بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:15:12 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1601 0


    يوم .. وليلة...؟

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد بلقاسم خمار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف. عندما بدأت تناول فطور الصباح،.. وكان ابن أخي، يجلس مقابلا لي، يدخن سجارته بلهفة، ويحتسي بين الحين والآخر، رشفة قهوة من فنجانه الصغير..‏

     

    -قلت له: تعال.. جرّب، تناول معي قليلاً من الطعام، إن الأكل في الصباح، مفيد جداً..!‏

     

    -أجابني- باسماً- لا. -شكراً ياعمي- انت تعرف أنني لاأستطيع الأكل صباحاً- ككل جزائري-يكفي فنجان قهوة فقط ، كي استيقظ جيداً.. وبصراحة. فإنني احسّ بالغثيان. عندما أرى أحداً يبتلع طعاماً وقت الصباح..! باستثنائك أنت طبعاً، فقد تعودنا عليك..‏

     

    -قلت له: على كل حال- من المؤكد ، أن بقاء المعدة خاوية حتى موعد الغداء. مضر بالصحة، وهي عادة سيئة. تضاف إلى بقية المصائب التي ورثناها عن المستعمرين الأفاقين..!‏

     

    -قال لي: هذا صحيح .. ومن حسن حظك أنك عشت في المشرق العر بي مدة طويلة،.. وإلا كانت حالك كحالنا..‏

     

    سحبت مذكرتي الصغيرة من جيبي، وفتحتها ككل يوم ، قبل ان اغادر المنزل،.. كان اليوم هو الخميس 16 تموز 1992- وتحت هذا التاريخ كانت مسجلاً:/ الساعة الثامنة والنصف مساء حضور حفل زفاف ابنة صديقي أحمد قدور، في نادي الصيادين ببلدة برج الكيفان..‏

     

    ناديت زوجتي.. وذكّرتها بموعد العرس اليوم. حتى تبدأ في الإستعداد منذ الآن.. وكأنها تخيلت صورة تهكمية من حديثي، فاخبرتني بلهجة اعتدادية حاسمة، أنها غير ناسية. وأنها قد اكملت كل استعداداتها، بما فيها شراء الهدية،.. ثم وجهت لي تنبيها بأن شعر رأسي ، قد زاد عن حده، ومن الأحسن ان ازور الحلاق، قبل الذهاب إلى العرس..‏

     

    قال ابن أخي- منافقا- وهو يوجه كلامه إلى زوجتي...:‏

     

    إنك بالفعل ياإمرأة عمي- مثال رائع، للتنظيم والنشاط، وحسن التدبير.. إنك حقاً عظيمة..!‏

     

    اتسعت بسمتها حتى خشيت على شفتيها من التمزق، ورشقتني برمقة انتصار،.. واختفت ، ثم جاءت تحمل فنجانا آخر من القهوة إلى ابن أخي..‏

     

    خذ ياشاب، لقد أثمر نفاقك بسرعة...!..ولكن ابن أخي..لم يتناول من الفنجان الجديد سوى رشفة واحدة... ثم ابعده من أمامه، وهو يتذمرّ، ويتحسس بطنه بيمناه ..‍‍‍‍‍!؟ إنه نفس المغص الذي يشكو منه اغلب الاصدقاء، ولكنه سرعان ما ينتهي بسلام.. لقد تعودنا عليه. قال ابن أخي.‏

     

    -ربما من مثل هذه المنغصات جاءت سرعة الغضب التي اشتهر بها الجزائريون..؟ قلت..‏

     

    طلبت من ابن أخي ان يرافقنا اللية لحضور حفل العرس،.. ولكنه اعتذر قائلاً: ان اعراس العاصمة لاتروق لي..إنها تقام بضجيج أجوف. لاطعم له.. وبدون بارود.. وبلا رقص للخيل.. ثم إنني كلما استمعت إلى ذلك الغناء الذي يسمونه الشعبي او العاصمي اشعر بالإنقباض والكأبة..إنه شيء محزن..!‏

     

    لم اعلق على كلامه. وأمسكت بيده، وخرجنا... هيا معي لأحلق شعر رأسي، ثم نقوم بجولة في مدينة الجزائر. العاصمة..‏

     

    كانت الساعة الحادية عشرة، عندما غادرنا قاعة الحلاقة،.. وكان ابن أخي يتأفف، ويحمد الله إذ خرجنا، ويقول لي: لقد كدت انفجر في هذه القاعة الملعونة..!.. ساعة كاملة والجالسون صامتون كأن على رؤوسهم الطير..! والحلاق مطبق الشفاه متجهم الوجه كالجلاد، حتى تظن أنه يحلق للناس رغما عنه..!‏

