- يا محمود.. ارحم نفسك..
- كان علي أن أقتله..
- يا محمود..
- اغربي عن وجهي.. أنت منهم.. كلكم كلاب.. كلاب..
- يا محمود.. أنا ابنة عمك..
- ماذا تريدين مني؟! لماذا تلاحقينني؟!
- لا أريد أن تقتل نفسك.. عد إلى رشدك أرجوك..
- اقتل نفسي!. أية نفس تقصدين؟! لم يبق لي الكلب سوى حشاشة محتضر وحشرجات منازع.. أنا بقايا إنسان.. بقايا إنسان..
- ما عهدتك يا محمود يائساً.. ابدأ من جديد.. لن أتخلى عنك أبداً..
- لكنني سأقتل الكلاب أولاً..
- لن تستطيع يا محمود فهم كثر..
- سأقتلهم واحداً بعد واحد.. سأقتلهم.. سأقتلهم..
الكلمات ممزوجة ببكاء ودموع.. النشيج يتلاحق والأنين يتسارع.. يتأمل الدمار الذي حلّ به بعينين كليلتين.. يبثه أحزانه ولواعجه، ويرنو بأسى إلى هشيم وروده النادرة فيلفه الغثيان بعباءة صفراء كالحة.. يسير بلا هدى متعثراً بأحجار قصره المهدم يبكي ويلطم وجهه المغبر مستجدياً الحسرة من ركام الأنقاض الممزوج بدماء زوجه وولده الوحيد.. باحثاً عن العزاء في ثنايا الوجد.. والأمل في فيافي المجهول، فلا تطرق مسامعه سوى عبارة امرأة تلاحقه أينما ذهب"إنها إرادة الله"
***
أنت أيها المدفون تحت طباق الموت.. أيها المغروس في تربة القهر.. أيها الخالد في قلبي النازف.. لم رحلت سريعاً؟! لم أرتوِ من مناغاتك، ولم أفرح بعيد ميلادك الثاني.. كابدت طويلاً، وتحملت كثيراً، وأرقت ماء المحيّا لأجلك يا حبيبي..
لمن أعيش الآن؟! وكيف؟! وأنا المحجور في الخراب أعيش الهواجس في العواصف الربداء ليت قدري أمهلني بعض الوقت.. ليته.. ليته..
- خفايا القدر يا محمود لا يرقى إليها وقت، ولا تخضع إلا لموازين السماء..
- لكن لماذا؟. لماذا؟.
- لأنك فعلت الكثير..
- غيري فعل أكثر ومازال بخير..
- سيموتون ميتة الكلاب يا محمود.. فلكل أجل كتاب..
- لكنني سأقتل كل الكلاب..
- لن تقدر عليهم..
- سأفعل..
***
رثّ الثياب.. أشعث الشعر.. أغبر الوجه.. طالت لحيته بغير انتظام.. عيناه لا تستقران على اتجاه معين.. الزبد الموحل يجلل شفتيه الرقيقتين.. بيده اليمنى عصا غليظة وبالأخرى صورة ولده.. يبكي بحرقة كل هنيهة ما يلبث أن يصيح بعصبية ناثراً الزبد في كل اتجاه: لا تثقوا بالكلاب أيها الناس.. لا تثقوا بمن ليس لديه إحساس..
يجوب الشوارع والأزقة والخرائب والدوائر والمؤسسات باحثاً عن الكلاب، وكثيراً ما تحلق حوله أطفال الحارة يرشدونه إلى تواجد الكلاب في أكثر من اتجاه، فيعدو مرغداً مزبداً باحثاً هنا وهناك، وتلهث وراءه امرأة شعثاء غبراء تناجيه وتتوسل إليه ذارفة دموعاً سخينة ، وثمة أناس ينظرون إليه بإشفاق فيرون فيه عظة وعبرة مرددين بتنهد عميق:
"يمهل ولا يهمل".
***
هي الحياة سلسلة سياط وكوابيس، ونحيب يمزق الشرايين، ونفوس مقهورة وقلوب مكلومة.. نومنا غيبوبة، وصحونا دائماً على مطرقة مثلومة.. نسير على طريق الحسرة ونعلم أن الزبد يذهب جفاء ولا يمكث إلا الصريح، فنعض بالنواجذ، وتصيح الآه من لوعة أين أستريح.
