بتـــــاريخ : 11/18/2008 4:35:19 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1109 0


    طيف من الماضي

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. محمود موعد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    سطّام النحس (والنحس لقبه) صاحب الشخصية الرهيبة، التي أفزعتنا ليل نهار، في النوم واليقظة، عرفناه في الخمسينيات، ونحن أطفال في المدرسة الابتدائية، في الأزقة العتيقة المتعرجة الضيقة المسكونة بالأسرار، من حي «الميدان». وكان مجرد ذكر اسمه يجعل وجوهنا تصفر، وعيوننا تزوغ، وأرجلنا تشل عن الحركة، وقلوبنا تخفق كالعصافير التي وقعت في الشباك. كان يفاجئنا في منعطف زقاق ونحن عائدون من المدرسة، أو في حارة مسدودة نلعب، بلباسه الشعبي: السروال الأسود الواسع حتى يكاد يمس الأرض لطوله من الخلف، الضيق عند الساقين، المشدود بنطاق عريض عند الخاصرة، والقميص الذي لا نعرف له لوناً وفوقه الصّدار المخطط ذو الأزرار القماشية الكثيرة، والمفتوح دائماً، والطاقية البيضاء المتسخة فوق الرأس الضخم الحليق، والوجه المشطب بضربات سكاكين في أكثر من موضع، والعينين اللتين تقدحان مثل الشرر، والصوت العميق ذي البحة المميزة. يقف كالمارد وسط الطريق، منفرج الساقين، ويداه تزنران وسطه، فلا نستطيع الهرب عن يمين أو يسار، فنتسمر في أماكننا، ونحن نرتجف كغصن فاجأته ريح عاصفة، ننتظر، بلا حول، ما سينطق به، أو يفعله. ويصيح بنا صيحته المشروخة المعهودة: ولاه!.. اضرب سلام انت وهو..!‏

    فما يكون منا إلا أن نرفع أيدينا الصغيرة بالتحية، ونثبتها عند الجبين، حتى يأمرنا بالانصراف. والانصراف يعني عنده المرور من بين رجليه المنفرجتين، فيصفعنا واحداً واحداً، أو يشد ساقيه القويتين على رؤوسنا الصغيرة حين المرور.‏

    وقد قدر لنا أن نشهد لقاء سطّام (قبضاي حارة القاعة) مع (قبضاي حارة الساحة) وهو من بيت الشربجي. وقد ترامى إلى اسماعنا أن في عنقه قتيلين. كنا خارجين من مطعم (وكالة الغوث) حيث نتناول غداءنا بعد انتهاء دوامنا في المدرسة، في الظهيرة، ويقع بين القاعة والساحة. هناك تماماً كان لقاء سطّام بابن الشربجي. ومن حسن حظنا أن المعركة لم تبدأ حين خرجنا من المطعم، كان مجموعة من الصبية يتحلقون حولهما، وسرعان ما يتراجعون لدى نظرة نارية من أحدهما. فانضممنا إلى الحلقة، وأقبل بعض الرجال من الحيين، ولم يشأ أحدهم التدخل لفضّ الشجار. كانا يقفان مواجهة، وقد شمر كل منهما عن ذراعيه وساقيه. وكان كل منهما يعدد محاسن حارته ومساوئ حارة الخصم. وعلى الرغم من إحساسنا بالخوف الشديد، إلا أن رغبتنا بالفرجة كانت أقوى. وعلى الرغم مما كان يفعله بنا سطّام إلا أن هوانا كان لمصلحته، فهو ابن حارتنا على كل حال، والآخر قتّال قتلى.‏

    وفجأة وبعد الملاسنة القصيرة، سحب كل من جيب سرواله، في وقت واحد (موسى كباس بست طقات) وفتحه بحركة سريعة، فلمع النصلان في الشمس، ووضع كل منهما الموسى في فمه، وكأنهما يؤديان دوراً على المسرح. ثم خلع كل حذاءيه المكسورين من الخلف، فأصبحا حافيين. وانحنى كل في مواجهة الآخر، وأخذا يدوران في حلقة، وهما منحنيان، حتى إذا تمكن ابن الشربجي من سطّام أنشب أصابعه حول عينيه وضغطه، فاندفع الدم في وجه سطّام، وسقطت طاقيته البيضاء المتسخة. وأيقنا بهلاكه، ولكنه بحركة سريعة قبض على ابن الشربجي من وسطه وألاحه عدة مرات، فصدرت عنه (أخ) قوية، وتراخت يداه عن وجه سطّام، وتهاوى على الأرض منبطحاً وفوقه سطّام يغالب لهاثه محتفظاً بالموسى في فمه، بينما سقط موسى ابن الشربجي على الأرض. عند ذلك أمسك سطّام بالموسى من قبضته ولوّح به في وجه خصمه، وأخذنا ذعر شديد، وظننا أنه سيطعنه في صدره. ولكنه نهض من فوقه وابتعد عنه قليلاً وهو يصيح به:‏