     

    -علقت قائلاً: تلك هي طبيعة اغلب ابناء الشمال، وخاصة العاصمة، مع العلم بأن ما يشتهر به الحلاقون في كل مكان، هو كثرة ثرثرتهم..!‏

     

    سرنا مسافة قصيرة، وإذا بنا نرى مجموعة كبيرة من الناس، متجمهرة امام مدخل إحدى العمارات، وكانت تنبعث من احد طوابقها زغاريد النساء، مدوية بصورة عنيفة وحادة..‏

     

    -سألني نجم الدين- وهو اسم ابن أخي- اليوم الخميس، هو يوم الاعراس أليس كذلك..؟‏

     

    -أجبته: نعم، هو يوم الاعراس، ولكن ، ليس من العادة ان تشتد زغاريد النساء في مثل هذه الساعة من الهجير..!‏

     

    -قال نجم: ربما تكون العروسة من مدينة بعيدة، والآن فقط وصلوا بها إلى دار العريس..؟‏

     

    اقتربنا من المتجمهرين،.. كانوا واجمين... تبدو على وجوههم علامات الجد، والقلق...‏

     

    تواصلت الزغاريد، فاهتز نجم الدين طربا وفتوة، وصاح : آه لو كانت معي بندقيتي، لحييت المزغردات بطلقتين من البارود كالرعد.. إن جوانبي ترتعش من شدة التأثر..!‏

     

    -قلت له: هدئ نفسك. إنك لست في مدينتك الجنوبية،/ بسكرة/ إنك في العاصمة، وضرب البارود، ممنوع في اعراسها...!‏

     

    دفعني الفضول، فاقتربت من شاب ، كان يقف وحيداً، فحييته.. وسألته: ماذا يحدث هنا..؟‏

     

    أجابني بحزن بالغ.. لقد انتقل المجاهد / فلان/ إلى رحمة الله، وسيأخذونه الآن إلى المقبرة..‏

     

    كنت اعرف المرحوم،.. كان بطلا في يوم ما، أحسست بأسى عميق..‏

     

    قلت للشاب: عظم الله أجركم، وانسحبنا بخشوع، مواصلين طريقنا..‏

     

    وتنهد نجم الدين، وهو يردد.. لاحول ولا قوة إلا بالله .. لقد كنت اعتقد أنه فرح بهيج. وإذا به مأتم شجي..!؟‏

     

    يبدو أن عادة تشييع الموتى بالزغاريد في بلادنا قد أصبحت تقليداً سائدا،- ويبدو أننا ورثناها من أيام الثورة المسلحة. حيث كانت النساء تزغردن، كلما سقط شهيد، او ووري جسده التراب... كن يعتبرنه كأنه عريس، سيزف إلى نعيم الجنان..‏

     

    -قال نجم الدين: ولكن.. الآن ياعمي.. وبعد مرور ثلاثين سنة من الحياة في نعيم الإستقلال. هل أصبحت الجنة مضمونة..؟‏

     

    -قلت: لابأس ان نتفاءل،.. وان الله غفور رحيم..! ثم إن سماع الزغاريد، هو أحسن بكثير من سماع البكاء والنحيب‏

     

    -علق نجم: إن الحياة في هذه الزمن الموحش، لم يعد لها أي طعم، لا للغناء، ولا للبكاء،..( واللي مات وراح، اتهنّى واستراح..)..!؟‏

     

    لم يكن ابن أخي قد شاهد شوارع العاصمة من قبل، فاقترحت عليه أن نركب الحافلة العمومية/ الأوتوبيس / ونظل في مقاعدنا إلى أن نعود إلى هذا المكان الذي ننطلق منه ، وبذلك يمكن الإطلاع على جزء هام من مناظر المدينة داخل الحافلة..‏

     

    عندما انطلقت بنا الحافلة كانت شبه فارغة، فاستولينا على مقعدين مناسبين. ثم أخذت تكتظ بالركاب، ويتزايد عددهم كلما توقفت في احدى محطاتها، إلى أن اصبح الناس متلاصقين ببعضهم، متراصين حتى لكأنهم جسم واحد، يتماوج بعشرات الرؤوس..!.‏

     

    وكان قاطع التذاكر يصرخ باستمرار../ أفانسيو.. أفانسيو../ شوية.. مازالت/ بلا سات/ لقدام.. وعندما لايستطيع الركاب الواقفون التزحزح ..يكرر صراخه بغضب: افانسيو.. وإلا انتم ما تفهموش العربية..!؟قال نجم الدين بتعجب: هل سمعت ياعمي ما يقوله قاطع التذاكر...إنه يظن ان لفظة/افانسي/ هي مفردة عربية..!؟‏

