانت يداها ثابتتين على عجلة القيادة، ثبات خطوتها في الطريق إلى المدرسة. وما تزال تحب النظر إلى الأفق. تساءلت: هل أردد أنا أيضاً أني عشت على غير ما أتمنى؟ وأن النهار ينتهي قبل أن ينجز ما قدرته له؟ ردت في هدوء على نفسها: أنا، لا!‏

    مع أن الريح حملت الغبار والأكياس الوسخة إلى بيتها أمس، فاضطرت إلى تنظيفه، ورغم أنها ستحضر في الليل طعام الغد، ورغم أن دعوة أهل زوجها إلى الغداء ستكلفها نهاراً شاقاً، شعرت بنسيم الصباح المنعش، وبالرغبة في الحياة. وتمنت أن تعود صبية إلى طريق المدرسة، تحمل دواة الحبر، وتمشي مسرعة، مسرعة، وتتلقى نسيم البساتين على طرف الطريق، وتلحق ألوان الغروب المبكر في العودة.‏

    عند الضوء الأحمر صادفت بستانياً يجر عربة خضار. التفتت إليه. نعم هو نفسه! هو ذلك البستاني الذي كان يزرع البندورة والباذنجان ويسقي البستان من الساقية وتهب من بستانه الرطوبة. نظر إليها . هل عرفها هو أيضاً؟ مكان بستانه القديم بناية اليوم. فهل ظل ثابتاً مثلها، فلحق بستاناً القديم بناية اليوم. فهل ظل ثابتاً مثلها، فلحق بستاناً آخر من البستاتين التي تبتعد عن المدينة، وهناك زرع خضاره، وسقاها، وتقف هناك الآن أيضاً شجرة جوز كبيرة على كتف الساقية ؟ لابد أنه عرفها!‏

    كانت تنظر إليه. وفي تلك اللحظة حدث الانفجار. في لمحة خاطفة كالبرق شعرت بأنها كانت تتوقع ذلك. بل كأنها رأته من قبل. لكنها لم تعرف هل كان الانفجار لغما وضع في سيارة فجرت من بعد، أم كان قصفاً من بوارج غريبة، أم كان قنابل رمتها الطائرات . في لمحة كالبرق لم تعد موجودة، فلم تكمل تساؤلها: هل كان موتها نهاية جيل أم نهايتها هي، أم نهاية زمن واحد فقط هو زمنها؟ فعند ذلك الضوء الأحمر تجمعت في باقة أجزاء حياتها كلها، المدرسة، زميلاتها، الطرقات، البساتين، وحتى حذاؤها الوحيد المبتل ومدفأتها نفسها، سريرها، نباتاتها، طقمها المتوهج، ملامح صاحباتها، تجمعت في باقة واحدة ثم تناثرت شظايا

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الانفجار ناديا خوست

    تعليقات الزوار ()