بتـــــاريخ : 11/12/2008 3:54:47 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1166 0


    النفق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ابراهيم خرّيط | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة النفق ابراهيم خرّيط

     

     

    لم أكن قد تجاوزت السابعة من عمري عندما جرت أحداث هذه القصة..‏

     

     

    كنت فتى نحيل الجسم وقد لوّنت شمس الصيف بشرتي بسمرة شديدة حتى باتت لا تختلف عن لون الثوب الرمادي الذى لا أنضوه عن جسدى الا للغسيل أو السباحة في الساقية القريبة من بيتنا.‏

     

     

    وبيتنا هذا..غرفتان صغيرتان من لبن وطين وعريشة عنب في بستان كبير انتظمت فيه أشجار الفاكهة صفوفا طويلة، وزرعت أرضه بالخضروات والذرة الصفراء ودوّار الشمس.‏

     

     

    في تلك الأعوام كانت لنا رحلتان..رحلة الشتاء من القرية الى المدينة عندما تفتح المدارس أبوابها، ورحلة الصيف في أوائل حزيران اذ نعود الى القرية حيث موسم الحصاد وجني المحصول.‏

     

     

    ولأنني أختلف قليلا عن أبناء القرية، ولجهلي بالمخاطر التي قد يتعرّض لها فتى مثلي، لايسمح لي بالابتعاد عن البيت كثيراً ، لهذا لم أكن أعرف حدود البستان الذى نملكه، ولم أتوغل في جوانبه مرة واحدة.‏

     

     

    الا ان المغامرة بالخروج من الدائرة الضيقة المرسومة لي استهوتني.. يدفعني اليها رغبة ملحة في التعرّف على ذلك العالم الجميل الغريب، واكتشاف بيوته وحقوله وبساتينه وسواقيه وبيادره..يشجعني على كسر الطوق والخروج من حدود الدائرة شعوري بأنني لم أعد طفلا وبعض الرفاق من أبناء الفلاحين..هؤلاء الذين يشبهون طيورا برية..يتنقلون النهار بطوله في الحقول والسواقي وغابات الحور والغرب. يتسلقون الأشجار، يأكلون ما تختطفه أيديهم من خضرة أو فاكهة، وقد يصطاد أحدهم بعض العصافير أو السمكات الصغيرة فيجعل منها وجبة شهية دسمة تغنيه عن وجبة البيت التي قد لا تكون سوى الخبز والشاي.‏

     

     

    ذلك الصيف صرت أقلدهم..ألعب معهم، أتسلق الأشجار،أصطاد العصافير،أمرّغ جسدي بالرمل عند السباحة.وعند العودة الى البيت أهيئ نفسي للعقاب أو اللوم والتهديد.‏

     

     

    ذات يوم، بعد أن ذهب أبي الى المدينة، سمعت من ينادي علي..كان ذلك هو (الأسود)الفتى الذي يماثلني في العمر أو يزيد عني بشهور..تسللت من البيت بخفة وهدوء ، ولما اقتربت منه قال:‏

     

     

    -هيا بنا ..‏

     

     

    سألته: الى أين؟‏

     

     

    أجاب هامسا: سوف تعرف.‏

     

     

    كان الأسود حافي القدمين،أشعث الشعر، وقد احترق جلده بشمس الصيف حتى غدا كجلد الثعبان.‏

     

     

    مشى ومشيت الى جانبه، يتقدمني على الأرض الرملية المحرقة أحياناً، وأجاريه أحيانا أخرى.‏

     

     

    كنت أشعر بقليل من الرهبة والرغبة،وكلما ابتعدنا يكبر خوفي وتكبر رغبتي في التعرّف والاكتشاف.‏

     

     

    سرنا بجانب جدار البستان الذى نملكه ونقيم فيه..‏

     

     

    اعترضت طريقنا ساقية عالية وأسلاك شائكة فانحرفنا، واجتزنا حقلا مزروعا بالذرة..كانت عيدان القصب تتعالى على قامتينا، وكنا ننحرف يمينا ويسارا ونحن نتابع طريقنا وعندما خرجنا من الحقل لم أعد أعرف اين صرنا وكم ابتعدنا.‏

     

     

    رأى في عيني شعورا بالخوف فقال:‏

     

     

    -لاتقلق، سوف نعود على الطريق ذاته.‏

     

     

    قلت متظاهرا بالشجاعة: لست خائفا.. أخشى أن أتأخر.. ثم ..لماذا جئنا هنا؟‏

     