لوعة اليتم ومرارة الفقر من المهد عاشتا معه.. عضه الجوع حتى أدماه، ووخزه العوز حتى أغماه، فتمرغ على أعتاب الكلاب زمناً يلهث عندما يسيرون، ويلتهم الفتات عندما يأكلون، ويلعق الأقذار عندما يشربون حتى كبر نابه فأبى إلا أن يكون ذئباً تخافه كلّ الكلاب.. وكان له ما أراد..
لم تنجب له ابنة عمه ذرية على مدى أربعة عشر عاماً، فكان كالتائه الطريد يبحث عن الأمان في كلّ مكان يعبّ من الخمرة ما يشاء، ويلقي على موائد الميسر ما يريد فاحتضنته امرأة تلك الموائد تعجّ عطراً وأصبغةً وتنثر مالاً وفتنة، فأعلن من شباك العهر مسوّدة القرار..
- يا محمود.. أنا ابنة عمك..
- أعرف جيداً يا علياء.. لكنني أريد ولداً يرثني ويحمل اسمي..
- ليس بيدي يا محمود.. إنها إرادة الله..
- قدرنا أن نفترق يا علياء..
- لا تطلقني يا محمود.. لم يعد لي في الدنيا سواك بعد رحيل أبي..
- لكن سوسن تريد مهرها ورقة طلاقك..
- سوسن؟! تلك العاهرة.
- اخرسي..
وتلقت علياء لأول مرة في حياتها لطمة أدمت أنفها وشفتيها.
- أتضربني يا محمود ؟!
- أنت طالق..
- لا.. لا يا محمود..
- أنت طالق..
إيه يا دنيا.. دمي في القرار أرشف المحنة قطرات سم زعاف.. أين أمضي والريح تعزف لحن الفراق، والمدى يردد صدى الحروف الأربعة وأنا للتيه ألحان.. الدنيا في عيون الوفاء سراب، والبكاء والأنين وكل حشرجات القهر ضياع..
- أهكذا تهون العشرة والقرابة عليك يا محمود؟.
- قلت لك السبب.. هيا..
- وأين أذهب؟
- إلى بيت أبيك.. إنه أمامك على بعد أمتار..
- ليس فيه أحد يا محمود..
- مازلت جميلة.. لن تكوني وحيدة..
- إلى هذه الدرجة من النذالة وصلت..
لطمة أخرى نثرت شعرها وأدمت وجهها، فتاهت في غيبوبة مقيتة..
نهضت بعد لأي تلملم ما تناثر من شعرها، وتمسح برفق أنفها الدامي واضعة يدها على موقع اللطمة، وحدقت إلى عينيه معاتبة.. طأطأ رأسه خجلاً وتمتم:
- أنا لم أقصد.. لم..
- كفى.. سأرحل في الحال، ولا أريد منك شيئاً سوى مال أبي المودع لديك.
- مال أبيك؟! مسكينة أنت.. أتعرفين مصدره؟.
- لا
- عندما تعرفين لن تطالبي به.
***
على شرفة البيت القديم الذي شهد ولادتها وطفولتها وحبها.. كانت علياء تعد النجوم وتهمس في أذن القمر كل حروف القهر وكلمات الحزن.. تنظر إلى المتسللين تحت المصابيح المتباعدة فتتمنى أن تتأتى لها المعرفة لتقرأ ما وراء وجوههم من أخبار دفينة لكنها لا تجرؤ لأن لها أيضاً خبراً دفيناً.. تشيح بوجهها وتصوب بصرها عبر النوافذ القريبة والبعيدة التي تزفر مصابيحها الناعسة أضواء خافتة، فتتنهد بعمق لأنها تعرف بأن وراء كل نافذة سراً أسدلت عليه الستائر، وخلف كل جدار صفيق روحاً هائمة تختزن من القصص المؤلمة التي لا يدري بها أحد، وفي كل ركن حادثة تولد وأخرى تموت في نجوة من الأعين، فتنزوي في ركن لا ترى منه لترى ابن عمها مترنحاً تعتعه السكر فترثي لحاله، وترنو بإشفاق وحنو إليه رغم كل ما لاقته منه..