     

    -قلت له: مادام قد ادخل عليها واو الجماعة، فقد عرّبها..انسيت مثلا كلمة/ فارمي/ أي اغلق... ألم نخضعها للصرف والإشتقاق وكأنها عربية .. فنقول: فارمى الباب، فهو يفرميه وفارم الباب أي اجعله مفرميا...! ومثلها مئات المفردات الفرنسية التي عربناها، واصبحنا نجهل اصلها الفر نسي..!؟‏

     

    -قال نجم الدين: هل تعرف ياعمي... مامعنى/ الروابيل:‎/ ..؟‏

     

    -أجبته: لاأعرف..!‏

     

    -قال ضاحكاً: إن الروابيل هي جمع بالعربية، لمفردة/رابور/ بالفرنسية، والذي يعني التقرير .كما تعلم..!‏

     

    -قلت: إن الشعب الجزائري، رغم أنه كغيره من الاقطار العربية في اغلب عاداته وتقاليده، إلا أنه - نتيجة للظروف التاريخية القاسية، والمتميزة- اصبح يمتلك صفات خاصة، من النادر أن تجدها عند غيره،... ومن بينها هذه المقدرة العجيبة على التلاؤم مع المواقف الصعبة. وتوظيف الامور والاشياء الغريبة عنه، واستخدامها بدقة ونجاح. وكأنها من موارثيه او من مبتكراته..! وهذا ما ينطبق على ظاهرة تعريب الفرنسية وفرنسة العربية..!؟‏

     

    أنهت جولتنا داخل الحافلة، دورتها الكاملة، ونزلنا من حيث صعدنا، واتجهنا نحو منزلنا سيراً على الأقدام .. وقد عبر نجم الدين عن سروره. بقوله لي: شكراً ياعمي.. لقد كانت طوريسة مزبّلة...!؟‏

     

    فوجئت بكلمته الكريهة الغامضة، وسألته باستنكار: ماذا تعني بطوريسة مزبّلة...؟‏

     

    -أجاب وهو يبتسم: هذه من الابتكارات المحلية الجديدة، التي يستعملها بعض شبابنا في تخاطبهم الخاص...إن المقصود بطوريسة هو الجولة- واتطورس، يعني أهيم في الشوارع كالطاروس أي الكلب المعروف بهذا الاسم...! أما كلمة مزبّلة‏

     

    فيعبّرون بها عن كل شيء فيه إثارة، وزخم، وتنوع...!؟‏

     

    هنا تذكرت جارتنا الأرملة التي كانت تعيش بصورة دائمة في حالة توتر وعصبية.. كنا نسمعها- كلما قدمت طعام الغداء لاطفالها- تصيح بهم قائلة: هيا .. تسمموا بسرعة قبل ان يفوتكم موعد المدرسة...! وكنا نضحك بشفقة واسى عندما نسمع طفلها الصغير،- بعد برهة قصيرة- ينادي ببراءة :ماما.. ماما.. لقد تسّممتّ.. انا ذاهب إلى المدرسة..!‏

     

    عندما اقتربنا من باب المنزل صادفنا مشهدا طريفا.. كانت بنت الارملة جارتنا، جاثمة فوق جسم أخيها الصغير، وهي تدغدغه من إبطيه بعنف، وكان الطفل المسكين يتلوى بين يديها، ويبكي بكاءاً حاراً،.. وكانت الام تطل من نافذة دارها. وتسب وتنهر بنتها.. وعندما لمحتنا.. استنجدت بنا أن نخلّص طفلها من بين مخالب اخته الشرسة..!‏

     

    اقتربت من الطفلة، وحاولت فك قبضتيها من جنبي أخيها.. ولكنها تشبثت به كما يتشبث الوحش بفريسته. فلم استطع نزعها عنه بسهولة..!‏

     

    استعملت سبابتي وابهامي،.. وامسكت بعضلة كتفها بقوة. وضغطت عليها بقرصة كلاّبية قاسية..‏

     

    كنت اظن انها ستجعلها تبكي وتصرخ من شدة الألم، ولكن ما أثار دهشتي واستغرابي.. هو أن الطفلة تركت أخاها يفلت هاربا، باكيا.. واستفرقت هي في قهقهة وقحة متواصلة، حتى خشيت ان يكون قد اصابها مسٌّ من الجنون..!؟‏

     

    قلت لابن أخي : عجيب امر هذا الجيل.. الطفل يبكي من الدغدغة.. والطفلة تضحك من الم القرص..!؟‏

     

    -قال: لاتعجب للأمر ياعمي.. قد تكون هذه الطفلة، تناولت حبوب منع الاحساس بالألم..!؟‏

