ومضى الوزير إلى بيته مهموماً، يفكر ويتأمل، ويشاور ويسأل، ويقلب الأفكار، ويناقشها، وهو لا يستقر على قرار، وظل على هذه الحالة طوال المدة، ولم يصل في نهايتها إلى تفسير معقول، يفضي به إلى الملك، فما كان منه إلا أن خرج من بيته، يجر خطواته جراً، وهو لا يعرف ماذا يفعل؟ هل يعتذر إلى الملك؟ أم هل يسأله الإمهال؟ وكان يمشي بادي القلق، متعثر الخطا، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، مطرقاً، لا يرى ما أمامه، حائر اللب، شارد التفكير، وإذا فتى دون سن الشباب، يعترضه ويسأله عما به، فنظر الوزير إليه، مدهوشاً لجرأته، مأخوذاً بوسامته، وهو لا يستطيع الجواب، فأعاد عليه الفتى السؤال، فرجاه الوزير أن يكف عنه، وحاول صرفه، ولكن الفتى ألح عليه، فوجد الوزير نفسه مسوقاً إلى البوح بما في نفسه، والاعتراف، فحدثه بأمر الحلم، واشتغاله في تفسيره، فأبدى الفتى دهشته من الوزير، وعجب له، كيف يشغل بهذا الحلم، هذا الاشتغال كله، وهو حلم واضح التفسير، ثم قال له، وهو يبتسم:
- مثل هذا الحلم، لا يستحق مثل هذا الاهتمام، وماتفسيره سوى: أول لا، كل جسمك فيه شعر إلا راحة كفك، وثاني لا: ابن ابنك لك، وابن بنتك لا، وثالث لا عقلك يعجبك، عقل غيرك لا.
ودهش الوزير لروعة التفسير، وأسرع إلى قصر الملك، من غير أن يودع الفتى، أو يشكره، ولما دخل على الملك، ألقى عليه تفسير الحلم، وهو مزهو معتد، فأعجب الملك بالتفسير أي إعجاب، ولكنه أنكر على الوزير أن يكون هو نفسه صاحب التفسير، وأمره أن يعترف، ويصرح عمن فسره له، وحاول الوزير التملص وراوغ، ولكنه لم يجد في النهاية بداً من أن يحدث الملك بأمر الفتى، فروى له ماكان، فأمره الملك أن يحضره، فصعق الوزير، وطاش صوابه، فهو لا يعرف الفتى، بل لا يذكره، ولو رآه، ولكنه لم يجد بداً من الاستجابة، فطلب من الملك الإمهال، فأمهله ثلاثة أيام.
ورجع الوزير على الفور إلى الموضع الذي صادفه فيه الفتى، ونظر حوله، فرأى مقهى، يطل على الطريق، فقعد أمام باب المقهى، وأخذ يرقب الطريق، لعله يرى في الناس المارين ذلك الفتى، ومضى اليوم الأول، فلم يمر أحد يشبه ذلك الفتى في شيء، فقلق الوزير، ومر اليوم الثاني، مثل الأول، فازداد قلقه، وثارت شكوكه، ومر اليوم الثالث، من غير أن يرى أحداً ولو فيه بعض الشبه بذلك الفتى، فماكان منه إلا أن مضى إلى قصر الملك، يجر خطاه جراً، مهموماً مكدوداً، لا يعرف ماذا يفعل؟
وبينما الوزير في الطريق إلى الملك، وهو على تلك الحالة من الهم والانقباض وإذا الفتى نفسه أمامه، يحييه، فذهل الوزير، ولكنه ملك نفسه، وأمسك بيد الفتى على الفور، وأسرع به إلى الملك، من غير أن يحدثه بشيء، والفتى يساير الوزير، وهو لا يعلم على ماذا هو مقبل.
ولما أدخل الوزير الفتى على الملك، وقدمه إليه على أنه الفتى الذي فسر له الحلم، دهش له الملك، وأخذ بوسامته، وعندئذٍ حياه الفتى تحية إعظام وإجلال، فأعجب الملك بطلاقته وحسن تحيته، فرحب به، وأدناه منه، وعينه على الفور نديماً له، وأفسح له أفضل موضع في مجلسه.
