هذه الآية نزلت تحكى قولاً قاله اليهود ، يكشف عن الغرور الذى ملأ أنفسهم ، فقد زعموا أنهم إذا دخلوا النار ، فإنها لا تمسهم إلا مساً خفيفّا ، وأنهم لن يُخلدوا فيها ، بل يقضون عدة أيام .
وهذا تطاول منهم ، لأن شئون الآخرة لا يعلمها إلا الله .
لذلك كذَّبهم الله ، وألزمهم الحُجة البالغة له عليهم وحصر مصدر هذا الذى ادعوه فى أمرين :
الأول : أن يكون عندهم من الله عهد بما قالوا ، والله لا يخلف عهده ، وهم فى الواقع لا عهد عندهم من الله يحدد فيه مدة مكثهم فى النار ، ودرجة العذاب الذى سيصيبهم فيها .
الثانى :
أو هُمْ يفترون على الله عز وجل ، وماداموا ليس عندهم عهد من الله ، فهم - إذاً - كاذبون والذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون .
أما مسألة الكثرة والقلة ، التى بنى عليها هؤلاء الكارهون لما أنزل الله على خاتم رسله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا اعتبار لها هنا ، وهم وإن حفظوا شيئاً فقد غابت عنهم أشياء . ولذلك أوقعهم جهلهم فيما حاولوا أن يفروا منه ؛ لأنهم قالوا إن معدودة ، جمع كثرة ، واستعمال جمع الكثرة - هنا - خطأ ؟ ؛ لأن اليهود أرادوا جمع القلة - أى أنهم يمكثون فى النار أياماً قليلة . فجاء تعبير القرآن غير وافٍ بالمعنى الذى كانوا يقصدونه ، وكان الواجب على القرآن أن يقول : أياماً معدودات ، بدلاً من ( أياماً معدودة ) هذا هو قولهم ، وهو محض الخطأ لو كانوا يعلمون وذلك للاعتبارات الآتية :
فأولاً : لأن " معدودة " ليست جمعاً بل مفردًا ، ليست جمع كثرة ولا جمع قلة .
وهؤلاء " العباقرة " جعلوها جمع كثرة ، بسبب جهلهم باللغة العربية ، لغة الإعجاز .
وثانياً : أن " معدودات " التى يقولون إنها الصواب وكان حق القرآن أن يعبر بها بدلاً من " معدودة " ظانين أن " معدودات " جمع قلة . وهى ليست جمع قلة كما توهموا ، فهى على وزن " مفعولات " وهذا الوزن ليس من أوزان جموع القلة (2) بل من أوزان جموع الكثرة ولا ينفعهم قولهم إن اليهود أرادوا القلة ، لأن هذه القلة يدل عليها سياق الكلام لا المفردات المستعملة فى التركيب .
وثالثاً : إن هذا التعبير لا ينظر فيه إلى جانب قلة أو كثرة ، ولكن ينظر فيه من جانب آخر ليس عند هؤلاء الأدعياء شرف الاتصاف به ؛ لأنهم دخلاء على لغة الإعجاز والتنزيل .
هذا الجانب هو : معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته (3) .
ووصف الأيام بـ " معدودة " فى ما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها ، لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذى لغير العقلاء ، وما جاء على الأصل فلا يسأل عنه ، ولكنهم لجهلهم المركب بلغة الإعجاز حسبوا الصواب خطأ ، والخطأ صواباً . لأنهم زجوا بأنفسهم فيما لا ناقة لهم فيه ولا جمل .
أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل ، فلها دواعٍ بلاغية لا يعرف عنها مثيرو هذه الشبهات كثيراً ولا قليلاً .
وهى فى النظم القرآنى من الكثرة بمكان ، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل لداع بلاغى يقتضى ذلك التنزيل .
وإذا كان القرآن قد عبَّر فى وصف " أياماً " فى آية البقرة هذه بـ " معدودة " وهو وصف غير العاقل جارٍ على الأصل ، فإنه عبَّر عن وصفها بـ " معدودات " فى موضع آخر ، هو قوله تعالى :
( ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون ) (4) .
فكان ينبغى أن يسأل هؤلاء عن اختلاف التعبير فى الموضعين بدل أن يخطِّئوا الصواب وهم جاهلون . وها نحن نضع بين أيديهم الحق ناصع البياض .
فى آية البقرة جاء وصف " أياماً " - " معدودة " بصيغة الإفراد ، وليس جمع كثرة كما زعموا .
وفى آية آل عمران جاء وصف " أياماً " - " معدودات " جمعاً لا إفراداً .
فلماذا - إذاً - اختلفت صيغة الوصف ، والموصوف واحد ، هو " أياماً " ؟
إذا قارنَّا بين الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز هكذا :
" وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة . . " .
ووجدنا آية آل عمران مبنية على الإطناب هكذا :
" ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات " .
وازن بين صدر آية البقرة " وقالوا " .
وبين صدر آية آل عمران " ذلك بأنهم قالوا " .
تجد أن جملة " ذلك بأنهم " هذه العبارة اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، الرابط بين الكلامين السابق عليه ، واللاحق به .
ثم تجد " الباء " الداخلة على " إن " فى " بأنهم " .
ثم " إن " التى تفيد التوكيد ، ثم ضمير الجماعة " هم " .
هذه الأدوات لم يقابلها فى آية البقرة ، إلا واو العطف " وقالوا " إذاً المقامان مختلفان ، أحدهما إيجاز ، والثانى إطناب .
وهذا يبين بكل قوة ووضوح لماذا كان " معدودة " . فى آية البقرة ؟ و " معدودات " فى آية آل عمران ؟
كان وصف " أياماً " فى آية البقرة " معدودة " لأن المقام فيها مقام إيجاز كما تقدم فناسب هذا المقام الإيجازى أن يكون الوصف موجزاً هكذا " معدودة ".
وكان الوصف فى آية آل عمران مطنباً " معدودات " بزيادة " الألف " ليناسب مقام الآية الإطنابى كما تقدم (5) .
فانظر إلى هذه الدقائق واللطائف البيانية المعجزة التى عميت عنها مدارك " الخواجات " المتعالمين .
الهوامش:
----------------------------
(1) البقرة : 80 .
(2) أوزان جموع القلة هى : فِعْلَة ـ أفْعَال ـ أفعُل ـ أفْعِلَة .
(3) غير العاقل هو ماعدا الإنسان من مخلوقات الله الأرضية .
(4) آل عمران : 24 .
(5) انظر : ملاك التأويل ، القاطع لذوى الإلحاد والتعطيل فى توجيه المتشابه من آى التنزيل ( 1 / 281 ) للعلامة أحمد بن الزبير القرناطى . دار النهضة العربية .
|