     

    منذ مدة.. لم نعد نسمع اية ضحكة( طبيعية)! رنّانة.. إلا من طرف المشردين، والبطالين، وبعض طلاب المدارس المدللين..! لقد غطت أحزان الحياة ،كل شىء..!؟‏

     

    اقترب موعد الذهاب إلى العرس، فناديت زوجتي، وطلبت منها أن تتفضل حالا بالخروج معي لنذهب. لقد حان الموعد..‏

     

    الحقيقة ان الوقت مازال مبكراً، ولكنني اعرف طبيعة النساء في مثل هذه المناسبات.. فالمرأة عندنا، بمجرد ما تحين لحظة الخروج من المنزل للإلتحاق بأي موعد هام ومحدد.. تستوقفها خواطر وانشغالات طارئة-كاكتشاف ان الفستان الذي سترتديه غير لائق.. والاجمل لو ترتدي الفستان الآخر.. وقد يكون هذه الآخر في حاجة إلى كي، او تعديل بآلة الخياطة.. وعندما يتغير لون الفستان، فمن الضروري أن تتغير توابعه من مكياج، وحلي، وحذاء. إلى آخره.. ! وفي مثل هذه الحالات الطارئة العادية.. أجدني ادعو الله، ان لا يرن جرس الهاتف من طرف احدى الصديقات.. أو ان تلجأ هي..إلى الهاتف طالبة النجدة من صديقة ما، لتدركها باحدى لوازم الزينة الناقصة.. وخلال مكالمة النجدة، يتحول الحديث إلى شجون اخرى.. ويطول ويطول..!‏

     

    لقد حضرنا افراحا كثيرة..ولا اذكر مرة من المرات أننا وصلنا مكان الحفل في الوقت المحدد.. فإذا كان موعد الوصول الساعة التاسعة مساءً، مثلا فإننا نكون مبتهجين إذا وصلنا قبل منتصف الليل بقليل، حتى اصبحت عملية التأخير هذه ، صفة مميزة لنا، يتندر الاصدقاء بها..وانا اجد فيها احياناً مجالا ممتعاً لتعكير صفو زوجتي..!؟‏

     

    في السابق ، كنت أكاد انفجر غيظاً وكمداً، وأنا مختنق بربطة عنقي، أتنقل من غرفة إلى أخرى . بكامل ثيابي الرسمية دون أي مبرر.. فقط لأن حضرتها تجرب هذا ، وتبحث عن ذاك... وتنسى، وتتذكر.. وتخلع وتلبس.. كل ذلك من أجل ان تبدو في نظر نفسها ، وكأنها هي التي ستزف إلى العريس..!.. لقد كان الامر مضنيا. مرهقا..‏

     

    أما الآن . وبعد تلك الإنتظارات الأليمة التي كنت أعانيها- فقد تغير الوضع تماماً.. لقد اقسمت يميناً غليظاً ان لا ارتدي ثيابي..إلا بعد ان تكمل هي كافة استعداداتها وطقوسها التزينية. وتقف أمام الباب على اهبة الخروج،.. بعد ذلك اقوم أنا بارتداء ثيابي في مدة خمس دقائق، ونتوكل على الله..‏

     

    لقد صارت زوجتي الآن، هي صاحبة الإنفجارات الغضبية الهائجة. من انتظارها لي، وقد يتصبب العرق منها ملونا، بين اصباغ وجهها..!‏

     

    كنت اشعر بفرح باطني، وسعادة غامرة، وأنا اراها قلقة تتألم..ثم اسمعها تستعجلني بتودد متوتر، فاتصنع عدم سماعها، واحيانا اتعمد التباطؤ في ارتداء ملابسي، فاحس بتفاقم انزعاجها إلى درجة الإشراف على البكاء.. فينفجر ضحكي الداخلي . وارتعد به .. فاستريح.. وهكذا كما يدين المرء يدان، والحرّ، من لا ينسى ثاراته..!؟‏

     

    داخل السيارة.. في طريقنا إلى الحفل.. غالبا ما تنشب معركة حامية الوطيس، بيني وبين ام الأولاد..؟ أما أسباب مثل هذه المعركة، فهي كثيرة، ومتنوعة.. قد تكون عائلية، او اجتماعية..وقد تكون حتى سياسية او فلسفية..او من أجل نكتة يلقيها أحدنا..‏

     