ومنذ ذلك الحين غدا الفتى مرافق الملك، في كل آن، يأنس به، يطمئن إليه، ويشاوره في كثير من أمره، ويرتاح إليه، ويبوح له بأسراره، ويصحبه في زياراته وجلساته، ويقربه منه، ويدنيه، ويعزه ويكرمه، بل ويقدمه على وزرائه، وكبار رجال بلاطه، وهو مايزال بعد فتى، حتى إنه كان يوكل إليه النيابة عنه، وتمثيله في كثير من الاحتفالات والمناسبات، حتى عرفه أهل المملكة، وطار صيته في البلاد، وعم ذكره في كل مكان، وشهر بما عرف عنه من وسامة وذكاء، وإخلاص ووفاء.
وفي أحد الأعياد خرج الملك في موكب مهيب، يطوف في طرقات العاصمة، وشوارعها، وقد احتشد الناس في الشوارع والنوافذ والأسطحة، ينظرون إلى الملك ويرسلون إليه التحيات، ويهتفون بحياته، وكان الملك يتقدم هذا الموكب، على جواد مطهم، يتلوه وزيره الأول، ثم نديمه، وكان لايحظى باهتمام الناس أحد بعد الملك، غير الفتى، نديمه، بل إن بعضهم كان لا يعير الملك من الإلتفات والإهتمام، مثل ماكان يعير النديم.
وبينما كان الموكب يسير، كانت تقف في إحدى النوافذ فتاة حسناء، وما إن مر أمامها الملك، حتى أشارت إليه بإصبع من يدها إشارة خاصة، فهمها الملك.
ولما مر الوزير، أشارت له بأصبعين من يدها، إشارة خاصة، فهمها الوزير، ولما مر الفتى، أشارت إليه أيضاً بثلاثة أصابع من يدها، إشارة ثالثة خاصة، فهمها الفتى.
وبعد مضي يوم على الاحتفال، تزيى الملك بزيّ تاجر غريب وخرج من القصر خلسة، في وقت محدد، من غير أن يشعر به أحد، ومضى إلى البيت الذي رأى الفتاة في نافذته، ودق الباب، فخرجت له خادم عجوز، فأشار أمامها بإصبع من يده، مثل الإشارة التي كان قد رآها من الفتاة، فرحبت به الخادم وقادته إلى غرفة، رجته، أن ينتظر فيها قليلاً، وهي لا تعرف من يكون، ولم تلبث أن رجعت إليه تحمل دجاجة مشوية، ورغيف خبز، وكأس لبن، وضعتها بين يديه، وأخبرته أنها سترجع إليه بعد ساعة، ثم خرجت.
وما إن خرجت الخادم، حتى شمر الملك عن ساعديه، وأتى على كل ماوضعته الخادم بين يديه من طعام، فالتهم الدجاجة، والرغيف، وشرب كأس اللبن، وقعد ينتظر، وهو يمني نفسه، وبعد طول انتظار، دخلت عليه الخادم، فنظرت، فرأته قد التهم كل شيء، فأظهرت بعض الامتعاض، واصطنعت الأسف، ثم اعتذرت إليه، وأخبرته أن السيدة مريضة، وأنها ترغب في زيارته، في موعد آخر، فغضب الملك، ولكنه لم يجد غير الخروج، فحمل نفسه، وخرج ليعود إلى القصر، مغيظاً يجر أذيال الخيبة.
وفي اليوم التالي، تزيى الوزير بزي تاجر، وخرج إلى نفس البيت، فاستقبل بمثل ما استقبل به الملك، ففعل مثل مافعل الملك أيضاً، فلقي مالقيه الملك، فخرج مغيظاً، يجر أذيال الخيبة.
وفي اليوم التالي استأذن الفتى الملك في الذهاب لعمل له خارج القصر، لن يتأخر فيه، فأذن له الملك، فخرج على الفور إلى البيت الذي رأى الفتاة في نافذته، وقرع الباب، فخرجت له الخادم، فقال لها: فلان، نديم الملك، فرحبت به، وقادته إلى الغرفة حتى كانت قد قادت إليها من قبل الملك ثم الوزير، وقدمت إليه مثل ماقد قدمت إليهما، ثم خرجت. ونظر الفتى إلى الطعام أمامه، ولم يلبث أن عمد إلى رغيف الخبز فقطعه قطعاً قطعاً، وإلى الدجاجة، فعرّقها تعريقاً، فعزل عظمها عن اللحم، وفتت اللحم، وزعه فوق الخبز، ثم صب كأس اللبن فوق الفتات، ثم غسل يديه، وقعد ينتظر، ولما دخلت الخادم، ورأت مافعل، أخبرته أن سيدتها بالانتظار، وقادته على الفور إلى مخدعها.