     

    قال : سوف تعلم عندما نصل.‏

     

     

    انعطفنا الى اليسار،مشينا،ثم انعطفنا الى اليسار مرّة أخرى.‏

     

     

    سألته:هل نعود الى البيت؟‏

     

     

    ثم استدركت: ليس هذا هو الطريق الذى مشينا عليه.‏

     

     

    قال: أعرف.‏

     

     

    بعد خطوات،كنا نقف أمام جدار طيني مرتفع،فوقه زرعت قطع من الزجاج وأسلاك شائكة، وخلف الجدار بدت أشجار فاكهة تشابكت أغصانها وتدلّت ثمارها الكبيرة الناضجة.‏

     

     

    قال وقد اشرق وجهه:ما رأيك؟‏

     

     

    لم أجب بكلمة.‏

     

     

    في بستاننا ثمار مثل هذه، لاتختلف عنها في شيء.‏

     

     

    تأملتها..وفي لحظة الصمت والانتظار تبدلت نظرتي إليها..بدت لي مختلفة تماما..أكبر حجما، وأكثر احمرارا، وربما ألذ طعما..‏

     

     

    قلت أسأله: هل من سبيل اليها؟‏

     

     

    قال بعد أن حك رأسه:هذا صعب.‏

     

     

    -لنرجع اذا.‏

     

     

    قاله: لا..سوف نجد طريقه.‏

     

     

    تجوّل في المكان..فحص شقوق الجدار وثقوبه، حاول أن يتسلّق إلا ان السلك الشائك والزجاج حالا دون ذلك . تلفت حوله ثم صرخ بفرح طفلي: وجدتها..انظر.ثمة نفق قديم يمتد عدة أمتار تحت الطريق الموازى للجدار ثم ينفتح على البستان.‏

     

     

    قال: هذا مجرى للماء.‏

     

     

    سألته: وما نفع ذلك؟‏

     

     

    قال: إذا دخلنا من هذا النفق نصل الى البستان.‏

     

     

    قلت بدهشة واستنكار:‏

     

     

    -ندخل النفق؟‍ كيف؟ انه طويل،ضيق ومظلم.‏

     

     

    وربما كان مسكونا بالأفاعي،أو قد يكون مسدودا.‏

     

     

    قال:نجرّب.‏

     

     

    انحنى نحو النفق،وقرّب رأسه بحذر..قفزت بعض الضفادع فهبّ مذعورا..رأيت الخوف في عينيه وعلى تقاطيع وجهه..قلت ضاحكا: خفت.؟‍‏

     

     

    قال:أنا .لا..أبدا.‏

     

     

    انبطح على الأرض ودسّ جسمه النحيل في النفق..كان يتقدم بصعوبة.لاأدري،هل كان ذلك بسبب الخوف أم ضيق النفق.ناديته،لم يرد على ندائي،كانت قدماه تتحركان وتدفعان بجسده نحو الداخل.توقف ثم عاد وقد جرّ معه بعض العيدان والحجارة،وقال:‏

     

     

    -هذه تسد طريقي.‏

     

     

    التفت الي وقال:تتبعني؟‏

     

     

    هززت راسي موافقا ولكنني لم أكن جازما.‏

     

     

    كثعبان أو كجرذ غرز جسده في النفق.‏

     

     

    وقفت حائرا..أخشى أن اتبعه ولا أستطيع الخروج من هذه المصيدة الرهيبة،وأخجل أن أرفض فيتهمني بالجبن والخوف.‏

     

     

    بعد تردد انبطحت على الأرض وزحفت.‏

     

     

    صار نصفي الأمامي في النفق..حجبت حزمة النور بجسمي،كان النفق مظلما حارا رطبا..زكمت أنفي رائحة نتنة.. ربما كانت رائحة حيوان نافق أو بقايا ماء آسن،وفي الظلام لمست شيئا يتحرّك .. انتفض مبتعدا فسحبت يدي بسرعة..‏

     

     

    صرخ الأسود: هل أنت ورائي؟‏

     

     

    قلت خائفا:نعم.‏

     

     

    أضاف قائلا:أنت من لمس قدمي؟.لقد أفزعتني.‏

     

     

    قلت :وأنت كذلك ،حسبتك..‏

     

     

    ولم أكمل..كنت أرتعد..‏

     

     

    قال مشجعا:اتبعني،سوف نخرج.‏

     

     

