بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:27:02 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1121 0


    عودة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. ناديا خوست | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة عودة ناديا خوست

    يا لتلك السنوات الشفافة التي عبرها في مملكة الصمت! قبل أن تتبدد تلك المملكة ويفقد آخر أصدقائه.‏

    في نهاية المساء كان يخرج مع صديقه إلى الليل فيتجولان تحت النجوم . ويلاحظان معا أن مملكة الصمت لم تعد تشفي القادمين إليها. ألم يسمعا مرات بكاء رجال ونساء على البيوت التي تركوها، والأموال التي خبأوها؟ ألم ير أنهم حتى بعد أن اجتازوا العتبة إلى مملكة الصمت لم يأسوا على الحياة التي ضيعوها، بل على الأشياء التي جمعوها، والمتع التي قطفوها، والأحقاد التي لم يطلقوها؟‏

    عجز مجلس مملكة الصمت عن حماية مايميز المملكة التي كانت في أيامها الماضية هادئة، يحترم فيها ماتجرفه الحياة خارجها. كأن ريحا استقدمت إلى المملكة نمطا جديدا من الموتى. فماعاد يصدق المثل: لايموت إلا الجيد! باولئك الجدد اختل كل شيء. كانوا يتدافعون إلى الصفوف الاولى، يرفعون أصواتهم ويحركون أذرعهم في خشونة، يجهرون بالرغبة في أن يجعلوا مملكة الصمت الشفافة كالدنيا المعتمة خارجها. بل بدأ بعضهم يستخدم آخرين في كنس طرقات لاتمسها الأقدام، وغسل أكفان بيضاء لاتتسخ. وفي إحدى الليالي أخبره صديقه الأخير أنه سمع مجموعة تفكر بالعودة إلى ملابس الدنيا المزينة المتغيرة، وتخطط لطلبها من بلاد أخرى. بل أحصت تلك المجموعة المعارضين والموافقين المحتملين في التصويت.‏

    في الليالي التالية لم يخرج سكان مملكة الصمت إلى القمر ليتجولوا في أشعته الفضية. بل تفرقوا مجموعات تتآمر إحداها على الأخرى. في البداية نظرت إحداها إلى الثانية مستنكرة. ثم صارت تهز قبضتها متوعدة. ثم جلجلت العظام في أنحاء المملكة. ونسي الموتى أنهم اتفقوا على كتمان مابينهم عن حارس المقبرة، فلم يبالوا بأن يسمع ضجتهم ويعرف سرهم، ويميز تجمعاتهم ويهرع إلى سلاحه!‏

    استعاد مع صديقه الأخير أزمنة مملكة الصمت القديمة، أيام كان السابقون يحيطون بالقادم الجديد ويساعدونه على عبور العتبة، حتى يخلع ماحمله من الغيرة والشره والكيد، أو من البؤس والحزن والغبن! أيام كان الجار يفيق على بكاء جاره ويسهر معه حتى يجفف آخر دموع الوداع! أيام كان الرجال والنساء يخرجون إلى الليل منذ تبدأ العتمة ويستمتعون بما فاتهم في الحياة، بقراءة الشعر الذي لم ينتبهوا إليه، وانتشال الكلام المنسي، والتقاط النجوم التي وقعت على الأرض! كانت تلك الأيام لاكتشاف الخير الضائع من القلب، الخير الذي مرت حياة كاملة دون أن يكشفوه، والعذوبة التي تجعل الروح كضوء القمر. لحماية مارمته المدينة، كي يبقى حتى تتذكره ذات يوم فتستعيده من مملكة الصمت! في الأيام القديمة كان يستطيع أن يتدخل إذا تبين خرقا، فرأى قادما جديدا متكبرا يتوهم أنه يستطيع أن يستمر في مساره الذي تعوده في الدنيا. متى بدأ عجزه وعجز الكثرة عن القلة إذن؟ متى بدأ الفساد ينتشر كالوباء؟‏

    بحث ذلك مع صديقه الأخير وخمن أسبابا متنوعة. خطر له أن السبب الأول هو الخوف الذي استقدم إلى مملكة الصمت التي تجاوز سكانها كل مايهددون بأن يسلب منهم. لكن صاحبه قال له: المال! أجابه: لا! فالمال أيضا دون سلطة هنا!‏

    بعد اختفاء صديقه الأخير أعلن لنفسه السبب القاتل: الضعف الذي استحدثه الخوف والمال في الناجين منهما، وأمور إنسانية لاأحيط بها الآن!‏