وفي المخدع التقته الفتاة، فرحبت به أروع ترحيب، ثم صرفت الخادم، وأغلقت الباب وراءها، فقد وفرت لديها كل ماسيحتاجانه، وأخذت تمر بهما الساعات، وهما في اجتناء ووصال، حتى حل المساء، فرجا النديم فتاته أن تسمح له بالعودة إلى القصر، على أن يعود إليها في اليوم التالي، فأبت عليه إلا أن يبقى الليل عندها، فلم يجد بداً من الاستجابة لطلبها، ولما كان الصباح، رجاها أن تسمح له بالعودة إلى القصر، فلم تسمح له، وهكذا ظلت تمنعه من تركها، حتى مرت بهما سبعة أيام، فأخذ الفتى يتوسل إليها ويرتجيها، ويعدها أن يعود إليها، حتى سمحت له، فخرج إلى القصر على الفور.
وكان الملك قد قلق على النديم أشد القلق، وثارت فيه شكوكه وظنونه، فلما دخل عليه بعد ذلك الغياب الطويل، تلقاه بالغضب الشديد، وسأله أن يعترف أين كان، فادعى زيارة أهله، فلم يصدقه، فذكر السفر، فكذبه، فذكر المرض، فرده، ثم ماكان منه إلا أن اتهمه بالخيانة، والتعاون مع الأعداء، ورمى به في السجن، حتى تحين محاكمته، ولم يجدِ شيئاً ذكاءُ الفتى، كما لم تنفع في شيء شفاعة الوزير، ولا توسله ولا رجاؤه في أن يعفو عن النديم.
ولبث الفتى في سجنه شهراً أو يزيد، قلقت الفتاة في الأيام الأولى عليه، وكانت تنتظر عودته، ثم شكت فيه، ولم تلبث أن وصمته بالغدر والخيانة، وتناسته، واصطنعت السلوى عنه، ولكنها لم تستطع أن تنساه، وكانت تتوقع دائماً أن يعود إليها، وترتجيه ولو طيف خيال.
حتى كان يوم أعلن فيه الملك خيانة الفتى النديم، وأرسل في أنحاء المملكة الرسل، يعلنون الحكم عليه بالإعدام، ويذيعون في الناس جريمته، ويدعونهم إلى اجتماع في يوم محدد، ليشهدوا إعدامه، في إحدى الساحات الكبرى.
وفي اليوم المحدد ألبس الفتى النديم ثياب الإعدام، وعلق في صدره بيان ذكر فيه جرمه، وهو الخيانة العظمى، وسار به الجند في موكب، يطوف به في الشوارع والطرقات، وقد احتشد الناس ليروا إليه، وفيهم النادم عليه، والآسف على شبابه، وفيهم الشامت به، والناكر له، وفيهم المتفرج الذي لا يبالي شيئاً، وهو يمرّ بهم متحملاً كلماتهم النابية، وإهاناتهم وشتائمهم ونظراتهم، من غير أن يبدي انفعالاً ما، حتى مر به الموكب بالنافذة التي كان رأى فيها الفتاة من قبل، فنظر إليها، فرآها فيها، وهي تنظر إليه، دامعة العينين، وكانت قد أدركت مما صار إليه حاله مبلغ صدقه ووفائه، ولما أصبح تحت نافذتها، قذفته برمانة، أصابته، ثم وقعت على الأرض، فانكسرت، وانفرطت حباتها وتناثرت، فنظر إليها وظل صامتاً، لا يريم، فلم تلبث أن قذفته بزجاجة عطر، فارتطمت بالأرض، وتحطمت، وانتشر شذاها، فنظر إليها ثانية، وابتسم، وأومأ إليها برأسه.