    توقفت، حاولت أن أتراجع لكنني لم أستطع..ذعرت، قلت محدّثا نفسي: لقد علقنا وقد نختنق ونموت وندفن هنا ولا يعلم بنا أحد.‏

     

     

    صار النفق أكثر حرارة ورطوبة..كنت أتنفس بصعوبة،نزّ جسمي عرقا غزيرا..اختلط ببقايا الماء الآسن، تمنيت في تلك اللحظة أن أكون في أي مكان غير هذا ، جال بفكري أن نهايتي باتت قريبة .. المعجزة وحدها هي التي يمكن أن تنقذنا..‏

     

     

    صرخت بصوت مخنوق:تقدّم..اسرع..‏

     

     

    رد قائلا: النفق ضيق،يكاد أن يطبق علي.‏

     

     

    قلت بصوت يغالبه البكاء:‏

     

     

    -حاول وأنا أدفعك.‏

     

     

    دفعته بكل ما بقي لدي من قوة..تقدّم قليلا، زحف ببطء شديد، ثم قال وقد تغيرت نبرة صوته:‏

     

     

    -ادفع أيضا..لقد اقتربنا..‏

     

     

    بذلت جهدي، دفعته يائسا.وعندما رأيت خيط نور يتسرب من فتحة النفق شعرت بشيء من الأمل والعزم . كان الأسود قد تجاوز النفق ..مدّ يده وشدّني ، صرنا داخل البستان..جلست على الأرض ألتقط أنفاسي،تبدد كابوس الخوف الذي لازمني داخل النفق..شعرت أن الحياة عادت الي مرّة أخرى.‏

     

     

    كنت ملوثا بالطين والطحالب..في يدي وساقي جروح وخدوش لم اشعر بها وأنا في النفق.أما الأسود فقد كان منظره مضحكا اذ بدا كتمثال من طين، تلمع في وجهه المعفّر عينان تشيران انهما لكائن حي.‏

     

     

    لم تعد الثمار الناضجة تغريني، كل ما يشغلني هو الخروج من هذه المصيدة والعودة الى البيت.وهذا ما يقلقني ويرعبني ، سألت : كيف نخرج ؟ أشار بيده الى النفق.‏

     

     

    قلت : أرمي بنفسي الى الجحيم ولا أدخله مرّة أخرى.‏

     

     

    قال: اتبعني..ولكن عليك أن تعدو اذا طاردونا، وقد نقع في أيديهم..‏

     

     

    قلت :هذا لايهم.‏

     

     

    تغلغلنا بين نباتات الذرة الصفراء ودواّر الشمس. تطول المسافات ، نعدو ، نلهث، نتعثر بالأحجار، لانأبه للأشواك أو لأوراق الذرة التي تدمي أذرعنا وأقدامنا..‏

     

     

    وبعد أن اجتزنا مساكب الذرة تمهلنا قليلا فقد بتنا مكشوفين،نحتمي بين حين وآخر بالأشجار الكبيرة.‏

     

     

    وقد بدا المكان خاليا من الانسان والحيوان.‏

     

     

    قال:اذا تقدّمنا بهدوء فقد نخرج من بوابة البستان دون أن يرانا أحد.‏

     

     

    مشينا بحذر، تقدّمنا أكثر..‏

     

     

    بدت لي بعض المعالم مألوفة .. هذه الشجرة تسلقتها، وهذه الساقية رأيتها من قبل..‏

     

     

    اقتربنا أكثر..‏

     

     

    بدت عريشة العنب والبيت الصغير ذو الغرفتين. صرخت : إنه بيتنا ..‏

     

     

    أضفت: وهذا بستاننا الذى كنا نريد أن نسرقه.‏

     

     

    غسلنا أيدينا ووجهنا بماء الساقية..‏

     

     

    تسلل الأسود خارجا من بوابة البستان..‏

     

     

    نفضت الغبار ، ومسحت الطين عن جسمي وثوبي . وعندما وقفت أمام البيت أطلّت أمي وقالت وقد راتني بهذه الصورة :‏

     

     

    -أين كنت ؟ مالذي فعلته بنفسك؟.. لاشك انك ابتعدت كثيرا ولعبت في السواقي والحقول.‏

     

     

    قلت وأنا أشعر بالذنب:‏

     

     

    -كنت هنا ، في البستان..صدّقيني.‏

     

     

    قالت:أنت تكذب .‏

     

     

    طبعا لم تصدقني رغم إني كنت صادقا هذه المرّة.‏

     

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة النفق ابراهيم خرّيط

    تعليقات الزوار ()