    لم يكن أهل مملكة الصمت يخرجون من أسوارها. ولم يعرفوا الشوق إلى حياتهم الاولى إلا في بداية أيامهم فيها، وهم بعد يعانون من أثر الوداع والعواطف الجامحة. وهم لم يتأملوا بعد حياتهم الماضية في هدوء ويتعودوا أنهم خرجوا منها. وكانت مهمة السابقين أن يساعدوهم في عبور تلك العتبة. لو استعملت مصطلحات الأحياء لقيل إن الجنسية الجديدة ماكانت تمنح لهم بالموت فقط والعبور من مملكة إلى أخرى، بل بالعبور الآخر من عالم الصغائر المنهكة إلى عالم الحكمة. عندئذ كانوا يمرون هادئين عقلاء، دون أمجاد ودون ذل. دون غطرسة المناصب أو الجشع إليها أو الخوف عليها، ودون الطاعة الذليلة التي توهم المطيع بعظمة اولئك.‏

    لكن الأيام الجديدة استقدمت الأشواق القديمة. عرفت مملكة الصمت الصراع الأول يوم انقسم سكانها إلى راغبين في الخروج منها وإلى من ينبه إلى قوانينها الرصينة. هل حدث التصويت يوم استكمل ترتيب التوازن الجديد في السر؟ ذهل هو وصاحبه عندما ارتفعت الأذرع كثيرة، جريئة. وكان أول من أظهر الرغبة في الخروج وحرض عليه مجلس المملكة! نعم! ذهل. وقال يالبراءتنا! وردد صاحبه: بل يالغفلتنا!‏

    بعد ذلك اليوم المشهود تدفق سكان مملكة الصمت كل ليلة خارج أسوارها. لم تعد المملكة التي رتبوها بلادهم. أصبحت بلادهم المدينة التي لايحكمونها! في كل يوم كانت مملكة الصمت تضيع بعض سكانها. وكان المفقودون كالمهاجرين الذين لامكان لهم في البلاد الغريبة، يقبلون البقاء على عتباتهم القديمة، تحت مداخل بيوتهم، وفي برد الحدائق العامة، مسحورين بالفرجة على مافقدوه من مجد أو من أمتعة. وكان أعقلهم يكتفي بمراقبة أولاده المحبوبين، بعيون دامعة.‏

    بدلت تلك الأحداث حتى موضوع أحاديثه مع صديقه الأخير. فأصبح يستعرض معه أسماء المفقودين، ويحاول أن يتبين معه القوة التي جردتهم من سنوات الحكمة. ويتساءلان عما يغري الإنسان باستعادة ضعفه بعد أن ينجو من سطوة الخوف والمال؟ فهل كان يتصور أن صديقه القديم، العارف تلك المتاهات، يمكن أن يتوه فيها؟‏

    ذات ليلة لم يخرج من قبره. وفي الليلة التالية لم يبتعد عنه خوفا على روحه مما اجتاح المملكة. لايريد أن يسمع حديث العائدين وهم يصفون ماخيل إليهم أنهم يستعيدونه ولو كانوا على العتبات مع الكلاب والقطط! لايريد أن يرى زهو اولئك الذين عرفهم عقلاء، وهم يصورون عودتهم كأنها نصر. مايزال الرصاص يلعلع هناك! يسمعه في الليل، يطارد المشردين من الأحياء والكلاب. ألم ينتبه إليه هؤلاء العائدون؟‏

    يوم ربط سكان مملكة الصمت أكفانهم، واستعدوا للرحيل مجموعات، دون خجل، خيل إليه في برهة خاطفة أنه هو المخطئ. سمع حفيف الأكفان على الأرض، والموكب يتدافع عند البوابة. واستعاد الشعور الإنساني بالألم. وفهم أنهم استقدموا إليه ذلك الشعور الذي نجا منه سنوات. وعرف أنه لايمكن أن يبقى معزولا عن الخراب الشامل. وعندئذ خف إليه صاحبه، وتجولا معا زمنا يتحدثان عن الأيام القديمة في المملكة التي رتبوها حتى أصبح حلم الأحياء أن يجعلوا مدنهم مثلها. قدموا فيها القتلى الشباب والصغار والمظلومين، زينوا قبورهم بصورهم، ونقلوا إلى المنسي منها أغصان النخل والآس من القبور الأخرى. بل نقلوا إلى جوارها حتى الشجيرات التي زرعها الزوار الأغنياء للمدللين.‏

    تصور أنه مع صديقه يمكن أن يبدأ تأسيس المملكة المهجورة. قال: لنبدأ القصة من أولها! نعرف القوانين التي كانت مألوفة هنا قبل خراب البصرة! ذهب الراغبون في المدينة الصاخبة. فلتزدحم بهم الطرقات والعتبات، وليرضوا على قتلهم مرات! تركوا لنا هذه المساحة الشفافة فلنرتبها كما كانت أيام أتينا إليها! بحثا معا حتى التفاصيل، كيلا تفشل مملكة الصمت مرة أخرى. فهل كان يتوقع تلك المفاجأة العاصفة؟!‏