كانت تحمل همومها في قلبها النازف تناجي الليل فتذوب نفسها في عتمته كما تذوب فيه الحدود، وتضل الأبعاد.. لا أحد في الدنيا يقاسمها تلك الهموم، فأخوها الوحيد مازال في بلاد الغربة يدرس علوماً لا تعرفها وقد طالت غيبته، وانقطعت أخباره..
كانت تراقب كيف هدّم بيت الزوجية ليقوم على أنقاضه قصر الخديعة، وتتأمل المزرعة التي تحيط بالقصر بعيون دامعة، أما بيت الزهور الضخم الذي بذل من أجله أموالاً طائلة فكانت تراه من شرفة بيتها تابوتاً كبيراً يحوي رفات حبها، والكلب الذئبي المخيف الذي خصص لحراسته أشبه ما يكون بعاصفة يكنس بهمجية كلّ بذور الأمل..
كانت ترى كلّ شيء.. نمت أحلامها القلقة مع نمو الزهور شهوراً عديدة ما لبثت أن خبت تلك الأحلام عندما أقام محمود عرسه في المزرعة..
لم تنم ليلتها.. كانت دموعها حارقة وزفراتها كاوية تعض الوسادة وتضرب الفراش.. تنشج وأنينها يتعالى.. تحاول عبثاً احتباس مسيل الدموع فلم تفلح..
الدموع تحرق المآقي وتلهب الوجنتين فتتلظى من وهجها الشفتان فترتجفان لتطلقا همساً كل حروف القهر"ياحسافة.. تبعثر أيام العمر.. تدمر أيام العمر."
ولكن ماذا يجدي الأنين أمام حدائق الياسمين.. ماذا يفيد البكاء وقد شطّ المزار وأضحت المسافة بعيدة..
هي المسافة ما كانت يوماً إلا رحيلاً وعيوناً يخطر الرعب عليها والهلع..
كان ليلها ثقيلاً وكانت تقرأ كل إشارات المرور، وتفر من حدائق العويل دون جدوى..
وتمر الشهور طويلة طويلة لتشهد حفلاً آخر.. لقد جاء إلى الدنيا من سيحمل اسمه ولقبه ويرثه وربما يرث كل شيء في والديه.. كانت حفلة ما جنة ضاعفت همومها، وألهبت مشاعرها جعلتها تخرج من عمرها الذي يسيل زمناً بلا فرح لتمكث فوق الرصيف كوردة مفتتة يزني بها الصقيع والظلام والخطر.. تتجرع الهم وتبتلع الغم.. تناجي النجوم وتتوسل إلى الأطياف الخادعة.. ترقب كل ليلة في أستار الظلام عن شعاع يشق حجبه لينير لها دامس حياتها فلا ترى سوى جدر الوهم شامخة تقذف كل ليلة عليها صلب الحجر.. ترى محمود يعود مترنحاً، وغالباً ما يسعفه كلبه الذئبي، فينهض والقيء يجلل لباسه.. يتفقد بيت الزهور طويلاً، ثم يدخل قصره، وتلاحقه نظراتها الوانية خطوة خطوة حتى تطفأ الأنوار، فيتسلل العذاب والأرق بصمت إلى كل مسامات جسدها الواهن.. تغازل خيوط الفجر لتنسج منها غلائل الصبر..
الليالي أشباح مخيفة، والأحلام كوابيس مرعبة، وعلياء منطفئة كالشهاب.. مرسلة كأنها السحاب.. تتقاذفها الهموم بين مخالب القهر وأنياب الحرمان..
ها هو ذا محمود يعود الليلة وكأنه عائد من حفلة تنكرية.. ماذا دهاه؟. شعره المبعثر وثيابه الموحلة.. رباه. ماذا ألمّ به؟.. اثنان من رجاله أدخلاه بعد جهد وعناء كبيرين إلى المزرعة وغادرا.. خطوات مائلات، وسقوط على الأرض، وإقياء ودمدمات لم تفهم معناها، فابتلعت كلمات الاستغفار والرحمة، وأطلقت من صدرها تنهدة عميقة عندما لحظت الكلب يحنو عليه.. يلامسه بحنان، ويشمه بقرف، ويدور حوله مرات، ثم يجره من ردائه كخرقة بالية إلى أن تنبه جيداً فوقف على قدميه، وأزاح بعض ما علق بلباسه من أقذار ليذهب إلى بيت الزهور يتفقده، ويعبّ من أريجه المعطر بالندى.. العينان ما أبصرتا سوى طيفه، والأذنان لم تسمعا غير وقع أقدامه ودمدماته السكرى..
