بتـــــاريخ : 11/13/2008 6:58:25 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1344 0


    دون كيشوت.الحسكة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد بلقاسم خمار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    (3)- دون كيشوت.الحسكة ..!

     

     

    منذ ثلاثين سنة مضت.. وذاكرتي محرومة من دفء أشعتها ، من جمال الوانها، من شذى ورودها، من زقزقة عصافيرها، من نعومة اطيافها. وحلاوة مذاق أحلامها..!‏

     

    منذ ثلاثين سنة، وذاكرتي عقيم لاتلد..كنز ضائع، نبع غائر المياه..شمعة تنطفئ كلما اضاءت.. عاشقة يسكنها الظلام ، كلما فتح لها حبيبها نافذة للنور...!؟‏

     

    لم تعد لذاكرتي طفولة، ولا فتوة.. ولا شباب.. ادراج أما سيها شاغرة.. مغبّرة.. موحشة... وما تكتنزه قبل ثلاثين سنة، لاأدري كيف اصبحت صورته اليوم..(ربما اشلاء من الموميات، وانقاض من الخرائب.. والهشيم الذي تذروه الرياح..! وربما مازالت فيها بعض الملامح النابضة. التي قد تجمعنى بذاتي تقربني من نفسي، وتفتح لي أفقا مغريا ، للتحاور مع الأمل..!؟‏

     

    -قاطعني محمود متحمسا: واصل ..واصل تداعياتك، ومناجاة خواطرك.. يبدو أنني سأكتشف من خلال هذيانك هذا سبب إختيارك المجئ إلى دمشق..‏

     

    انقطع تيار افكاري، بمجرد أن تكلّم محمود.. وفي اللحظة نفسها لمحت سربا من العصافير، ينفض اجنحته بضجيج، وينفصل عن شجرة قريبة منا . ويبدأ بالدوران تحت سماء حديقة / السبكي / ثم يعود باستعجال ليستقر فوق شجرة أخرى بعيدة.._ قلت لمحمود: هل رأيت تلك الطيور الصغيرة المرحة ..؟ إنها تلعب كالأطفال ..! لقد تخيّلت عندما كانت تحوّم..كأنني احلق في الفضاء معها.. ولما غادرت الافق، واختفت بين اغصان الشجرة ، أحسست كأنني ريشة وحيدة، تتهاوى ببطء نحو فراغ رهيب..!‏

     

    -قال محمود: أليس من الأحسن ان تواصل الحديث في ما كنت تقوله عن ذاكرتك ..؟‏

     

    سألته: أي حديث ..؟ وأية ذاكرة ..؟‏

     

    - قال لي : احك لي بعضا من ذكرياتك في سورية، قبل ثلاثين سنة... إنك ولا شك - مازلت تذكرها..‏

     

    -طبعا- اذكرها ، بل وأحفظها عن ظهر قلب ،... إنها الشىء الوحيد الذي ظلت ذاكرتي متشبثة به، طيلة هذه السنين التافهة التي مرت بي.. إنها شريط طويل ، واضح سليم مليء بالأحداث ، حلوها ومرّها ، فيه عزة ، وجلال، وجمال وحب .. وفيه الم ، وحزن ، وشوق ، وشقاء .. ولا اعتقد أنني نمت يوما قبل ان استعرضه وأشاهده من اوله إلى آخره .. على شاشة ذاكرتي ، إلى درجة أنني اصبحت الآن خائفا ، أن يصدمني الواقع بتشويه بعض اجزائه او فصوله ..!‏

     

    إن فرحتي بقيام الوحدة بين مصر وسورية سنة 1958 . مازالت ذكراها منتعشة بين جوانحي ،.. وإنها لحدث خالد ، لا يمكن للأيام ان تمحو روعته ، مهما تقلبت..‏

     

    وحزني يوم نزلت كارثة الانفصال ، ظل يتأجج ، ويلهب كياني ، إلى أن وجدت نفسي داخل سجن / المزة / سنة1961.. حيث امضيت اياما للضيم ، والغيظ، والإرتخاء ..‏

     