    يوم خلت المملكة من سكانها، أتاه صاحبه وقال له: سأخرج إلى هناك! فسأله: أنت أيضا؟ رد: ماذا بقي؟!‏

    حقا! تبدد سكان مملكة الصمت، ولم يعد يصادف البياض الفاتن الذي يتجول رشيقا هادئا على أشعة القمر. أقفرت مملكة الصمت من جلساتها وثقافتها. وسمع عويل القادمين مرغمين إليها، وحفيف هربهم في اليوم التالي منها. وحدث مرات أن أعاد الأحياء اولئك الموتى بالقوة ورموهم خلف البوابة. وجرت مشاهد مؤلمة ليس فيها كبرياء. قال له صاحبه: سأخرج لأتبين لماذا وكيف؟ رد ساخرا: ماالفائدة؟ أتبحث أنت أيضا عن الطرقات التي لاعودة منها؟ أتستعيد أنت أيضا مايذل ويوهن؟ وهل كان يستطيع أن يقول أكثر من ذلك؟ ابتعد صديقه الأخير وحيدا، ولم يعد في الأيام التالية. يوم كانت في مدن الأحياء قواعد وأصول، كان يقال: خان الخبز والملح! هو لايستطيع أن يقول ذلك! ولن يقول خان! لابد أن عصرا همجيا قد وصل فانساق حتى سكان مملكة الصمت كالمضبوعين ومدوا رقابهم لمن يضع الرسن فيها.‏

    تذكر يوم تعارفهما. باح يومئذ كل منهما بسبب موته للآخر. وتقاربا من تلك البداية. قال:‏

    - دفعت أربعين ألفا، جمعتها في شق النفس. سمّها خوّة أو إجازة مرور أو ثمن الحرية! لكن السيد الذي قبضها نقل من مكانه في اليوم التالي، فطلب من استلم وظيفته المبلغ نفسه. لم أقدر على الدفع مرة أخرى، فخصوني بأشق الأعمال. مت من القهر!‏

    - ينظر الواحد منا إلى سبب موته في هدوء الآن. يبدو لي أني كنت أستطيع أن أعيش بعض سنوات إضافية. لكني أتساءل الآن لماذا؟ قد يضحكك سبب موتي كما يضحكني الآن. كنت أمشي في الطريق فصادفت رجلا يفتح باب سيارة فخمة، ويظل منحنيا، ورجل قميء ينزل منها ويمشي متغطرسا إلى البوابة. عرفته! تذكرته! كان طالبا كسولا في صفي، يسخر من غبائه الأساتذة والطلاب. بدا لي أني ضيعت عمري هباء. ماالفائدة من الجد والدراسة، من الاندفاع في القلق على الوطن؟ كنت أسقي أشجار الطريق. أطعم القطط الجائعة، أغلق صنابير المياه المفتوحة، أساعد من لاأعرفه، وفي عملي أشتغل كالثور. يوم رأيت ذلك الفاشل وانتبهت أنه يمسك القدر، شعرت بأن ريحا عاصفة تجرفني. عدت إلى البيت، ومت.‏

    في تلك الأيام مات عشرات من أصدقائي. كانت الأيام مضطربة، فتساقطنا بالجلطة واحدا إثر آخر. كأن الدنيا تتخلص من جيل وتطويه لتفرغ مكانه لآخر يناسب الزمان. خيل إلي أن ذلك كان سبب موتي، لكني فهمت فيما بعد أن الموت لايأتي لسبب واحد. في تلك الأيام المضطربة كان الموت يتسرب إلينا مع الهواء.‏

    فقد صديقه الأخير! لمن يبوح بما يخطر له؟ مع من سيحلم باستعادة مملكة الصمت العادلة؟ في تلك الليلة تجول وحده في العتمة. لم يتساءل عن صلاح الدين ونور الدين وست الشام الذين كانوا يحضرون اجتماعات الشعر وينشرون مهابتهم على الحاضرين. فقد اختفوا منذ بدأ تبديل الملابس والإغراء بالمال والتهديد بالخوف. اختفوا مجتمعين مع الشعراء القدماء والعلماء، كأنهم ماتوا موتا لاعودة منه، أو هاجروا إلى بلاد النسيان. لم يتساءل حتى عن الغوغاء التي تبينها خلال الأحداث الأخيرة صاخبة، مشاغبة، متكبرة، ترفع رايات متنوعة تنزل إحداها وتقدم أخرى بما يتفق ومجرى الأحداث وحركة الرياح.‏

