بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:56:12 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1356 0


    ثم ماذا؟!

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أبو العيد دودو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    أحس القاضي بهذه السخرية، فثبت نظره فيه، وقال له:‏

    - لاشيء بالنسبة إليك، وكل شيء بالنسبة إلي!‏

    فشعر السيد بالإهانة، وقال له:‏

    - وضح ماتريد قوله، فأنت قاض!‏

    قال القاضي:

    - كلامي واضح، وقد سبق لك أن اعترفت بوضوحه! أنا أولى بالمرأة من الراعي، راعيك، صاحب الحق فيها، كما يدعي، وأولى بها منك كذلك!‏

    ثار السيد، واحتقن وجهه، فقد أحس أنها ستفر منه، بعد أن تصورها بين يديه بناء على ماكان فهمه من حديث القاضي مع الراعي- تفر منه كما يفر الظل، وقال:‏

    - بأي حق تكون أولى بها؟‏

    أجاب القاضي بكل هدوء:‏

    - لا تسأل عن الحق. لقد كنت تعرف أنني قاضٍ عندما جئت إلي، تطلب مني الفصل فيما وقع لك مع راعيك، وأكدت لي هذه الصفة أنت نفسك قبل حين، ولذلك كان عليك أن تنتظر مني هذا الحكم المنصف كل الإنصاف! ثم ألم تلاحظ أنها تبتسم لي منذ أن دخلت قاعتنا هذه!‏

    قام السيد بحركات، لفتت انتباه المرأة إليه، وما أن رأى بسمتها، وشعر بها تسيل فوق وجهه صبيباً من ماء الورد المنعش، حتى صاح:‏

    - لقد ابتسمت لي قبل أن تبتسم لك، وماهذا الإنصاف، الذي تتحدث عنه إلا إنصافك لنفسك. والقاضي لا يليق به مثل هذا الإنصاف! ولذلك فالمرأة لي، ولن أسمح لأحد بأخذها مني ولو وصلت من أجلها إلى القمة!‏

    فانتفض الراعي قائلاً:‏

    - كنت السابق إلى كل هذا، وقد جئت بها من القمة، ولن أدع أحداً يأخذها مني، وإذا ماهو استعمل القوة، فإن لي أنا أيضاً قوتي، وهي قوتي!‏

    نقل القاضي نظرة بينهما، وقال بلهجة حاسمة:‏

    - سواء كانت المسألة مسألة قوة أو مسألة إنصاف، فهي لي وليست لأي منكما.. وسأريكم مبلغ قوتي ونفوذي عند من نحتكم إليه بعد وقت قصير!‏

    ***‏

    احتد النزاع بين القاضي والسيد والراعي، وهم في الطريق إلى الحاكم، واشتد بشكل خاص قبل أن يدخلوا البناية، التي تعود أن يجلس فيها لاستقبال البعض من رجاله والمقربين إليه لضرورة ولغير ضرورة... والضرورة لا تكون في الغالب إلا لزيارة وداع أو لزيارة مجاملة- احتد النزاع حتى كاد يصل في أثناء ذلك إلى استعمال العنف، فقد تطور الأمر إلى هذا حين غلت الدماء في العروق، وتحولت إلى رغبة عارمة، وشرارة اشتهاء موقدة والمرأة تبتسم للجميع!‏

    ودخلوا على الحاكم، والمرأة تسير أمامهم، وقد خيل لكل واحد منهم أنها تضع بساطاً من بسمتها إلى من سيحكم له وينصفه، وكان الحاكم قد جلس في بهو واسع جميل، امتدت فوق أرضيته بُسُط وطنافس ذات ألوان زاهية، وانتصبت فوقها أرائك وكراسي مذهبة، وبدت على الجدران لوحات تتوسطها صورة جميلة، رحب الحاكم بالقاضي، ولم يستغرب أمر زيارته له، فما أن رأى المرأة وابتسامتها الفاتنة حتى خمن أن لديه قضية تتصل به شخصياً، قادته إليه مع مرافقيه الثلاثة، فهو لم يكن من عادته أن يأتي لمقابلته إلا إذا كان الأمر يتعلق بأي منهما من قريب أو بعيد. وأشار إلى المرأة بالجلوس أمام مكتبه، فجلست، وهي تنظر إليه مبتسمة، وطلب من القاضي أن يوضح له الأمر، وهو يسارقها النظر. لقد أدرك هو الآخر مالها من سحر وجمال، جعله يتململ في مجلسه!‏

