بتـــــاريخ : 11/12/2008 3:50:04 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1129 0


    حفلة تنكرية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ابراهيم خرّيط | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    أخيرا..عزمت على السفر.‏

     

    لما وجدت أن لابد مما ليس منه بد ،وان ذيول القضية تشعبت وتفرعت،وتعدد الذين يمسكون بأطرافها،حتى باتت تحتاج الى مراجعات ومقابلات واتصالات مع معارف ووسطاء وموظفين كبار وصغار،وأختام وتواقيع،وانتظار هذا والوقوف بباب ذاك ،والرجاء والشكوى وشرح الحال وبذل المال.‏

     

    أما لماذا لم اقرر الا أخيرا،فهذا أمر يتعلق بطبعي،اذ صرت أكره السفر الى المدن الكبيرة..الحياة فيها ميدان سباق،الناس يتحركون كخلية نحل..ازدحام في الشوارع والساحات والمحلات والدوائر والفنادق.واني لأعجب كيف لايصطدم البشر بعضهم ببعض في هذا الزحام الذى يختلط فيه الكبير والصغير والمرأة والرجل والموظف والعامل والبائع والمشتري..فتتدافع الأكتاف والصدور والظهور،وتتشابك الأذرع والسيقان.‏

     

    عندما وصلت أخذت حقيبتي الصغيرة وقصدت فندقا متواضعا أقضي فيه ليلتي،لعلي أستيقظ في الصباح نشيطا فأنجز ما جئت من أجله.‏

     

    لم أشعر بالنعاس..حاولت دون جدوى..في رأسي صور وأفكار عديدة..تقض مضجعي،تهوي على ذاكرتي مثل مطارق ثقيلة فتطرد النوم من عيني.‏

     

    قلت في سري:لأخرج الى المدينة..أمشي قليلا،لعل ذلك يروح عني فتهدأ نفسي ويقارب النعاس أجفاني.‏

     

    تذكرت كيف قضيت في هذه المدينة الكبيرة سنوات عدة،للدراسة في جامعتها..كانت الأيام غير هذه الأيام.كان للمدينة جمال ساحر ورائحة مميزة..وكم كنا نسير في طرقاتها ليلا،بعد تعب الدرس والقراءة..‏

     

    نشرب الماء البارد من مناهلها المنتشرة في الحارات ونشم رائحة الياسمين والفل ، نقطف باقة صغيرة نزين بهاغرفتنا المتواضعة.‏

     

    ومصادفة..التقيته..‏

     

    صديق قديم،لم أره منذ سنوات..هو غريب مثلي،استهوته المدينة فاستقر فيها بعد أن وجد وظيفة مناسبة.وبعد سلام وعناق وسؤال قال:‏

     

    -لن أتركك الليلة،أنت ضيفي،وأنا وحيد مثلك،سافرت زوجتي الى البلد..مارأيك أن نقضي السهرة في مكان عام ونستعيد أيام زمان.‏

     

    أردت أن أعتذر..‏

     

    قال:يارجل..فرصة مثل هذه قلما تأتي.‏

     

    قلت:عندي عمل كثير ،يجب أن أنجزه غدا.‏

     

    قال :لاتخف..مازال حتى الغد وقت طويل،هيا بنا.‏

     

    سألته:الى أين؟‏

     

    رد قائلا:اختر أنت.‏

     

    -أنا ...؟‏

     

    واستطردت ضاحكا:أنا لاأعرف كثيرا في هذه المدينة فقد تغيرت تماما.‏

     

    -هذا صحيح..لقد تغيرت ..كل ما فيها تغير البشر والحجر،فكما يقول صاحبنا هيراقليطس انك لا تسبح في النهر الواحد مرتين..لأن مياها جديدة تجرى من حولك دائما.‏

     

    صمت لحظة ثم أضاف متسائلا:‏

     

    -ما رأيك بحفلة تنكرية؟‏

     

    لم أتكلم..أردت أن أرفض،الا ان الفكرة استهوتني.‏

     