    وعندما انطلقت زغاريد آذار ، زارني الفرح مرة أخرى،... وغادرت دمشق وأنا مرفوع الهامة ، سعيد النفس.. ثم .. شيئا .. فشيئا .. فشيئا .. غرقت في ليل كالح موحش ..!‏

     

    يوم تم اعلان الحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1958 - كتبت موالا ، ورفعت صوتي بالغناء .. وساعة اشراق شمس الإستقلال في الجزائر، تحوّل الحلم إلى جناحين في قلبي ..‏

     

    ومن شدة الخفقان ، عانقت الفضاء وطرت .. وصرخت ، وبكيت ، وصدحت بالأناشيد ،.. ثم شيئا .. فشيئا .. تهاويت من قمة الحلم الحقيقة ، كريشة وحيدة ، تتأرجح ببطء نحو فراغ رهيب ...!؟ ومن يومها انسدت بعض منافذ ذاكرتي أمام مسلسلاتها الجديدة ..!؟‏

     

    وإنني مازلت اذكر أعوام إقامتي في حلب الشهباء ، ورأس العين ، والقامشلي ، والحسكة ، ودمشق الفيحاء .. وسقى الله عقد الخمسينات بعطر شذي من نقاء المجاهدين ومن جنان الشهداء ..‏

     

    في حلب .. كنت بطلا في ركض المسافات القصيرة . وفي خبب المظاهرات ، وسرعة الإفلات من اعشاب الربيع ، ومع ذلك لم اكن أعر قدمي أنتباهاً أو عناية ..‏

     

    إلى أن استوقفني مرة فاعل خير ، وطلب مني أن اخفض راسي قليلا .. وعندما فعلت ، وجدتني ارتدي فردتين لحذائين مختلفين ، اليمنى سوداء ،.. واليسرى حمراء .. فاندهشت حياءً .. وضحك الرجل ، وانصرف..‏

     

    وفي رأس العين .. تسلقت شجرة عالية ، وفتحت ذراعي ، وأخذت نفسا عميقاً حتى إمتلأ بطني بالهواء ، ثم القيت بنفسي في الجو .. محاولا الطيران كأبن فرناس .. ومن حسن حظي ان / رأس العين / مليئة بالبحيرات الصغيرة العميقة ، فاستقبلتني إحداهن في حضنها الرقراق، كما تستقبل الام طفلها فوق حجرها .. ونجوت باعجوبة من السقوط..‏

     

    وفي القامشلي كنت فدائيا ، عاشقاً ، متصوفا .. أحياناً احمل مسدساً لأحرس به حبيبتي من شراهة العيون، وأحياناً احمل رشاشاً لأذود به عن حدود المدينة من خطر المتسللين .. وكنت معلما .. وشاعراً ، ومناضلاً ، وزبونا محبوبا في فندق / هدايا/ ..!‏

     

    ومن القامشلي اتجهنا نحو دمشق .. كنا ثمانية من المعلمين والمعلمات ، داخل سيارة أجرة ، لا تتسع إلاّ لخمسة ركاب مع السائق ، .. كان الهدف هو حضور حفل اعلان الوحدة ورؤية القائد العربي المرحوم ، جمال عبد الناصر ،.. وفي الطريق الطويل ، كنا إذا صادفنا حاجزاً أمنيا ، لشرطة المرور ، نرفع عقائرنا بنشيد / قسماً / فكان رجال الشرطة عوض تسجيل المخالفة على تلك الزحمة الجنونية .. يلوحون لنا بايديهم باسمين ، وهم يهتفون : تحيا الجزائر ..! أما الحسكة .. فجل ذكرياتي معها يعرفها نهر / الخابور / بضفافه الوارفة .. ويشهد على بعض لوحاتها الزاهية ، صديقاي: ابو يوسف، وأبن أبينا هكذا كنا نسميه ، لأن والده كان قساً..‏

     

    أطرف مشهد مرّ بي فيها ، يوم فتحت باب غرفتي الضيقة صباحاً ، ودلفت خارجاً ، فإذا بي لم استطع رؤية أي شىء أمامي .. كان الفضاء كله غارقاً في بحر من الهباب الاصفر الكثيف ، وكان الغموض الضبابي يغمر كل منافذ النظر..والحبيبات الدقيقة الناعمة ، تتساقط بهدوء، كالعهن الكثيف والسكون يملأ كل شىء ، لاهبوب ولا دبيب .. ولا يستطيع البصر أن ينفذ لاكثر من خطوة..!‏