    تبدأ المعركة إثر ملاحظة عابرة، وتافهة تصدر مني او منها، ثم تتطور الاحداث شيئا فشيئا.. وتتعمق.. وتتأزم وقد تصل أحياناً إلى درجة توقيف السيارة، والتلويح بالتشابك اليدوي، ثم الإضراب عن الذهاب إلى الحفل، والعودة إلى المنزل في حالة مرعبة من الشجار، وتبادل التهديدات والعبارات المؤذية..‏

     

    وفي مثل هذه الحالات الخطيرة، وبعدما يوغل الليل في ظلماته.. نكون قد شفينا غليلنا من بعضنا، واستنفدنا ما عندنا من شحنات جارحة فتخفت ضوضاء المعركة.. نعلن حالة الحصار والمقاطعة بيننا، فلا اكلمها، ولا تكلمني، ولا انظر في وجهها لثلاثة او اربعة ايام.. ولاادري إذا كانت هي تسترق النظر إلى وجهي ام لا..؟ وهكذا يستمر الوضع إلى ان يرهقنا التحدي،ويأخذ النسيان في محو آثار المعركة.. وتتراكم احتياجاتنا المشتركة... وتدريجياً تبدأ الامور في العودة إلى حالتها الطبيعية الهادئة.. وغالبا ما تبادر هي. بالتكلم معي، كأن تبادرني صباحاً بكلمة: صباح الخير.. تقولها بكبرياء خجول، فارد عليها بغمغمة لامبالية.. ثم بعد لحظات اطلب منها حاجة ما.. فتستجيب نشطة مبتهجة.. وبسرعة، تنتهي حالة الطوارئ.. وكأن شيئاً لم يقع..!؟‏

     

    في هذه الليلة، بدأت معركتنا هكذا:‏

     

    هي: هل تعلم أن ( فلانة ) زوجة صديقك المدير، هي امرأة صلعاء، رأسها كالتيمومة، لاتوجد فيه، ولا شعرة واحدة، وانها طوال عمرها، وهي ترتدي الباروكة..؟‏

     

    أنا: اعرف أنها صلعاء/فرطاسة/ وقد أخبرتني انت بذلك اكثر من مرة، وكأنك تشعرين بالمتعة، عندما تعيدين خبر صلعها..!‏

     

    هي : يالطيف.. هل أخذتك الشفقة بها.. اعرف أنك معجب بها.. وبوجهها الاصفر المستدير، الذي يشبه البطيخة او ساعة حائط..!‏

     

    أنا حرام عليك ياامرأة.. تغتابين الناس، وتسخرين منهم بدون مبرر..!‏

     

    هي: صدقني.. انا لاأهتم بتلك المرأة، ولا أحمل لها أية ضغينة.. اردت فقط أن اخبرك بأنها قد ذهبت إلى امريكا، وقامت بزرع شعر في رأسها، زرعه الأطباء لها، شعرة بعد شعرة.. وهي الآن تتمتع بجدائل طبيعية غاية في الروعة والبهاء..‏

     

    أنا: لااعتقد ان هذا الخبر صحيح .. إن عملية مثل هذه تكلف عشرات الآلاف من الدولارات.. ومن أين لواحدة مثلها بكل تلك الأموال..؟‏

     

    هي: انت مازلت في عز النوم..إن المال بالنسبة للرجال/ القافزين/ أصبح من السهل الحصول عليه، وبأيسر السبل، وزوجها كما تعلم، رجل ذكي، ونشيط..!‏

     

    أنا: ماذا تعنين..؟ هل تقصدين ان يسرق الإنسان..أو ينافق ويستكين، ويتملق..! ام يحترف تجارة الممنوعات..وينخرط في سلك المهربين..؟.. ثم . ما هو هدفك عندما قلت: زوجها رجل ذكي.. هل تقصدين أنني مغفل..!؟‏

     

    هي: طبعا.. لا اقصد ذلك .. ولكن بالنسبة لك.. كان بإمكانك ان تكون أحسن حالاً من كل أصدقائك ومعارفك..! إنهم كلهم اصبحوا يلعبون لعباً بالأموال الضخمة ، بينما بقيت أنت دون أي تطور والعجيب أن كل المسؤولين والشخصيات الهامة، هم من معارفك، ومن أصدقائك...‏

     

    انا: قاطعتها بنبرة جادة... اظن أنني نبّهتك اكثر من مرة، آه لا تتطرقي لمثل هذه المواضيع السخيفة التافهة.. انك تتكلمين كأية امرأة جاهلة.. ثم هل ينقصك شىء، يجعلك تشعرين بأنك اقل من غيرك..!؟‏

     