    ولما انتهى القاضي من كلامه، طلب من السيد، وعينه تنتقل بينه وبين المرأة، أن يشرح له الأمر من وجهة نظره الخاصة، وحاول السيد أن يطيل في الشرح والتوضيح، غير أن الحاكم. طلب منه أن يختصر فأنهى كلامه بقوله:‏

    - القضية، ياسيدي الحاكم، بيني وبين راعيّ، ولكن القاضي أبى إلا أن يتدخل ويجعل من نفسه طرفاً ثالثاً فيها. وأنا أريد من سيدي الحاكم أن.....‏

    رفع الحاكم يده، وقاطعه قائلاً:‏

    - طيب.. طيب.. سنرى هذا الأمر فيما بعد.‏

    واتجه بعدئذ إلى الراعي، وأمره أن يروي له هو الآخر القصة من أولها إلى آخرها كما وقعت له مع المرأة أولاً ثم مع سيده. وتكلم الراعي وروى قصته بإيجاز كبير، إيماناً منه بأن الحق لا يحتاج إلى أدلة كثيرة وشرح مسهب طويل أمام حاكم يسهر على تطبيق القانون وإشاعة العدل والإنصاف.‏

    ولما انتهى من كلامه، أطرق الحاكم مفكراً لفترة قصيرة، ثم رفع رأسه، وأخذ ينظر إلى وجه المرأة نظرة اشتهاء، قبل أن يوجه نظره -وكم ود في أعماقه ألا يفعل ذلك- إلى القاضي، وقال له:‏

    - لماذا دخلت في الصراع وأنت قاض؟‏

    لمعت عينا القاضي وهو يجيب:‏

    - تدخلت في الصراع لإنهاء الصراع!‏

    قال الحاكم يخاطب نفسه:‏

    - دائماً التدخل في الصراع لإنهاء الصراع، ولكن لمن؟‏

    وابتسم بعد ذلك للمرأة، وهو ينظر إليها نظرة متثائبة:‏

    - ولكن القاضي لا يتدخل في الصراع ليكون طرفاً فيه.‏

    أجاب القاضي، وهو يضغط على مخارج الكلمات:‏

    - هناك، ياسيدي الحاكم، حالات تتطلب مني هذا النوع من التدخل، وهذه حالة من تلك الحالات!‏

    وتوقف قليلاً، ثم أضاف:‏

    - الحقيقة أنني ماكنت أنتظر منك أن تناقشني في أمر يخص وظيفتي وحدها!‏

    حدق الحاكم في وجهه، ثم ثبت نظره في عينيه، وقال في سخرية:‏

    - تقول في أمر يخص وظيفتك؟ ولكنك احتكمت في تدخلك هذا إلى الطبيعة ولم تحتكم إلى القانون!‏

    فقال القاضي معترفاً ومؤكداً قوله في الوقت نفسه:‏

    - أجل، ياسيدي! احتكمت إلى العادة كما كانت العادة حين يتصل مثل هذا الأمر بأي منا! وماعودتني أنت على تدخلك إلا في إطار هذا الحد!‏

