أولا : إن حقيقة الملائكة تختلف عن حقيقة بني الإنسان وسجود الملائكة يختلف عن سجود بني الإنسان ، والسجود يطلق ويراد به طأطأة الجسد أو إيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهد بالعيان ، كالسجود للملك والسيد والسجود للكواكب ، قال تعالى : { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } [ يوسف : 100 ] ، وقال : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ } [ فصلت 37 ] ، أو بقصد التعظيم لمشاهد بالتخيل والاستحضار وهو السجود لله ، قال تعالى : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [ النجم : 62 ] .
وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم آدم ، فهو مختلف عن السجود المعتاد عند بني البشر .
ثانيًا : لا يعكر على الآية أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في الشرائع الأخرى ، ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض (1).
والسجود منه ما هو على وجه العبادة ، ومنه ما هو على وجه التعظيم والتحية لا على وجه العبادة ، والشرائع في حكم سجود التعظيم هذا مختلفة فمنها شرائع لا تحرمه وشرائع تحرمه ، ومن الشرائع التي لا تحرمه شريعة نبي الله يوسف عليه السلام ؛ قال الله تعالى عنهـا : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } [ يوسف 100 ]
قال الإمام الطاهر بن عاشور تعليقاً على الآية الكريمة : " وكان السجود تحية الملوك وأضرابهم ولم يكن يومئذ ممنوعاً في الشرائع وإنما منعه الإسلام لغير الله تحقيقاً لمعنى مساواة الناس في العبودية والمخلوقية ، ولذلك فلا يعد قبوله السجود من أبيه عقوقاً ؛ لأنه لا غضاضة عليهما منه إذ هو عادتهم " (2)
و على هذا فإن أمر الله عز وجل للملائكة بالسجود لآدم من هذا الباب باب التعظيم والتحية لا باب العبادة .
والسجود الوارد في الآية الكريمة إنما كان استجابة للأمر المباشر من الله عز وجل ، فليس فيه إشكال أنه جائز في بعض الشرائع غير جائز في البعض الآخر ؛ إذ المشرع هو الآمر به بالأمر المباشر.
ثالثًا : الآية الكريمة أرادت إظهار فضيلة آدم عليه السلام بقبوله ما علمه الله تعالى من الأسماء دون الملائكة ، { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 31-33] . وليس هذا نقصاً في الملائكة ولكنها خصائص اختص الله بها عباده ، فالملائكة لهم علم قبول المعاني لا علم استنباطها (3) .
وكان علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشرى لخلافته في الأرض دون الملائكة ، لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله تعالى في القيام بما أراده من العمران بجميع أحواله وشعبه، بمعنى أن الله تعالى أناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم ، فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائمًا مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر.
ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم ، وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الكسبي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ، ولا يصلح لهذا العلم إلا القوة الناطقة وهي قوة التفكير التي من أجلى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها (4) .
المراد من القصة الكريمة:
وعلى ما سبق فيكون المراد من هذه القصة هو إظهار مزية نوع الإنسان وأن الله تعالى يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا ؛ لئلا يخلو شئ منها عن فائدة من وجوده في هذا العالمَ ، وإظهار فضيلة المعرفة، وبيان أن العالِم حقيق بتعظيم من حوله إياه ، وإظهار ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد، وبيان أن الاعتراف بالحق من خصال الفضائل الملائكية ، وأن الفساد والحسد والكبر من مذام ذوى العقول (5) .
الهوامش:
---------------------------
(1) السابق 1/412 0
(2) التحرير والتنوير 13 / 56 0
(3) السابق 1 / 407 وما بعدها.
(4) السابق 1/418 وما بعدها0
(5) السابق 1 / 421 وما بعدها 0
|