    هي: بلى.. ينقصني كل شىء..!.. انظر إلى فلانة، اين امضت عطلتها الصيفية مع زوجها.. ؟ وانظر إلى اثاث منزل فلان، من أين أتي به..؟ وانظر إلى ( فلتانة) ونوع السيارة التي تمتلكها.. وأولاد صديقك فلان.. اين يدرسون وماذا يلبسون..؟ هل تعلم أين تزين(فلانة) شعرها إنها تذهب اسبوعيا إلى باريس لحلاقته وتصفيفه..!‏

     

    .. إنني بالفعل تعسة.. وبدون حظ..!؟‏

     

    أنا: الأنسب.. لو قلت أنك وجه نحس..! وعلى كل حال، لامانع لدي، إذا وجدت رجلا(قافزاً) ثريا يحقق لك أحلامك، فإنني مستعد للتنازل عنك وتزويجك إياه..! المهم أن يرضى بعجوز مثلك..!؟‏

     

    هي : أنا عجوز- ياقليل الخير.. وأخذت العبرات تتقاطر من الخارج، وتخنقها في الداخل.. أتسمح لنفسك بقول هذا الكلام المسموم..!؟ واجهشت بالبكاء . وعندما رأيت دموعها تتساقط، انحرفت بسيارتي نحو اليسار.. مع أني لم اكن اقودها بسرعة كبيرة. وكادت ان تقع كارثة رهيبة.. وعدت بمعجزة إلى محجّة الطريق.. ومن بعيد، لاحت اضواء مكان الحفل، تتلألأ كالنجوم، فتداركت نفسي، وقلت لها..! جففي الدموع..لقد أنقذ الموقف، وصولنا إلى الحفل..‏

     

    اعتقدت ان مصابيح العرس، ازالت باشراقها المتوهج غيمة داكنة. كانت تتهيأ لتبرق، وترعد ، وتمطر الطوفان... إن النور يقتل المؤامرات..!؟‏

     

    ثم ابتسمت في وجهها قائلا: لاتصدقي ما قلته لك، إنك بالفعل عروسة، وأجمل عندي من كل العرائس والصبايا.. فاستنشقت ريقها وهي تبلع زفرة عميقة، " وابتسمت..‏

     

    قلت في سري: إنني بالفعل، أحب هذه المخلوقة المشاغبة.. واوقفنا السيارة بالقرب من نادي الحفل، ودفعتها بيدي لتخرج، فقالت لي( باللهجة الدارجة) مازحة: لماذا دززتني ( دفعتني) هكذا..؟ فأجبتها بنفس اللهجة:‏

     

    لم اكن بدازك وانما أقجم(أمزح) معك قجماً..!‏

     

    وصدعنا بضحكة صداحة رائعة.. واتجهنا نحو مدخل العرس..‏

     

    كان مكان الحفل، عبارة عن قاعة مستطيلة واسعة، تستعمل في الايام العادية كناد، ومطعم، لعائلات هواة الصيد البحري،.. اما في هذه الليلة، فقد زينت بالمصابيح الكهربائية الملونة. والمفارش الزاهية ، والكراسي والطاولات المغلفة بالاوراق المخملية الفاتحة، والستائر المزخرفة،.. وكانت تتوسط القاعة منصة كبيرة، غاية في التزويق والتنميق،.. جلس فوق مقاعدها الوثيرة، اعضاء الفرقة الموسيقية. وامامهم، وبأيديهم آلاتهم المختلفة الاشكال والاحجام، وحولهم صفت باقات الورد، وصواني الحلويات، واباريق وكؤوس الشاي،.. وفوق رؤوسهم تتراقص المصابيح والثريات الملونة، مع نغمات الموسيقى الصداحة.‏

     

    في الجانب المقابل لمنصة الفرقة الفنية، صفت كذلك مجموعة من الارائك الحريرية المزركشة، شغلها بعض السيدات والآنسات من اقارب واصدقاء العروسين.. بينما كان يتوسطهم العروسان، فوق اريكتين عاليتين ، روعة في الضخامة والجمال، مما جعلهما يبدوان، وكأنهما ملكين عظيمين.. في ليلة تتويجهما على العرش..! وكانت باقات الورود والزهور تملأ كل فراغ حولهما..!‏

     

    وبين منصة الفرقة الفنية، وديوان العروسين، انبسطت حلبة الرقص،.. وكانت مكتظة بالراقصين من الفتيات والنساء والشبان..‏

     

    عندما دخلنا قاعة الافراح، استقبلتنا ام العروس مع مرافقاتها بترحيب وابتهاج، وقادتنا بين طاولات المدعوين، وأجلستنا حول طاولة قريبة من حلبة الرقص احتفاءاً بنا، وتكريما لنا.. فشكرناها، وبدأنا ندير رؤوسنا، لاستطلاع الجو العام..‏

     