    استطرد قائلا:سوف ترى عالما آخر.‏

     

    ثم عقب مازحا:هي فرصة يارجل فاغتنمها قبل أن ارجع في كلامي.‏

     

    انطلقت بنا السيارة الى فندق ذى نجوم خمس..شعرت بشيء من الرهبة والوجل،وأنا ألج عالما لاأعرفه من قبل.‏

     

    الأبواب الزجاجية تفتح وتغلق آليا..شد انتباهي اعلان عند مدخل الصالة الكبيرة..قرأت..الدخول باللباس الرسمي،يرجى التقيد بذلك.‏

     

    استوقفت رفيقي..أشرت الى اللوحة.قال موضحا:ما بك يارجل!هذا مكان لا يرتاده الا علية القوم.‏

     

    ةأضاف ضاحكا كعادته:وأنا وأنت.‏

     

    رحب بنا النادل،انحنى لنا،كان يرتدي ثيابا سوداء وربطة عنق أنيقة،حييته ومددت يدي مصافحا..شدني رفيقي وقال هامسا:‏

     

    -ماذا تفعل؟صحيح انك بدوي.‏

     

    جلسنا على كرسيين متقابلين،تتوسطنا طاولة فوقها صحون وملاعق وأقداح وعلبة محارم ورقية وزجاجة ماء..‏

     

    تلفت حولي..ليس بين الرواد من يضع قناعا أو يرتدى ثيايا تنكرية،فقلت في سري:هل هذه هي الحفلة التنكرية التي وعدني بها؟وأضفت:ربما لم تبدأ بعد.‏

     

    امتلأت الصالة بالناس والدخان ورائحة الكحول والعطور،وصدحت في القاعة موسيقا صاخبة تصيب الآذان بالصمم.‏

     

    صعد الى المنصة مطرب شاب،غنى ألحانا عربية وأجنبية.. أعلن عريف الحفل عن الجزء الثاني من السهرة،أطلت فنانة شابة بثوبها القصير جدا وصدرها وظهرها المكشوفين ونهديها البارزين..رقصت وغنت أغان عديدة لمطربين ومطربات،كانت تصل واحدة بأخرى.ضجت الصالة بالتصفيق والهتاف..‏

     

    صفّت على حافة المنصة زجاجات الشراب..أكثر من واحد دنا منها ونثر عليها قطعا نقدية كبيرة.‏

     

    نهض رجل..كان يبدو رزينا متزنا قبل أن ينهض،صعد اليها،اقترب منها،همس في أذنها،امسك بيدها،غنت له ،رقص،ضمها اليه..دفعته عنها..تأرجح،وقع أرضا..زحف على يديه وركبتيه..احتضن ساقها..زجرته،رفسته بقدمها.تدخل شابان قويان وأعاداه الى مكانه وهو يهذي بكلمات رخيصة مبتذلة.‏

     

    قال صاحبي:طبعا لا تعرفه.‏

     

    قلت:طبعا.‏

     

    قال:يلقبونه بالمرعب.‏

     

    قلت:ولكن..لايبدو عليه ذلك‏

     

    أضاف:لاتستغرب..تراه في النهار على غير ما تراه في الليل..‏

     

    تلفت حوله واستطرد:انه من ذوي الشأن ،هو مرعب حقا..صارم حازم،لايضحك في النهار ولايبتسم أبداً.‏

     

    آخر.؟.استهوته الراقصة الشقراء أو السمراء،لا أدري،فالأصباغ والألوان غطت بشرتها..ترك مقعده وراح يرقص الى جانبها،يحاول أن يقلدها..نزعت الحزام عن وسطها ولفته حوله فانتشى وصار يهز وسطه ويتلوى.‏

     

    قلت لصاحبي:هل هذا منهم أيضا؟‏

     

    ورسمت بيدي اشارة يفهم معناها.‏

     

    ابتسم وقال ببساطة:هووه..طبعا.‏

     