    ابتسم الحاكم، وقال:‏

    - هناك حالات، أيها السيد القاضي، تتطلب التدخل أو المناقشة حتماً!‏

    أسرع القاضي يقول، وقد استغرب جوابه:‏

    - لكن هذه هي المرة الأولى!‏

    قال الحاكم:‏

    - وهي الحالة الأولى من هذا النوع بالنسبة إليك شخصياً أيضاً.‏

    فقال القاضي مبتسماً:‏

    - لقد فهمت ماذا تعني. ولكن...‏

    قاطعه الحاكم قائلاً:‏

    - القضية منتهية، أنا راض بحكمك مسبقاً!‏

    هنا نطق السيد، وقال وقد بدا عليه أنه لم يفهم ما لمح إليه كل من القاضي والحاكم:‏

    - لم ينتهِ أي شيء. فأنا أطلب أن يترك الأمر بيني وبين الراعي كما كان في السابق.‏

    قال الحاكم ببطء وكأنه يتهجى الكلمات:‏

    - كل سابق يعد منتهياً، لقد أخرج القاضي الأمر من يدك حين أظهر أنه الأقوى.‏

    حرك السيد رأسه مستغرباً:‏

    - في أي شيء هو الأقوى؟‏

    فأجابه الحاكم:‏

    - في المركز، في الوجاهة، وفي العلم!‏

    سارع السيد يقول:‏

    - كل هذا لا قيمة له. فلا شيء من هذا لمن لم يعرف الحق! والرجل رجل بمعرفته.‏

    ضحك الحاكم، وقال:‏

    - وهل عرفته أنت؟‏

    وهنا تدخل الراعي، وقال موجهاً الخطاب إلى السيد:‏

    - والشاب رجل يعرف الحق أيضاً.. بل أكثر من رجل. أنت أيضاً لم تعرف حقي. والسؤال، الذي وجههه إليك السيد الحاكم في محله. وأنا أصر على أن يرجع حقي إلي.‏

    واستدار السيد إليه، وقال حانقاً:‏

    - كل هذا بسببك!‏

    فصاح به السيد:‏

    - أسكت، أيها الراعي!‏

    قال له القاضي:‏

    - واسكت أنت، يارجل!‏

    فاهتز الحاكم في مقعده، وقال:‏

    - واسكت أنت، أيها القاضي! فالمرأة من نصيبي! وكفاكم نزاعاً وملاحاة!‏

    ***‏

    أراد الحاكم بعد ذلك أن يفرض سلطته، وأخذ يهدد ويتوعد إن لم يتنازل الرجال الثلاثة عن رغبتهم في المرأة، ولكن الرجال أصروا على موقفهم. كان كل منهم يدعي أن الحق بجانبه، ويؤكد أنه غير مستعد للتنازل عن حقه.. وقد سيطرت عليه فكرة التملك، وتراءت له جوانب النعيم المتعددة، واحار الحاكم، وفكر أول الأمر في استدعاء الحراس لإبعاد الرجال الثلاثة والاحتفاظ بالمرأة عنده، ثم عدل عن هذه الفكرة خوفاً من أن يفلت الأمر من يده، ويصل إلى المركز الأعلى، فينفتح الباب لطرف آخر ويغدو أكثر تعقيداً، ويحرم من بعض حقوقه وصلاحياته، منها هذا الحق الجميل! وأخذ يفكر مرة أخرى، بينما كان الرجال الثلاثة ينظرون إليه في قلق، وتوقع. وفجأة توجه إليه القاضي قائلاً، وكأنه قد قرأ أفكاره وعرف اتجاهها:‏

    - ليس من حقك، ياسيدي الحاكم، أن تكون طرفاً في الموضوع، فما بيدك أنت ليس بيدي.‏

    فسأله الحاكم:‏

    - ولماذا يكون من حقك ولا يكون من حقي أنا؟‏

    فرد القاضي قائلاً:‏

    - أنت تعرف أنه ليس من حقك أن تسألني هذا السؤال، فالجواب عندك!‏

    وتدخل السيد ليقول:‏

    - سيدي الحاكم.. بيدك أنت وبيد القاضي ماليس بيدي. فاتركا المرأة لي!‏

    وشعر الراعي أنه نسي، وطرح بعيداً عن قضيته، فهتف بدوره:‏

    - أنا أحق بها منكم جميعاً، ياسيدي الحاكم! لكم كل شيء ومالي أنا من شيء على إطلاق الإطلاق!‏

    قال الحاكم ساخراً:‏

    - أسكت أنت! نحن لا ندخلك في حسابنا، ما أنت إلا راع!‏

    فانتفض الراعي:‏

    - نعم. لا أنكر أنني راع، ولكني رجل مثلكم وسأرعى هذه المرأة كما يفعل الرجال! فردوا الحق لصاحبه! أهكذا يكون حكم القاضي وحكم....؟!‏

    بادر القاضي إلى إسكاته بحركة من يده، ونظر الثلاثة إليه في احتقار، وكانت المرأة تنظر إليه في إعجاب، والحاكم يحاول أن يلفت نظرها إليه بصوته الآمر وحركاته الرزينة، كان حريصاً على أن تكون له، غير أن تصلب الرجال الثلاثة يعد منافسة في المركز الذي هو فيه. فوضع يده على جبينه وكأنه يبحث فيه عن فكرة أقرب إلى المنطق والمعقول.‏

    وحين ظن أنه اهتدى إليها التفت إليهم وقال في شبه اقتناع دون أن يحرك نظره عن المرأة، وقد خيل إليه في أثناء ذلك أن هناك بريقاً ينطلق من عينيها وينتشر فوق بياض وجهها، ليشده إليها على نحو أكثر عمقاً ونفاذاً:‏