ولما بلغ موكبه ساحة الإعدام، حيث كان ينتظره الملك نفسه، ليشهد مع الوزير تنفيذ حكم الإعدام فيه، مضى بخطوات واثقة إلى منصة الإعدام، رافع الرأس، من غير أن يبدي انفعالاً، حتى بلغها، وإذا الملك يرسل وراءه الجند، فأحضروه بين يديه، فسأله الملك إن كان يطلب العفو، فأجابه أن "لا" فغضب الملك، ولكنه ملك نفسه، وأدناه منه، بحيث لا يسمعهما أحد، ثم سأله: "أريد أن أعرف أين كنت خلال الأيام السبعة التي غبت فيها عن القصر، قبل أن تشنق"، وعندئذ اعترف الفتى بالحقيقة، فدهش الملك، وأعلن على الفور العفو عن النديم، ففرح الناس بذلك فرحاً، ومشى موكب الملك، والنديم إلى جانبه، وأخذ يطوف بالشوارع والطرقات، والناس يحيون الملك والنديم، وقد تغير كل شيء.
وفي القصر خلا الملك بالنديم، وسأله أن يشرح له سرّ احتفال الفتاة به، واستقبالها إياه، على حين كانت قد رفضت استقباله، وهو الملك، وكان الملك قد اعترف للنديم بماكان من أمره في زيارته لها، فطلب النديم من الملك الأمان، فأعطاه الأمان، فأخبره بأنه كان قد قسم الخبز، وفتت اللحم، وسكب اللبن، وهو يعني بذلك أنه لن يبوح بشيء، ولو فتت لحمه، وأريق دمه، فأعجب الملك بذكائه، ولكنه سأله: "كيف بحت لي إذن بماكان؟"، فأجابه بأنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن قذفته الفتاة بالرمانة فانفرط حبها، وهي تعني أن أفرط القضية، وبعد أن رمته بزجاجة العطر، وهي تعني أن أنشر الخبر، ولا تبق الأمر مكتوماً، فازداد إعجاب الملك بالنديم، وأدرك سر اعتذار الفتاة عن استقباله، وهو الذي التهم الطعام والشراب، ولم يفقه من الأمر شيئاً.
ثم ماكان من الملك إلا أن عين النديم وزيراً له، ثم أرسل وراء الفتاة، فزوجه إياها، وأقام لهما في القصر الأفراح، فالتقى المحبان، بعضهما ببعض فسعدا باللقاء، وعاشا في هناءة وسرور، بعد فراق وطول عذاب، وهوان.
تعليق:
حكاية بديعة فيها اللغز والرمز والخيال والعاطفة والملك والمرارة والعذاب والوصال والسعادة.
وأبرز مافي الحكاية الفتى، الذي هو محض فتى من العامة، ولكنه يمتاز بالشباب والذكاء والوسامة والشجاعة والتضحية والوفاء، ولذلك كله كان جديراً بأن يحقق حلم العامة في دخول قصور الحكام ومنادمة الملك والتفوق عليهم بذكائه والظفر بأكثر النساء جمالاً وذكاء.
ويظهر اللغز الجميل في حلم الملك، وعجز الحكماء عن حله، وتمكن الفتى من فك رموزه، كما يظهر الرمز الشعري الجميل في تفتيت الفتى لحم الدجاجة، وسكبه اللبن وعدم تذوقه شيئاً، وفي رمي الفتاة للفتى بالرمانة وزجاجة عطر.
والحكاية مملوءة بمواقف الحب والبطولة والتضحية والوفاء، وهي تنجح في تطوير الحوادث وتصعيد المواقف حتى تبلغ بها أزمة خانقة ثم يأتي الحل منطقياً مقنعاً، وذلك كله في حبكة قوية متماسكة، قادرة على شدّ انتباه القارئ، وإثارة مشاعر الخوف لديه من ظلم الملك والإشفاق على الفتى والإعجاب بمواقفه النبيلة.
والحكاية تدل على ترف الملوك وانصرافهم إلى التفكير بأوهامهم وأحلامهم الخاصة، بعيداً عن قضايا الناس ومشكلاتهم، ويمكن أن تعد الفتاة فيها رمزاً للوطن، ولا يظفر بها لا الملك ولا الوزير، وإنما يظفر بها الفتى الذي هو من عامة الناس، لأنه الأولى بها، والأحق، والأجدر.
والحكاية يمكن أن تروى للفتيان والفتيات لتشحنهم بعواطف الحب السامية والبطولة الذكية في عالم من الخيال والسحر والجمال لا إسفاف فيه ولا فحش، بل فيه الشعر والسمو.
إن كل عناصر الحكاية تؤكد نجاحها وقوتها وتماسكها، وهي مثل رائع للحكاية الشعبية