همّت أن تصيح باسمه عالياً عندما طال مكوثه لكن كبرياءها منعها من ذلك.. وخرج محمود يترنم بمقطع مفكك من أغنية فيروزية كانت تحبها كثيراً، فأيقظت في نفسها الرغبة والحب الكامن.. خرج يمطّ كلمات الأغنية الفيروزية مع كل خطوة مائلة يخطوها إلى أن تهاوى على باب القصر.. الرغبة تملكتها ثانية لأن تصيح باسمه، فوضعت أناملها الراجفة على شفتيها، وأخذت تبحث بعينيها عن الكلب ليحنو عليه دون جدوى، وتسمرت في مكانها والخوف أخذ منها كل مأخذ.. حتى أفاق من غفوته بعد حين فدخل القصر متهالكاً..
أدارت علياء ظهرها حيث فراشها البارد لتسترجع الحلم الذي داعبها منذ لحظات، فدمعت عيناها، وغاصت في حلم غريب..
لم يطل ذلك الحلم فشمس الصباح خرجت من مرقدها متثائبة تلملم ما تناثر من أطيافها لتتسلل بهدوء إلى نافذتها.. نهضت بتثاقل لتسدل الستارة أملاً باستمرارية ذلك الحلم لكن عواء الكلب مزق كل سكون وهدّم مابنته الأحلام..
لا مهرب من نار الوجد والوجد يتلظى على الجرح النازف فلم يفهم ما قالته قطرة دم للأخرى، والكلب أدرك معرفة الأحزان وكنه الأشجان وما يلقى من همسٍ في الآذان فعوى عواء من أيقن أن الكلب يعيش في داخل الإنسان..
أطلت علياء من طرف الستارة فجمدت حدقتاها.. بيت الزهور ممزق بهمجية، وأعمدته المعدنية تهاوت لتحطم أعناق الزهور النادرة، والورود والرياحين ذاوية متناثرة هنا وهناك، والكلب مدمى متربص مكشر عن أنيابه متحفز للوثوب، ومحمود بلباس البارحة يلطم وجهه مهدداً متوعداً ما يلبث أن يدور كالمجنون حول نفسه.. يحدق إلى عيني الكلب المتقدتين والكلب مكشر عن أنيابه محذراً..
تراجع محمود ما لبث أن دخل القصر ليعود بأربطة من المتفجرات.. اضطجع على الأرض، فاقترب الكلب منه شيئاً فشيئاً، وأخذ يحكم بدقة أربطة الموت على صدره وظهره، وأطال الفتيل ليرى بأم عينيه كيف يتمزق الكلب إرباً إرباً..
الفتيل يقدح بالشرر، ومحمود يصرخ بأعلى صوت: ستموت أيها الكلب الحقير، وسيموت أمثالك على يديّ.. سأقتل كل الكلاب.. سأقتلهم.. سأقتلهم..
أطلت سوسن بغلالة نومها متثائبة تنظر ببلاهة، فالتقت عيناها عيني علياء التي أشاحت بوجهها، وأغلقت النافذة بحنق..
مازال الفتيل يحترق ببطء ناثراً أبخرة الموت المحتم في كل اتجاه لتطغى على روائح الزهور وعطر الورود، والكلب يتلفت يمنة ويسرة.. يشم رائحة البارود، فيتملكه الفزع، ويفر بعيداً، ولا ملجأ له سوى القصر...
لحظة الموت أسرع من كلّ ركض السنين الطويلة..
لحظة الموت عاصف من الريح وقاصف من الرعد ووامض من البرق يتتابع على أفق النفوس المترعة لوعة..
لحظة الموت تقوّض كلّ أبنية الوهم وافتراءات السراب، وتطفئ جذوة الظنون..
لتختزن طاقة من المواجع في أغوار بعيدة عميقة تتصاعد دمعاً وأسى..
في مثل هذه اللحظة أصبح القصر ركاماً ممزوجاً بأشلاء زوجة محمود وولده وكلبه وكلّ أمانيه..
شيء واحد بقي مع صراخ محمود.. طيف امرأة يلاحقه أينما ذهب