    - عرفت الآن أن كلاً منكم حريص كل الحرص على أن تكون المرأة له وحده، ومادام الأمر قد وصل إلى هذا الحد، فقد قررت أن نحتكم إلى المرأة! أاا أة! فليكن لها هي أيضاً حق الاختيار!‏

    فاهتز القاضي في مجلسه:‏

    - أعتقد أن هذا الأمر يخصني أنا، فأنا الحكم في مثل هذه الأمور. صلاحياتك، ياسيدي الحاكم، على كبرها، لا تمتد إلى هنا!‏

    قال الحاكم:‏

    - لم يعد يخصك شيء.. فقد خرجت عن وظيفتك ودخلت في طبيعتك!‏

    وأيد السيد الحاكم في رأيه، وكذلك الراعي، فأذعن القاضي دون إرادة منه لقرار الحاكم. سأل الحاكم المرأة:‏

    - هل تقبلين أن نحتكم إليك؟‏

    وسعت المرأة من ابتسامتها، وقالت:‏

    - ها أنتم قد شعرتم بوجودي أخيراً!‏

    شعر الحاكم بصوتها يصل إليه كنفحة من عبير، وعاد يسألها:‏

    - أتقبلين إذن أن تكوني حكماً بيننا وأن تختاري لنفسك واحداً منا؟‏

    فأسرع الراعي يقول:‏

    - لا تنسي أنني كنتُ أول من اخترتِ من الرجال!‏

    قالت المرأة:‏

    - ليس هناك ماهو أحب إلي من ذلك!‏

    فهم السيد أنها ترد على سؤال الحاكم، فنهر الراعي قائلاً:‏

    - اسكت! اختارتك، لأنها لم تكن قد رأت غيرك! دعها تتكلم!‏

    قال القاضي موجهاً الخطاب إلى السيد:‏

    - واسكت أنت أيضاً. لقد نسيتك بعد أن رأتني! دعها تتكلم!‏

    قال الحاكم:‏

    - اسكتوا جميعاً، كنت آخر من ابتسمت له، دعوها تتكلم!‏

    ونظر إليها وابتسم لها، وقال:‏

    - اختاري الآن واحداً من بيننا!‏

    قالت المرأة بصوت فيه دفء ونعومة:‏

    - سبق أن اخترت من جئت معه، ولكنكم لم توافقوا على اختياري، وأسقطتموني من حسابكم، ونسيتموني في أثناء صراعكم من أجل الظفر بي كل النسيان على قربي منكم. ومن الصعب علي الآن أن أختار بهذه السرعة، ولكني أقترح عليكم حلاً معقولاً:‏

    فسألوها بصوت واحد:‏

    - وماهو هذا الحل المعقول، أيتها السيدة؟‏

    فقالت المرأة، وقد كادت ابتسامتها تتحول إلى ضحكة:‏

    - يسرني أن تجعلوني سيدة!‏

    فهتف الرجال الأربعة:‏

    - أنت سيدة الجميع!‏

    - وماهو هذا الحل ؟‏

    فأجابت المرأة بهدوء:‏

    - سأقف في المكان الذي عثر علي فيه الراعي في قمة الجبل، وهو مكان يحجبه سياج من البنفسج. سأقف خلفه، وهناك أيد كثيرة تمتد حولي. وعلى كل واحد منكم أن يثب فوق السياج ويلقي بنفسه في الجهة الأخرى، فمن تلقته تلك الأيدي ووضعته بين ذراعي، كنت له! وستذهبون معي هكذا كما أنتم دون حراس أو مرافقين، فأنتم في حمايتي! فلنذهب إذن!‏

    قال الراعي:‏

    - فليكن الأمر كذلك!‏

    قال السيد شبه معترض:‏

    - أنا لم أتعود صعود الجبل، لكني لن أتخلى عن حقي.‏

    وقال القاضي:‏

    - السيارة كفيلة بإيصالنا إلى سفح الجبل ثم نصعد!‏

    قال الحاكم:‏

    - الطائرة العمودية أسرع. فإلى القمة!‏

    فقالت المرأة:‏

    - لا السيارة ولا الطيارة! على من يصعد الجبل أن يسير على قدميه.‏

    فعاد الحاكم يقول:‏

    - إذن، فلتكن لنا روح رياضية، ونحاول السير على الأقدام مرة في عمر الحكم!‏

    قال الراعي:‏

    - لقد تعودت السير شبه حاف!‏

    فقال السيد:‏

    - تلك طبيعة فيك!‏

    فرد عليه الراعي قائلاً في فخر:‏

    - من أجلها اختارتني!‏

    فنهره الحاكم، ومده يده نحو المرأة، فهمت بأخذها بحركة لا شعورية، ثم انتبهت إلى نفسها، فتراجعت عن ذلك، وألقت نظرة على الراعي، وقالت:‏