    ـ قوم ولاه... خذ موسك وامش، ولا تعمل من حالك قبضاي!‏

    وفعلاً نهض ابن الشربجي واسترد موساه، وأخذ ينفض الغبار عن ثيابه، تحت تهديد موسى سطّام في يده المرفوعة. واسترد كذلك طاقيته البيضاء التي تدحرجت بعيداً، ونفضها بقوة، وأعادها إلى رأسه، وانسحب دون أن ينظر إلى أحد، واتجه نحو مدخل حارته، واخترق سطّام الحلقة الملتفة حوله، بكبرياء، وأعاد الموسى، بعد أن طواه، إلى جيبه.‏

    وظننا يومها؛ أن لا أحد في العالم يستطيع أن يغلب سطّام ، واستعدنا خوفنا منه، فتفرقنا مذعورين قبل أن ينتبه إلأى وجودنا خلفه.‏

    ولاحقنا سطّام النحس بألوان من الرعب والخوف، وانضافت شخصيته إلى شخصيات أخرى حقيقية أو خرافية عرفناها، وارتبطت بالمشاجرات، وضرب السكاكين والعصي، ونطح الرؤوس، وبالقمار والمشروب في الأزقة أو البراري المحيطة بالحي. وصرنا نتبادل قصصه التي نسمعها ونضيف إليها قصصاً لم تحصل. وبقي سطّام جزءاً أصيلاً من الذاكرة الشقية لأيام البراءة والدهشة والفقر والأحلام. وتباعدت صورته والأيام تتقدم بنا، وننتقل إلى حيّ آخر، وغدت نوعاً من الذكرى الجميلة قد نستعيدها، حين نعود إلى تلك الفترة من حياتنا، وأغرقتنا الحياة والأولاد والمسؤوليات والهموم السياسية والثقافية والمعيشية. وغاص سطّام في شبه غياب من الحافظة المتعبة المثقلة.‏

    ومنذ فترة قريبة، تم انتشال سطّام من شبه العدم إلى حضور مختلف. إذ فوجئت وأنا أمر من أحد شوارع المدينة الحديثة بعبارة واضحة، وبخط عريض (أفران الحاج سطّام... وأولاده). وصدرت عني من الأعماق: يا إلهي!. وعرفت بعد السؤال أن صاحب الفرن هو سطّام ذاته، وليس ثمة تشابه في الأسماء. ولما حاولت زيارته في الفرن قال لي العمال: الحاج لا يداوم وهو في منزله. وصرت أتخيل شخصية سطّام الجديدة بعد أن كبر وتاب، وتزوج، وحج البيت الحرام، فتقفز صورة الشقي سطّام وتختلط بها، فأعجز عن تخيل هذه الصورة الجديدة. وبقيت متلهفاً إلى لقائه ولو لم يبق من عمري سوى يوم واحد.‏

    وكنت سهران، ذات ليلة، عند قريبي وصديقي القاضي، وأوغلنا معاً في ذكريات الماضي المشتركة. وفجأة بادرني بقوله:‏

    ـ أتعرف من حضر إلي بالأمس في المحكمة؟‏

    ولم يمهلني، فتابع كلامه:‏

    ـ لقد حضر عندي الابن الأكبر لسطّام... يحمل لي سلاماً من والده ويذكرني بالحارة العتيقة ويرجوني أن أساعد ولده في الدعوى التي أنظر فيها، ويدعوني لزيارته.‏

    وسرعان ما قررنا زيارة الحاج سطّام معاً في أقرب وقت. واقترح قريبي أن يكون ذلك في اليوم الأول من عطلته القضائية.‏

    ودخلنا معاً في المساء المحدد في حارات الميدان، وكأننا ندخل مكاناً مقدساً، تسبح فيه أطياف الماضي وأصداؤه. وفوجئنا ، حين أطل علينا البيت، الذي نعرفه جيداً، بأضواء باهرة، وأناس يروحون ويجيئون، وصوت مقرئ القرآن يردد: «كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فبأي آلاء ربكما تكذبان».‏

    لا أريد أن أتحدث عن المشاعر الغريبة المتباينة التي انتابتنا. لقد دخلنا إلى الساحة الواسعة، ذات البحرة، التي جفت، وأشباح أشجار النارنج والليمون وبقايا شجيرة ياسمين ذابلة والجدران المتشققة. وجلسنا صامتين في السرداب المقام، نترحم على الحاج سطّام، الذي أبى إلا أن يبقي صورته (الشقية) القديمة في ذاكرتنا، فرحل قبل يوم واحد فقط من زيارتنا له!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()