    شغلت بالمراقبة والتساؤل وكدت أن أموت هما،هاهي امرأة شابة جميلة فاتنة تسرق نظرات خاطفة الى شاب ينزوي في ركن آخر،وتبادله التحية بالاشارة خفية أمام زوجها الذى يجلس قبالتها،يجهل أو يتجاهل ما تفعل.‏

     

    قلت لصاحبي:اكاد أفقد صوابي.‏

     

    قال:لماذا؟‏

     

    واستطرد بطريقته الخطابية ساخرا:‏

     

    -عجيب أمرك أيها البدوي القادم من اطراف الصحراء،الناس هنا لايهدرون الوقت..هنا يعقدون الصفقات وينجزون المعاملات ..بيع،شراء، نقل، تعيين...وكل شيء بثمن،هنا يخلعون ثياب التنكر ويكشفون عن خفاياهم التي يتسترون عليها في النهار،حيث ترى كل واحد بحجمه الطبيعي دون تزييف.‏

     

    قلت:ولكني أعتقد اننا جئنا الى حفلة تنكرية.‏

     

    ابتسم ساخرا ولم يتكلم.‏

     

    طالت سهرتنا حتى مطلع الفجر..قام بعض الرواد الى بيوتهم مخمورين.. أعلن أحدهم وقد تعته السكر انه لم يظلم في حياته كما ظلم بزواجه من أم الأولاد،وأنه على استعداد لأن يدفع نصف عمره مقابل ليلة مع تلك الشقراء.‏

     

    كانت الصالة تلفظ روادها قشورا منزوعة اللب..‏

     

    نظرت الى ساعتي،كانت تشير الى الثالثة صباحا.‏

     

    قلت مفزوعا:لقد تأخرنا،وأنا عندي أعمال علي أن أنجزها في الغد.‏

     

    ضحك وقال : تقصد اليوم..‏

     

    ثم استطرد: لا أنصحك بالعودة الى الفندق والنوم.قد لا تستيقظ الا بعد الظهر.‏

     

    ذهبنا الى بيته،وفي الصباح شربنا شايا وقهوة وانطلقنا الى المجمع الكبير.‏

     

    وفي الطريق قلت:قضينا سهرة لطيفة،ولكنك كنت قد وعدتني بحفلة تنكرية‏

     

    ارتسمت على وجهه ابتسامة لم تلبث أن انفجرت قهقهة لفتت الأنظار الينا،ثم نطق:‏

     

    -حفلة تنكرية أيها البدوي! أنا مازلت عند قولي .ولكن..نسيت أن أقول لك ان مثل هذه الحفلات صارت تقام في النهار..انظر حولك.‏

     

    كانت المدينة عروسا تستيقظ بدلال ،متعبة،كسولة، نشوى، النوم يثقل أجفانها ونسيم الصباح يثير فيها رعشة لذيذة،وفي شوارعها التي تفرعت كالشرايين في الجسد دبت الحركة بهدوء،ثم لم تلبث أن ازدحمت بسيارات كبيرة وصغيرة،ووجوه قابلت بعضها في تلك السهرة أو هكذا خيل الي.‏

     

    نظرت حولي..امعنت النظر..‏

     

    وجوه جادة وقورة..نظرات هادئة،خطوات ثابتة رزينة،حديث عن الواجب والمسؤولية،وحوار حول النزاهة والأمانة والشرف..وترشيد الاستهلاك واستغلال الموارد والطاقات،والقضاء على الهدر والرشوة والفساد،وأخبار عن التصدى للظلم والعدوان، واستعادة الحقوق ورفض الاستسلام.. وحماية البيئة وحقوق الانسان...‏

     

    ضحكت ضحكة ساخرة..‏

     

    عقب صاحبي: تضحك... انظر.. هذه هي الحفلة التي وعدتك بها.. يبدو انها قد أعجبتك.. تأمل جيدا،فها هي قد بدأت الآن.‏

    نظر الى ساعته.. كانت تقارب الثامنة صباحا ثم أضاف: اعذرني.. سوف نفترق..((نمرتي)) تبدأ بعد قليل ويجب أن لاأتأخر

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()