    - فلنسر إذن!‏

    وساروا فوق طريق ملتو، تنتصب أشجار الزان والبلوط على جانبيه في شموخ حيناً، وتقوم الصخور والحجارة على جانبيه حيناً آخر، وتباطأت خطاهم عندما بدؤوا يصعدون منحدرات وعرة رغم وجود الطريق المرسوم فيها بوضوح. وكان كل واحد منهم يشعر بسمو السياج الذي سيثب فوقه، والأيدي التي ستتلقاه، وبسمو الذراعين اللتين ستنضمان عليه، ويتراءى له في آخر الأمر سموه هو نفسه محمولاً فوق قمة الجبل، وكان السيد يهمهم ويدمدم أحياناً لاعناً راعيه، الذي لم يمتثل لأمره ويحقق رغبته، وقد طغى هذا الشعور بالسمو على ما يشعر به الإنسان عادة من مشقة صعود الجبل، وكانوا فوق ذلك يتكلمون، ويتناقشون حتى تكاد تنقطع أنفاسهم، ويشعرون بالعرق يسيل مع كل كلمة ينطقون بها، لكنه كان عرقاً يمنح أجسامهم على نحو ما برودة ورطوبة‍‏

    حين وصلوا أمام سياج البنفسج، كان أول مالاحظوه أنه متناسق في أعلاه، ولكنه مليء بالحسك وبعض النباتات السوداء الغريبة، اختلطت به وأفسدت منظره الكلي، ففكر أحدهم في تنقيته وإصلاحه، بينما فكر البقية في أن الأمر لا يعنيهم ماداموا سيثبون فوقه ولا يرون بوضوح لا وسطه ولا أصوله ولا ما يختلط بها من أعشاب تبدو لطراوتها كالعفنة، وأراد الحاكم أن يكون أول من يثب بناء على رتبته في وظيفته الحالية، غير أن المرأة أفهمته أن عليهم أن يثبوا دفعة واحدة، فالأيدي كثيرة والسواعد قوية إن دعت الحاجة إلى ذلك، وهو مالا تتوقعه شخصياً، وأن يتم هذا الوثب من أماكن متقاربة، ومتساوية العلو تساويهم في نظرها على الأقل في اللحظة الراهنة، على أن يكون الانطلاق بعد ذكر الرقم الأخير من العد التنازلي، فالعد التصاعدي لم يعد من شيم هذا العصر، وسماع الإشارة، التي ستصدر عن أحدهم بناء على اتفاقهم فيما بينهم!‏

    واختفت المرأة خلف السياج بعد ذلك مباشرة، فوقف الرجال الأربعة في صف واحد ضمن مساحة تكفي للزيادة من شدة الجري، وحدة السباق، وقوة المنافسة. واتفقوا على أن يكون الراعي هو الذي يعطي إشارة الانطلاق، فلعل إعطاء الإشارة يقلل من انتباهه وسرعته ويؤخره عن الوثوب معهم في الوقت نفسه، وشعر كل منهم أنه مقبل على مغامرة رائعة، كانت روعتها آتية من يقينه بالفوز بالمرأة الجميلة. وما أن ارتفع صوت الراعي في الجبل، حتى ركضوا بسرعة فائقة، ثم وثبوا، واختفوا في الجانب الآخر دفعة واحدة.‏

    وساد الصمت لحظات قصاراً، ثم ارتفعت أصوات وتعالت هتافات، تتخللها صرخات خافتة، تعبر عن الوجع والألم، كما تتعالى وسطها من وقت لآخر أنات أشبه ما تكون بالبكاء، وفجأة انفتح باب سياج البنفسج، فخرجت المرأة، وهي تضحك ضحكة تردد صداها فوق القمم والوهاد والأودية، وبين ذراعيها راعي بنفسجها، وقد نما ظله مع صوت ضحكتها وصداها فوق القمم القريبة والبعيدة!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()