    مشى وحيدا، ورددت الجدران وأشجار السرو حفيف أكفانه البيضاء. اكتمل الطوق إذن، فلاراحة هنا أو هناك. ولامأوى من الجنون العاصف بأرض الأحياء والأموات. ولكن أيمكن أن يكون هو العاقل الوحيد في مملكة الصمت؟ خطر له أن يخرج هو أيضا ليتفقد مايسحر الناس. ارتعش. هو؟ هو أيضا يبحث عما يبرر خروجه من مملكة الصمت؟ لا، هو، لن يهجر مملكته! سيعود!‏

    تجول في هدوء. ولم يصادف إلا الأحياء الباحثين عن مكان يبيتون فيه مستندين إلى شجرة أو مستلقين على بلاط القبور. وكاد يضحك من حركة الخروج والدخول! فهؤلاء يتسللون داخلين ويأوون الليل هنا كالسارقين، وأصحاب هذه المملكة يتسللون منها في الليل ويأوون تحت النوافذ والأشجار في السر!‏

    اقترب من البوابة. فليخرج! فليمتحن نفسه وليكشف الحقائق! نعم، فليخرج! لن ينسى أن عودته ضرورة. إذا لم يعد أغلقت مملكة الصمت وطويت من الذاكرة كما تطوى مدن الشرق!‏

    عند الباب تعثر بالقمامة، تجاوزها ومشى إلى المدينة. ودهش. من النوافذ تدفقت ضحكات كالبكاء، وبكاء كالضحك. ولم يدر أذلك من الخوف أم من الجنون. ولم يتبين هل في المدينة احتفال أم مأتم عظيم. واستنتج أن المدينة ضيعت بهجة الأفراح كما ضيعت جلال المآتم. فاختلط فيها البكاء بالنجيب. مشى. لم يعرف في أي من عمريه مشاهد كالتي رآها! ولم يتعرف إلى مكان ألفه! قلب أهل المدينة كل شيء إذن. أحرقوا ذاكرتهم كلها. نبشوا الأرض، هدموا البيوت، بدلوا الطرقات، نزعوا كل ماكان جميلا ووضعوا في مكانه كل ماهو قبيح. كيف استطاعوا أن يوفقوا في ذلك؟! ياللمهارة؟ تعثر بأحواض وبحرات لم ير مثلها في عمره. كاد يسقط في حفر. لم يتحمل مارآه، فأسرع إلى شارع كان يحب المشي فيه، كانت البساتين على جانبيه، وأشجار الجوز الباسقة تظلل رصيفيه، فيه كان يلتقط حبات الجوز الساقطة من الأشجار فيملأ بها جيبيه.‏

    ليته لم يقصد ذلك المكان! ليته ظن أن الجمال يمكن أن يتخفى أو يهرب في ثنية من ثنيات الزمان. رأى رصيفا عاريا، وسورا عظيما من الحجر، ومدى فارغا. لم يصادف أية شجرة من أشجار الجوز. لو كان حيا لانتحر!‏

    ركض إلى مملكة الصمت. أفلحت المدينة إذن في إعادة الغضب والقرف والخيبة إلى قلبه الذي شفي منها في السنوات الشفافة الطويلة. توقف لاهثا. لمح أشباحا بيضاء تحت العتبات، وقرب مداخل البيوت. وخيل إليه أن الشارع نفسه يمتلئ بحركة المتشردين. هل يسألهم: لماذا بقيتم هنا، فخسرتم مملكة الصمت ولم تربحوا الدنيا؟ هل يسألهم أيمكن أن يصبح الذل عادة؟ أيمكن أن يفسد الإنسان في الدنيا وفي الآخرة؟‏

    لعله لم يشعر من قبل بمثل ذلك الألم. فقد حتى الحلم والذكرى! ويكاد لايدري هل عاش حقا قبل مملكة الصمت أم لا، لأنه لم يجد أية من الإشارات التي كانت مسجلة في دفتر عمره! لم يجد أي مكان كان يتذكره!‏

    مشى إلى مملكة الصمت حزينا، مسرعا، متعبا. خلف بوابتها وقف الحارس يتأمله ساخرا وهو يقترب، حتى أصبحت بينهما البوابة المغلقة.‏

    - أنت؟! لن تعبر العتبة أبدا! لن أقبلك أبدا في مملكة الصمت! لن أسمح أبدا بذلك التجمع ! أمكنتكم محفوظة! سيزورها الأحياء. وليسكبوا عليها ماء الورد! سيريحكم ويريحنا أن تبقوا أفرادا موتى!‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة عودة ناديا خوست

    تعليقات الزوار ()