أولاً:
إن مراد الله عز وجل من خلقه أن يعبدوه ويعمروا الكون، وهذا الغرض لا يتحقق إلا أن يعدهم الله عز وجل بثواب عظيم في الآخرة يوافق ما يحبون وما يرغبون من جميع أنواع التنعيم الروحي منها والجسدي، ومن التنعيم الجسدي سائر أنواع الملذات التي أحلها الله ومجامع اللذات إما المسكن إما المطعم وإما المنكح فوصف الله تعالى المسكن بقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] والمطعم بقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] والمنكح بقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم منغصًا فبيّن تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم فقال: { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25] فصارت الآية دالة على كمال التنعيم والسرور" ([1]).
وإن كان من الناس من يعبد الله عز وجل ولا يطمع في جنة ولا في ثواب أخروي وإنما يعبد الله لذاته فقط حباً فيه ورداً لجميله عليه وعلى سائر الخلق إلا أن هذا الصنف من الناس قليل جداً.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والناس كإبل المائة لا ترى فيها راحلة" ([2])، فمجموع الناس لا يقبلون على الله عز وجل إلا طمعاً في جنة أو هرباً من نار.
ثانياً:
في هذه الشبهة يحاول السائل أن يربط دين الإسلام بعرب الجاهلية وظروف حياتهم الصحراوية، ومن الردود على ذلك أن يقال: إن هذا الثواب الموعود به المؤمنون في سائر آيات القرآن الكريم ليس لأهل مكة والمدينة فقط من العرب الذين ذكرت من صفاتهم في الشبهة ما ذكرت وإنما هو لكل المؤمنين والمسلمين الذين يعيشون في سائر بقاع الأرض، فهل كل هؤلاء المسلمون وعدهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمتاع ونعيم يوافق متاعباً حصلت لهم في الدنيا في المسكن والملبس والمطعم والمشرب.
ثالثًا:
أما القول بأن القرآن لم يذكر أن في الجنة سعادة روحية فهو محض افتراء منه؛ فقد ذكر الله في القرآن الكريم كل نعيم روحي، ولعل قمة هذا النعيم الروحي التي تفوق التسبيح هي رؤية الله عز وجل في الجنة ولا نعيم للروح فوق هذا النعيم، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ يونس 26]، وجمهور المفسرين على أن المراد بالزيادة في الآية الكريمة رؤية الله عز وجل.
يقول الإمام الآلوسي رحمه الله عز وجل: " {وَزِيَادَةٌ} وهي النظر إلى وجه ربهم الكريم جل جلاله وهو التفسير المأثور عن أبي بكر وعلي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وحذيفة، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وخلق آخرين، وروي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق شتى، وقد أخرج الطيالسي، وأحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو الشيخ، والدار قطني في الرؤية، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن صهيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ...} فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله تعالى موعدا ًيريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه سبحانه فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم" ([3]).
رابعًا:
استدل السائل على مخالفة صفات الجنة الواردة في القرآن الكريم بهذين النصين من الكتاب المقدس؛ وهذان النصان يحتملان التأويل بأن يكون معنى الأول: ليس ملكوت الله- أي القيامة- أكلاً وشرباً فقط بل هو بر وسلام.
والثاني: وفي القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون أي زواجاً معهوداً كزواج الدنيا، لا سيما وقد جاء هذا النص من الإصحاح في خصومة بين سبعة رجال كلهم تزوجوا امرأة واحدة ويسألون لمن تكون في الجنة فيكون الجواب بهذا المعنى ([4]).
خامسًا:
إن نعيم الجنة وعذاب النار مختلف عن أحوال الدنيا ومن ثم فقد منع علماء الإسلام قياس الغائب على الشاهد بمعني الاستشهاد بأحوال الدنيا على أحوال الآخرة؛ لأن العالم الأخروي لا يجري على مقاييس أهل الدنيا.
سر تنعيم الإنسان في الجنة بما ألف في الدنيا:
ولا شك أن التنعيم بجنس معهود للإنسان في الدنيا أقوى في التنعيم من شيء لم يعهده الإنسان في الدنيا، ولذلك جاء في حديث الضب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " ([5]).
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: "وأودع في النفوس حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكنا من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى؛ ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور0 وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا؛ لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها." ([6]).
( [1]) مفاتيح الغيب 2 / 126 0
( [2]) أخرجه البخاري كتاب الرقاق باب رفع الأمانة- حديث( 6133 )، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب قوله صلى الله عليه وسلم الناس كالإبل مائة - حديث (2547).
( [3]) روح المعاني 11 / 149 0والحديث من سنن ابن ماجة، المقدمة، باب فِيمَا أَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ ، حديث رقم 192.
( [4]) انظر إنجيل متى (22 ، 23 : 30) ورسالة أهل رومية (14 ، 15 : 17) 0
( [5]) أخرجه البخاري في صحيحه ،كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل حتى يسمى له فيعلم ما هو 5/2060 حديث 5076 0
( [6]) التحرير والتنوير 1 / 353.
|