    كانت أصداء الموسيقى الصاخبة، المندفعة من مكبرات الصوت العملاقة ، تصم الآذان إلى درجة أنني لم أفهم بوضوح كلمات الترحيب التي تلقيناها من لجنة الاستقبال..! كما انني لم استطع أن ادرك معاني تلك الإشارات والتحيات التي كانت توجه إلينا من طرف الاصدقاء الجالسين مع عائلاتهم، هنا، وهناك.. كنت بالفعل كالاطرش في الزفة.. كما يقول المثل.. ارد بحركة عشوائية من رأسي، ويدي.. على كل من يتحرك في اتجاهي، حتى ولو لم يكن يقصدني.. وكانت قد تسمرت على شفتي بسمة طويلة بلهاء لم تتزحزح او تتغير منذ دخولي القاعة.. ولم أتمكن من إلغائها..!؟‏

     

    لمحت رجلا يقف من بعيد.. ثم يتجه نحوي باسما فاتحا ذراعيه لمعانقتي، فقمت مستعجلاً.. وقصدته ملوحاً بذراعي المفتوحتين، كأنني في حالة طيران، وكنت اردد: أهلاً.. أهلاً.. وعندما اقتربت منه.تأكدت أنني لا اعرفه. ولم يكن يقصدني.. فواصلت طيراني الترحيبي نحو المجهول.. بينما تعانق ذلك الملعون مع رجل آخر كان يسير خلفي..! وكانت زوجتي تلاحقني بنظراتها الفضولية، وعندما اكتشفت خيبتي، كادت أن تجن من شدة الفرح، وقد اشبعتني - بعد ذلك تهكما.. وسخرية.. ومهما يكن فأنا مرتاح، لأن هذه الحادثة المزرية، انقذتني من سلطة تلك البسمة الركيكة، وجعلتها تتلاشى بسهولة من على شفتي..!‏

     

    كانت العروس، تقوم بين الحين والآخر، تتأبط ذراع العريس، فيصحبها إلى غرفة جانبية، وبعد لحظات تخرج منها.. وقد غيرت كل شىء كانت ترتديه أو تحمله أو تتزين به..‏

     

    ويطوف بها حول المدعوين ترافقهما الزغاريد، وآلات التصوير وتصفيقات الحاضرين..‏

     

    وكانت القاعة، مفعمة بالحركة والنشاط، كأنها خلية نحل،.. الصبايا والغلمان يطوفون بصواني القهوة والشاي، والمبردات، والحلويات المختلفة الأشكال، والألوان، ومناديل الورق الناعم المزخرف..‏

     

    عندما وضعوا أمامي صحنا كرتونيا مملوءاً بالحلويات قالت لي زوجتي: لاتأكل منه شيئاً.. سنأخذه إلى الأولاد..!.‏

     

    وكانت قد لفَّت صحنها في المنديل، ووضعته تحت شنطتها الذهبية.. فلم اشأ أن اعكر عليها، أو اثير مشكلة جديدة معها.. فدفعت إليها بصحني، فوضعته بخفة إلى جانب صحنها وهي تقول لي: أنت لاتساعدك الحلويات كثيراً، ولا تحبها، وعندما يقدَّمون الموالح، فبإمكانك أن تأخذ عزك فيها..!‏

     

    كدت أن اقول لها: إنني أحب الحلويات كما أحب الموالح... أما الحلويات التي لاأطيق طعمها فهي تلك التي تقومين أنت بصنعها..!؟ ولكنني تمالكت زمام نفسي.. خاصة وان من عادة الكثيرات من نسائنا أن يأخذن معهن نصيبهن من حلويات الاعراس، تفاؤلا بمجئ الافراح، والليالي الملاح إلى اولادهن، ومنازلهن..!‏

     

    وقف شاب من أعضاء الفرقة الموسيقية، وتكلم بنبرة حماسية في مكبر الصوت، قائلا: إخواتي.. إخوتاتي..‏

     

    هيّا نشطح( نرقص) كلنا مع / الراي/ . ومع أغنية: إدي.. إدي.. للشاب...: خالد.. قالها بصوت مرتفع جداً، فالتهبت الاكف بالتصفيق ، والحناجر بالصياح.. وانهمرت الموسيقى كالشلال الصاخب..‏

     