     

    كنت وحيداً في الشارع الصامت .. وواصلت كالأعمى طريقي ، بحي / غويراة / إلى ان وصلت المدرسة ، وكانت / حاسة الاتجاه / هي دليلي في مسيري ..! كان بابها مغلقا على غير العادة ، فطرقته .. ثم طرقت بشدة .. وصاح الحارس من مكان خفي بعيد ..: من هناك ..؟ أجبته : أنا فلان .. افتح الباب ..‏

     

    -احسست ببسمته الساخرة ، وهو يقول لي بصوت مرتفع : ارجع يا استاذ إلى بيتك ، فيوم / الطوز / لايخرج فيه أحد من داره ..‏

     

    لم افهم معنى / الطوز / ولكنني عدت مسرعاً أتعثر إلى غرفتي .. وكان جيراني ، وهم من الفلاحين ، كأنهم قد انتقلو إلى عالم آخر .. لاحركة ، ولا صوت .. ويظهر أنهم ما زالوا نائمين وهم الذين كانوا يستيقظون منذ الفجر، ويحرمونني بضجيجهم من ألذّ لحظات الغفوة ، في تلك الدقائق الفجرية ..!؟‏

     

    فتحت باب غرفتي ، واقتحمته ، واغلقته بسرعة وحذر ، حتى لا يلاحقني ذلك الغبار السحري الناعم ... وكم كانت مفاجأتي شديدة مدهشة ، عندما ابصرت جو غرفتي في اصفراره ، وكثافته ، وغموضه .. كالجوّ الذي يخيم خارجها ..!؟ ياإلهي .. هل هذا الغبار ، يستطيع اختراق الجدران ..؟ لاريب ان كلمة / الطوز / تعني أشياء غريبة ...!‏

     

    خلعت مئزري ، وشمرت عن ساعدي ، وبدأت معركتي مع هذه / الظاهرة الطوزية / وكان سلاحي هو سكب مالدي من مياه مخزّنة للشرب ، والطبخ ، والغسيل، بواسطة طاسة مفلطحة ، كنت استعملها عندما آخذ حمّاما داخل الغرفة .. اما الآن فهي صالحة لتحميم الغرفة كلها .. وبها أخذت ارش المياه ، باتجاه السقف .. من فوق إلى تحت .. وفي كل الاتجاهات ، وبصورة عشوائية مقصودة ، على نية ان تعلق قطرات المياه المتناثرة ، بذرات الغبار المتماسكة ، فتذيبها وتحللها ، وتسقط مع رذاذ الماء .. وبذلك يعود النقاء والصفاء إلى الغرفة ..‏

     

    استمرت معركتي مع الماء والهواء اكثر من نصف ساعة ، وقد أدى ذلك المطر الاصطناعي الذي اخترعته ، إلى جعل ارضية الغرفة كأنها مستنقع قذر .. واخذ العرق يتصبب من جبيني وارهقني الاعياء ، فجلست على حافة السرير المبتل ، لاستريح ، ورفعت نظري ،.. كانت الغرفة ما تزال على حالتها الضبابية القاتمة .. لم يتغير فيها أي شىء ..! وتعجبت من أمر هذا / الطوز / البليد .! وهنا سقطت قطرة ماء من السقف ، أو قطرة عرق من جبيني على باطن نظارتي السميكة المقعرّة .. فخلعتها لأمسحها ، واستأنف معركتي مع الماء والهواء .. وكانت المفجأة المذهلة ، لقد رأيت غرفتي ، تنعم بصفاء رائق كالمرآة الصقيل ، لا شائبة فيها ،.. وانتبهت إلى نظارتي التي في يدي ، ان غلافا كثيفا من الهباب الاصفر الدقيق يفترش عدساتها المقعرة ..!‏

    ابتسمت بمرارة ، وقلت في سري : يالي من مغفل مهبول .. إنني الآن جدير بأن احمل اسم دون كيشوت الحسكة !‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()