    ركض أغلب المدعوين نحو حلبة الرقص.. ثم تحولت القاعة كلها إلى حلبة رقص.. النساء.. العجائز .. الفتيات الشبان.. الاطفال.. كلهم يرقصون.. وكل حسب أسلوبه في الرقص .. فهذا يرقص جيداً .. وآخر ينط ويقفز كأنه يلعب على حبل.. وذاك يدوّح بذراعيه، ويرمى بساقيه إلى الامام كأنه يتصارع مع الاشباح، وتلك تخضّ وتلوح برأسها من الامام إلى الخلف كما يفعل المجاذيب، وشعرها المنفوش يتطاير كأنه رأس نخلة تعصف بها الرياح، والاطفال ينطون كالقرود... رقصات جنونية عنيفة ، هائجة.. حتى ليظن المرء أنه امام مهرجان حربي للهنود الحمر.. أو في سهرة شعرية مع سكان الادغال الافريقية..!؟‏

     

    كانت وجوه كل الراقصين، منقبضة الملامح، تدل على الجدية، والألم.. عيونهم مغمضة، وشفاههم مطبقة، وجباههم تتصبب عرقا.. وشعورهم تهتز فوق رؤوسهم، وأجسامهم التي تتلوى، وتنكسر، وترتعد..!‏

     

    ياإلهي.. كم هو وحشي ، رقص / الراي/ عندنا..!؟‏

     

    بالنسبة لي.. كنت باطنيا، اتحرق شوقا إلى خوض غمار المعركة مع الخائضين.. ولكن وقار شيخوختي المزعوم ، منعني.. فاكتفيت بترقيص قدمي خفية تحت الطاولة، وأنا جالس فوق مقعدي..! أما المصونة زوجتي، فقد فلتت مني منذ البداية، وكنت ارمقها من بعيد وهي تجدب، وتتهوّل وأحياناً اراها تقفز بطريقة مضحكة،.. وكنت متأكد بأنها في تلك اللحظات كانت شبه غائبة عن الوعي..!‏

     

    تعب المغني من الصراخ.. فتوقف، واستمرت الموسيقى قوية مجلجلة.. إلى أن بدأ التعب والارهاق على الجميع، فأخذوا ينسحبون زرافات ووحدانا.. وعادت أم الأولاد إلى قواعدها غير سالمة.. إنها قبل أن تجلس بجواري تعثرت في لاشىء.. ووقعت جالسة على الأرض.. ثم نهضت بسرعة ثقلية ، وهي تلتفت يمنة، ويسرة، وتشير إلى أحد المقاعد، وهي تلعنه ظلما وعدوانا... كانت في حالة يرثى لها من الاضطراب والتوتر.. خائفة ان يكون قد شاهدها أحد..! فلم أشأ أن اضاعف من مأساتها، فكظمت ضحكتي ولم استطع، فالتفت خلفي ، وقهقهت على صورة سعال متواصل، اديته بصعوبة بالغة، وكان ضحكاً ديكيا.. يشبه النشيج..!؟‏

     

    قلت لزوجتي مداعبا، وحتى ازيل عنها احراج الوقعة المخجلة: ستكلفنا رقصتك غالياً ياعزيزتي..‏

     

    -قالت لي: ماذا تعني..؟‏

     

    -اجبتها: لاريب أنك ستلازمين الفراش يومين أو ثلاثة بعد هذا الجهد الجبار الذي بذلته.. ان آلام الاجهاد تأتي متأخرة.!‏

     

    -قالت منزعجة : صلي على النبي.. ودع هذه الليلة تمر بسلام..‏

     

    ادركت من صوتها أنها مازالت ترتعد داخليا، فحوّلت مجرى الحديث.. وقلت منبها: انظري.. هاهي عروستنا أخيراً تخرج في ثوبها الابيض الفضفاض .. إنها حقاً، جميلة وفاتنة..‏

     

    كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً، وانهت العروس رفقة عريسها دورتها الاخيرة، بعد سبع او ثماني دورات متجددة الازياء.. ولاحظنا داخل الديوان حركات الاستعداد لرحلة الزفاف الميمونة، مع فارس الاحلام..‏

     

    امسكت يد زوجتي.. وتقدمنا لتحية أهل العرس وتوديعهم.. وكانت المفاجأة مؤثرة ومحزنة.. رأينا العروس مرتمية فوق حضن امها، تنشج وتشهق، وأمها تبكي بمرارة وكل من حولها يئنون، ويجففون دموعهم.. حتى والد العروس الرجل القوي، كان يبكي بصمت..! وقد تأثرت زوجتي بذلك المشهد ، فأخذت هي بدورها تبكي أو تتباكى..! وكانت تشجعهم بكلمة، زادت في تهييجهم، وصارت تكررها: والله الفراق صعيب.. والله.. الفراق صعيب.. فقرصتها..!‏

    اقتربت من صديقي والد العروس، وكدت أن اقول له: عظم الله أجركم ..! وانتبهت ، فاقتربت منه، وهمست في اذنه. مبروك.. ستكبر، وتنسى

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()